قَبَسَتْ تظاهرات 2019 التي عمّت بغداد ومحافظات الجنوب، ثلاثة تمثيلاتٍ لها، تتصل بفواعل حدثت داخل موجة الربيع العربي في 2011.
أشباه ونظائر
الأولى: ما كانَ من تناظُرٍ في الصورة بين محمد بوعزيزي في تونُس ووسام نور الجعيفري في محافظة واسط العراقية. فبوعزيزي أحرقَ نفسه احتجاجاً على تدمير مصدر رزقه الوحيد (عربة الخضار) وإهانته من قبل شرطية، والجعيفري أحرقَ نفسه غضباً على إزالة مصدر رزقه الوحيد (البَسْطيّة) التي جاءت تتويجاً لمسيرة البؤس التي قاساها، ولاسيما بعد تعرُّضه للاعتقال ثلاث مرات في طريق المجاهدة للفوز بلقمة عيش حلال، لإقامةِ أوْدِ أسرته المكونة من زوجةٍ وثلاثة أطفال.
الثانية: ما كانَ من تشابُه في رفع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، وهو الشعار الذي رفعه الشارع العربي في سلسلة الاحتجاجات التي اندلعت ضد أنظمة الحكم القمعية في البلاد العربية التي لم تتجهّز مجتمعاتها بعدُ ليكون هناك بديلٌ إذا ما تفسخ النظام القمعي إلى إسلام سياسي وعسكر. وفي الحالة العراقية لم يُولَدْ بعدُ ذلك البديل النوعي حين تفسخ النظام القمعي إلى "عملية سياسية جارية" تُظهر الديمقراطية شكلاً، وتُضْمر في أحشائها مخالب الدولة العميقة التي تختطف مقدرات البلاد والعباد بواسطة نار المدارات العقائدية، وحديد الطائفية السياسية المُسلّحة.
اختار الشباب في العراق أن يطردوا الشيوخ من قيادة موجة التظاهرات، كما طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته الفاضلة. وفي ذلك محنة، وأيّة محنة!
الثالثة: ما كانَ من تماثُلٍ بين ما قاله الرئيس التونسي زين العابدين بن علي للتوانسة، بعد زيارته الشاب المحترق محمد بوعزيزي في مستشفى الحروق: "لقد فهمتكم"، وبين ما قاله رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي لشباب الساحات بعد تقتيلهم بالرصاص الحي، وإطلاقات القناصين الغامضة، والماء الحار، والغاز المُدمِع: (أنا شابٌّ مثلكم.. أفهم ما تريدون). وقد أدى فهم الرئيس التونسي به إلى الرحيل، وأدى فهم رئيس البرلمان العراقي – صديق الشباب – إلى البقاء، في سُدّة واحدة من الرئاسات الثلاث التي تدير عراقاً اتحادياً برلمانياً، كما يُفتَرض.
الشبه والتناظر بين الحالتين، العراقية والتونسية، يجعل وسيلة التعبير من أجل واقع أفضل صادرةً من منظومة تفكير قائمة وموحدة، على الرغم من وجود فروق بين بلد وآخر من حيث المحركات التقنية للاحتجاج، ونوع المظالم المتراكمة. ويُبيّن شعار الشاب العراقي "نازل آخذ حقي" وهو الشعار الجامع لبقية الشعارات الفرعية ومظلتها، أفق الاغتراب القيمي والمادي الذي كرّسته الطبقة السياسية بعد 2003، التي لم تلتفت بجدية إلى خراب الهيئتين الاجتماعية، والقانونية في العراق. بل مضت القوى السياسية تعمل بتقنية التجربة والفشل ثم التجربة والفشل، إلى أن امتلأت المضارب العراقية بمؤسسات التشرذم والفساد، وتم ركن العمل من أجل إنتاج الدولة، جانباً، وبعيداً..
جمهورية الشباب
اختار الشباب في العراق أن يطردوا الشيوخ من قيادة موجة التظاهرات، كما طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته الفاضلة. وفي ذلك محنة، وأيّة محنة!
وفي المحنة، أنّ أيديولوجيا اليأس التي تغلي في نفوس الشباب تمثل "التهاباً صامتاً" تشكّل بفعل سلسلة فعاليات الاحتجاج التي حدثت في العراق منذ 2003، وشارك فيها الشباب أنفسهم، أو أخوتهم الأكبر سناً، وشاهدوا وعايشوا دزينة من راكبي الأمواج بشتى تمظهراتهم، والذين كانت لهم مهمة واحدة تتمثل بالحصول على المنافع الشخصية، والامتيازات الحزبية، وبالتالي إخصاء وكبح جموح الشباب، وتفريغ الاحتجاج، والحيلولة دون تغذيته بالنضج والتقدم والحيوية.
وفي المحنة أيضاً، أن أيديولوجيا الكبار كانت على الدوام مترهلة بالكثير من بلاغة الشعارات، التي خرّبت مسارات الصراع وحرفتها صوب مكاسبها الأنانية من غنائم المحاصصة، حتى وإن لهج الكبار برفض المحاصصة، إلا أنهم في نهاية مطاف الاحتجاج ظهروا لنا نجوماً يُلقون بتأويلاتهم في وسائل الإعلام حول تظاهرات الشباب من حضن الدولة العميقة.. فما كان من شباب تظاهرات تشرين الأول/ أكتوبر الحالي إلا أن يتوكّلوا على وقود أيديولوجيا اليأس لبناء طرق مضادة يحتجون فيها على نماذج الاحتجاجات السابقة وراكبيها من جهة، وينتحرون برمي زفير مطالبهم بوجه الدولة العميقة وذخيرتها الحية من جهة أخرى.
سقط الكثير من الشهداء والجرحى من شبابنا، الذين كانوا في مشهد "موت مُعلَن" ومُروّع من خلال أمواج الصور ومقاطع الفيديو المؤلمة، ومنحوا صورة فداء ستظل في الأذهان من خلال إصرارهم على مواجهة الرصاص، والاعتقالات، وشتى مفاتن السلطة، فما أن تُقيد هذه ساحة حتى تنبثق ساحات أخرى بالحشود الغاضبة.
وأيضاً وفي أمر المنحة، فقد سقط الكثير من الشهداء والجرحى من شبابنا، الذين كانوا في مشهد "موت مُعلَن" ومُروّع من خلال أمواج الصور ومقاطع الفيديو المؤلمة، ومنحوا البلاد صورة فداء ستظل في الأذهان من خلال إصرارهم على مواجهة الرصاص، والاعتقالات، وشتى مفاتن السلطة. وهذه، فما أن تُقيد ساحة حتى تنبثق ساحات أخرى بالحشود الغاضبة. وفي المنحة أيضاً أنّ أيديولوجيا اليأس العارمة قوّضت المفهوم التقليدي لرمزية الاحتجاج في ساحة تستمزج الحضور الثقافي والسياسي من خلال التماثيل والنُّصُ، لأن الغضب العارم مُترَعٌ ببلاغته الجارفة، فإنْ لم تسعْهُ ساحة التحرير المُزيّنة بنصب جواد سليم، فسيبحث عن ساحةٍ أخرى أو زقاق يردد فيه الهتافات، وهو يستظل بغيمة القنابل الدخانية، ويناور أعين القناصين على سطوح البنايات الخائنة.
وأن يكون الشباب اليائس بلا قيادة، فإن في ذلك ما يمكن أن يؤدي به إلى مسارب خطرة. فتوحيد الشعارات والمطالب سبيل من سبل نجاحها. إلا أنّ هذه النصيحة فات أوانها، وسيعتبرها الشباب بطراً لا يُوازي ما هم فيه من يأس وانسداد أفق، ولاسيما أنهم جربوا الخلاص من بلد لا يحترمهم بالهجرة العشوائية على ظهر القوارب المطاطية، فنجا من نجا وخاب من خاب.. كما أن شباب التظاهرات لا بد أنه لا تغريهم قلائد الأسطرة من أنهم "جيل جديد" وأنهم "باحثون عن مستقبل يليق بهم" وما إلى ذلك من نفايات وسائل الإعلام وسخونة مواقع التواصل الاجتماعي.. إنهم جيل يائس.. وهذا كافٍ لمتظاهرينا الشباب!
أنثربولوجيا التهدئة
كان من الغريب حقاً أنّ التظاهرات العراقية، تمّت شيطنتها قبل اندلاعها، وخصوصاً تلك التحذيرات التي تحدثت عن حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وتجمعات الكترونية لشباب يدردشون بأمر حاضرهم ومُستقبلهم.. لقد حدث هذا في تونس، ومصر، والسودان على اختلاف الدواعي والمآلات. وخصوصاً أنّ تلك التحذيرات كانت قد صدرت عن أجنحة محسوبة على ملاك الدولة العميقة، وليس على ملاك الأجهزة الحكومية.
وفي نمط الاحتجاجات ذات الأمواج المركوبة، والاحتجاجات الحالية المُضرّجة بالرصاص الحي كانت دعوات التهدئة، وما زالت حاضرة... والغريب أنّه اليوم بات لدينا تاريخ من دعوات تهدئة الشارع العراقي، وهذه الدعوات لم تتجاوز نفسها لتطالب أو تدعو، فتنتقل من التهدئة إلى المعالجة!
أيديولوجيا اليأس العارم قوّضت المفهوم التقليدي لرمزية الاحتجاج في ساحة تستمزج الحضور الثقافي والسياسي من خلال التماثيل والنُّصُب. فالغضب العارم مُترَعٌ ببلاغته الجارفة، فإنْ لم تسعْهُ ساحة التحرير المُزيّنة بنصب جواد سليم، فسيبحث عن ساحةٍ أخرى أو زقاق يردد فيه الهتافات، وهو يستظل بغيمة القنابل الدخانية، ويناور أعين القناصين على سطوح البنايات الخائنة.
في موازاة ذلك، كان لشعارات المتظاهرين أصداء متباينة، بسبب إنتاجها خطابات مختلفة. ومن الأصداء الحكومية على لسان رئيس الوزراء عادل عبد المهدي أن شعار "إسقاط النظام" غير دستوري ويُعاقب عليه القانون.. هذا الشعار الذي رُفع في تونس زين العابدين، وليبيا القذافي، وسوريا الأسد، وجزائر بوتفليقة، ومصر مبارك، وسودان البشير.. في حين أنّ العراق البرلماني الاتحادي انزعج من هذا الشعار لشُبهة التشبيه بينه، وبين الأنظمة القمعية لتلك البلدان التي ما زال جزء منها يجرب حظه في الانتقال إلى واقع مُغاير. إلا أن أيديولوجيا اليائس صعّدت هذا الشعار لإحساسها اليومي منذ 2003 أنْ لا شيء تغيّر، بل أن الخطوط الحمر قد زادت، ووسائل القمع تنضح من بقايا النظام القديم داخل ديمقراطيتنا القشرية.
أما شعار "نريد وطن" فقد حرّك مجتمعات الجاليات العراقية في المنافي والمهاجر، ودفعها لتنظيم وقفات تضامن، على غرار ما كانت تفعل خطوط المعارضة أيام صدام، للمطالبة بوطن يحترم الحريات السياسية والاجتماعية، ويُغري أهلنا العراقيين في بلاد التغرب والشتات لسنوات طويلة بالعودة وخلع عباءة الضيف، للتمتع بإحساس المواطنة.
ويذهب شعار "نازل آخذ حقي" إلى الاحتجاج على سوء توزيع الثروة، التي أفرزت طبقة من المنتفعين، وزبائن تهريب العملة إلى الخارج، وترك العراق الغني بموارده الطبيعية والبشرية نهباً لمزاج السلاح الذي يسرح ويمرح خارج إطار الدولة.
أما شعار "كافي بعد، ملّينا" فهو واسطة عقْد حشود اليائسين الشباب الذين يحلمون بعودة العراق الضال إلى ذخيرته في التنوع، والتعددية، والتوهُّج.. ولكن!