العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها لأفكارهم. حقّروهم ووبّخوهم. لم يعتقد أحدٌ بأن هؤلاء "العوام" يمكنهم القيام بما قاموا به، وأنّهم باستطاعتهم تشخيص العلّة الأساسية التي يعاني منها العراق: فساد النظام، وعدم قدرته على الاستمرار.
2019-10-22

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
تصميم: أحمد فلاح

بعد أن ضرب النظام السياسي الجديد أطنابه في العراق عقب الاحتلال الأمريكي عام 2003، دأب على استخدام مفردة "التغيير" كبديل للنظام السابق وللاحتلال اللاحق. هكذا بات "التغيير" شعار كل دورة برلمانيّة جديدة أتت لإلغاء سابقتها الغارقة في الفشل، ما أدى إلى تحوير معنى مفردة "تغيير" وتحويلها إلى شيء هُلامي، تُطوّعه الأحزاب السياسية العراقية كيفما شاءت وكل على طريقته. عكفت هذه الأحزاب على التلويح المفرط بـ"التغيير" كهدف ووسيلة من على منابرها السياسية والإعلامية والدينية، بيد أن التغيير في نهاية الأمر ظلّ بلا أي شكل لغاية مطلع شهر تشرين الأول / أكتوبر الماضي، ليفرض جيل الشباب المولود في مطلع الألفية الثالثة معنى جديداً لكلمة "التغيير" من خلال تظاهراتهم ومطالبها. ليست الاحتجاجات التي يشهدها العراق الآن حدثاً منفصلاً عن الحركات الاحتجاجية التي شهدها في السنوات الأخيرة، لكن هذه الأخيرة شهدت خلافاً لسابقاتها عنفاً وقمعاً أسفر عن عدد مهول من الضحايا في غضون أيام، نهجٌ كانت قد أرسيت جذوره في تظاهرات البصرة تحديداً في العام الماضي. كما أن الاحتجاجات الحالية انبثقت عفوية وشابة بامتياز، مدفوعة باليأس الذي أنتجه نقص الخدمات وغياب العدالة وسلطة القانون وانفلات الأمن، فيما الفساد يتصاعد إلى معدلات لم يشهد أي بلد مثيل لها. كل شيء متآكل، الدولة والاقتصاد والأمن والحقوق والحريّات. كيف إذاً نقرأ "التغيير" بأعين الشباب العراقي المحتج وفهمه لعلاقته بالدولة منذ 2003؟

(1)

ليس بالإمكان قراءة الاحتجاجات الحالية وعنف الدولة غير المسبوق ضد المتظاهرين بمعزل عن غليان الشارع العراقي، ومقاطعته للانتخابات البرلمانية عام 2018، في محاولة لنزع الشرعيّة عن النظام وعمّا انبثق عن هذه الانتخابات تحديداً. إذ سارعت أحزاب السلطة بعد ظهور نتائج الانتخابات العام الماضي، إلى عقد تحالف سريع لم يحدّد الكتلة الأكبر في البرلمان (بمخالفة دستورية واضحة!) وأفرز خلطة "تغيير" عجيبة لتسلّم الرئاسات: برهم صالح رئيساً للجمهورية، وعادل عبد المهدي رئيساً لمجلس الوزراء، ومحمد الحلبوسي رئيساً للبرلمان. جرى الترويج لهذه الخلطة بصيغ شتّى. صالح، المعروف بعلاقاته الدوليّة والمنحدر من الاتحاد الوطني الكردستاني والمنشق عنه في الوقت نفسه، حُوِّل إلى مُخلِّصِ مقارنة بسلفه المتهم بالنوم على كرسي الرئاسة رغم كل ما حصل حوله. أما عبد المهدي، الذي ظلّ اسمه طوال الأعوام الماضية يتردّد كمرشح لرئاسة الوزراء دون أن يبلغ المنصب، فقد وصم بأسماءٍ عدّة، أبرزها: التكنوقراط. أما الحلبوسي فليس هناك الكثير ليُحكى عنه، لكنه شاب، فجرى ضربه كمثالٍ على تحوّل فكر الأحزاب المهيمنة على السلطة في منح فرصة للشباب لتولّي المناصب القيادية!

صالح وعبد المهدي حلما بمنصبيهما طويلاً: كردية الأول وشيعية الثاني، وتحدّرهما من الأحزاب السياسية البارزة، أضفت على حلمهما شرعية ما مستمدة من نظام المحاصصة المعمول به في العراق. لكنهما لطالما كانا من الخطّ الثاني في الأوساط السياسية، يُسمح لهما بالتفاوض، وبتقلّد مناصب كبيرة، لكن ليس بالحلول في منصبي رئاسة الجمهورية أو الوزراء. بيد أن "التغيير" من الداخل يحصل أحياناً!

يشترك كل من صالح وعبد المهدي بعلاقات وطيدة بالأوساط الثقافية والإعلامية، الأول يمتلك عدداً من المؤسسات الإعلامية الكردية، ويقيم سنوياً مؤتمراً كبيراً في الجامعة الأميركية في السليمانية، يدعو إليه عشرات الكتّاب والأكاديميين وهو بذلك يُشغّل عدداً من الصحافيين. الثاني يمتلك صحيفة بسيطة، لكن لديه جلسات في منزله يديرها، ويدعو إليها الكتّاب والصحافيين أو "النخبة" - على ما يحب تسميتهم - لـ"الاستئناس برأيهم"، وقد أكمل هذه الجلسات، بصيغة أخرى، بعد تسلّمه منصبه.

ليس غريباً والحال هذه أن يتم مديحهما من الكثيرين، ولاسيما أنهما أيضاً متحدثان جيدان، وثقافتهما وتعليمهما جيد.

نتيجة لصغر سنّه، ليس لمحمد الحلبوسي ما لغيره في الرئاسات الثلاث. لا يزال رئيس البرلمان شاباً، لم يقضِ دورته الأولى كنائب، فقد تسلّم قبل نهايتها منصب محافظ الأنبار. هو مقاول، يعرف جيداً كيف يعقد الصفقات، وأخذ هذه "الموهبة" إلى السياسة. يعتني به آل الكربولي، الذين يمتلكون قناة فضائية مؤثرة، فضلاً عن التأثير على عدد من الصحافيين والقنوات الإعلامية العراقية والعربية.

الاثنان الأكثر طمعاً في تبوّء منصبيهما هما برهم صالح وعبد المهدي. خرج الأول منشقاً من الاتحاد الوطني الكردستاني بسبب الخلاف على المناصب داخله، وعاد إليه مجدداً بعد أن أتم صفقة تسلّمه منصب رئيس الجمهورية. عبد المهدي، بدوره، بدا مترفعاً على المنصب قبل أشهر قليلة من ترشيحه: "رئاسة الوزراء.. عذراً، الشروط غير متوفرة". كتب مقالاً ردّاً على ترشيح تمناه أو توهّمه. وفجأة، وكأن الشروط صارت متوفرة، قَبِل المنصب. يطمع آل الكربولي، محمد وجمال، برئاسة البرلمان، لكن خلافاتهما السياسية تجعل المنصب بعيد المنال عنهما. بينما كان الحلبوسي جاهزاً وطموحاً، فجيء به.

كل شيء متآكل في العراق، الدولة والاقتصاد والأمن والحقوق والحريّات. هذه قراءة للحدث بأعين الشباب العراقي المحتج. وأولها أن الاحتجاجات الحالية وعنف الدولة غير المسبوق ضدها، لا يمكن قراءتهما بمعزل عن غليان الشارع ومقاطعته للانتخابات البرلمانية عام 2018، في محاولة منه لنزع الشرعيّة عن النظام وعمّا انبثق عن هذه الانتخابات تحديداً.

ليست الاحتجاجات التي يشهدها العراق الآن حدثاً منفصلاً عن الحركات الاحتجاجية التي شهدها في السنوات الأخيرة، لكن وخلافاً لسابقاتها، فهي تشهد اليوم عنفاً وقمعاً أسفر عن عدد مهول من الضحايا في غضون أيام، وهو نهجٌ كانت قد أرسيت جذوره في تظاهرات البصرة تحديداً في العام الماضي.

هؤلاء الثلاثة كانوا مثال "التغيير" في عراق ما بعد "داعش"، كما كان إياد علاوي مثال "التغيير" لعراق ما بعد صدّام. وحيدر العبادي مثال "التغيير" لعراق ما بعد المالكي. عراق الـ"ما بعد"، على أي حال، هو عراق ال"ما قبل" ذاته. دائرة المصطلحات تدور، ودائرة الأزمات تسابقها.

وبمعيّة عدد من الكتّاب والأكاديميين، وبتمويل من الأحزاب التي رفعتهم إلى السلطة، صار لدى كل من هؤلاء الثلاثة ما يصطلح عليه في العراق بـ"الجيش الالكتروني". روّجت هذه الجيوش على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي وسائل الإعلام لهدوء عبد المهدي ورجاحة عقله في التعامل مع المسائل الشائكة، ولذكاء صالح في اللعب الإقليمي، ولضبط الحلبوسي للبرلمان ومشاريعه. كان هؤلاء على مواقع التواصل وبعض وسائل الإعلام أبطال ومصلحين، واستُشرف لمستقبلهم في السلطة إنجازات ستسدّ عين الشمس.

لكن، وعلى أرض الواقع، كانت هذه الخلطة تثير حنق العراقيين، ولاسيما أن أفعالها هباء وقبض ريح. وبالنسبة للكثير من المتظاهرين، فهم لم يغفلوا بأن عدداً من "المثقفين" كانوا عنصراً سانداً لهذه الخلطة، وعليه فقد أدانهم الشباب على صمتهم أو تواطئهم مع السلطة.

(2)

في الوقع، كان الرؤساء الثلاثة الحلقة الأضعف في نظام تديره أحزاب زبائنية. فنتيجة لعدم وجود مقاعد برلمانية تحميهم في مناصبهم، وافقَ كل منهم على تنفيذ ما تطلبه الأحزاب، أو بصورة أدّق: ما يمُلى عليه. عبد المهدي شكّل حكومة فرضتها عليه الكتل السياسية، وعيّن حتّى إدارة مكتبه تحت هذه الضغوط. صالح ظل يتخبّط بين أجندات الأحزاب الكردية وشروط بغداد وأربيل في الوصول إلى اتفاق يحسم الخلافات بين الطرفين على الموازنة والحدود والأمن، إضافة إلى طموحه السلطوي العتيد الذي دفعه في كل لقاء دولي إلى كيل وعودٍ لا يسمح له منصبه، قانونياً، بالشروع بتنفيذها. الحلبوسي راوح في محاباة الأحزاب السنية والشيعية وإيجاد ثغرات لتمرير القوانين التي تتيح نهب المال العام، وفرض السيطرة على المجتمع (منها، مثلاً، قانون حرية التعبير).

بدا واضحاً أن لا أحد من هؤلاء باستطاعته تخفيف احتقان العراقيين، والتعامل مع الغضب واليأس وانعدام الأفق و- طبعاً - الخدمات. اتسعت دائرة الغضب لتطال هذه المرة، شرائح أوسع من العراقيين، وأبعد من الدائرة المعتادة، إذ لم يكن هؤلاء من نخبة الصحافيين أو الكتّاب أو الفنانين أو حتّى الناشطين الذين قادوا تظاهرات 2011، ولا هم شيوعيون أو من اتباع مقتدى الصدر الذين قادوا، ولو بشكل متأخر، تظاهرات 2015. لقد كانوا هذه المرة هؤلاء الشباب الذين لطالما حظوا بسخريّة مهولة بسبب لهجاتهم وملابسهم "الغريبة" وقصّات شعرهم وحبهم إظهار كل هذا أمام الكاميرات والفيديوهات. هؤلاء بغالبيتهم ضعيفو التعليم ولا تجمعهم أيّة إيديولوجيا: هم في آن واحد متحررون وعشائريون، ملاحدة ومتدينون، تقدميون ورجعيون. لكن مشاعر جمّة تجمعهم: اليأس والظلم والغضب. وهذه وصفة كافية لتحريك الجماهير عفوياً بمعزل عن إرادة أي قوى سياسية أو نقابية (بحسب ما أكدته روزا لوكسمبورغ أكثر من مرّة).

ولد هذا الجيل العراقي بين نهاية عقد الثمانينات الفائت ومطلع الألفية. لا يتذكّر من نظام صدّام حسين شيئاً، فهو لم يعش تحت سلطته. تربّى وسط أزمات وحروب وفساد. كبر ووعى على طبقة سياسية لا تتغيّر. هي ذاتها الطبقة التي تتبادل على مدار أكثر من عقد ونصف المناصب نفسها، مفرِّغة إياها من فحواها ومن نجاعتها في إحداث تغيير حقيقي. تتضخم أموالها وأرصدتها وحاشيتها بينما الفقر يتفشى والأمل ينحسر بين أبناء هذا الجيل الذي شاهد على شاشات التلفاز والهواتف المحمولة أجيالاً، في دول أخرى، تمارس حياتها بكرامة. شاهد مدناً تتطور بحيزها العام واقتصادها والتكنولوجيا المتاحة في كل مكان، بينما حظرَ عليه البرلمان حتى الألعاب الالكترونية، ناهيك عن محدودية الإنترنت. يرى أقرانه في دول أوروبية يتظاهرون من أجل حماية المناخ وحقوق الحيوان، بينما هو عاطل عن العمل ويسكن الخرائب، وينقطع عنه التيّار الكهربائي لساعات طوال، ويشحُّ عنه ماء الشرب، وتنحسر تحت أقدامه الطُرق المعبّدة وتضيق المستشفيات بأمراض أهله.

لطالما حظي هؤلاء الشباب بسخريّة مهولة بسبب لهجاتهم وملابسهم "الغريبة" وقصّات شعرهم وحبهم إظهار كل هذا أمام الكاميرات وفي الفيديوهات. هؤلاء بغالبيتهم ضعيفو التعليم ولا تجمعهم أيّة إيديولوجيا: هم في آن واحد متحررون وعشائريون، ملاحدة ومتدينون، تقدميون ورجعيون. لكن مشاعر جمّة تجمعهم: اليأس والظلم والغضب. وهذه وصفة كافية لتحريك الجماهير عفوياً.

بدا هذا الجيل وكأنّه يعيش في فجوة زمنية عن كل العالم. لا شيء يحصل في العراق سوى تسمين غول اليأس. لا شيء يشي بمستقبل أقلّ وطأة. كلام "الجيوش الالكترونية" عن الأمل سرعان ما يتبدّد عندما ينظر هذا الجيل إلى سقف منزله، أو شارعه، أو حتّى إلى ملامح وجهه المنهكة في المرآة.

ولقد فعل هذا الجيل كلَّ ما يمكن فعله لتحسين حياته، درس الكثير من أبنائه في الجامعات وتخرّج ولم يجد وظيفة، وجلس على الدكّة نفسها التي ترك أقرانه الدراسة لأجلها للعمل في أي عمل سريع يدّرُ عليه مالاً. تطوّع لقتال "داعش" عندما تهاوى كلّ شيء. خرج في التظاهرات لأنه صدّق بأن هناك أملاً، وقاطع الانتخابات لأنه أدرك بأن لا أمل منها. هو ذاته الجيل الذي صدّق وآمن بالوعود ثم ما لبث أن نفر منها حينما تيقّن هشاشتها.

لم يكن دافع هذا الجيل في كلّ احتجاجاته سوى بعث مساحة معقولة للعيش، وإن بدا ذلك ضرباً من وهم. وكذلك اندفع إلى الشوارع منتفضاً متمسكاً بخيط أمل واهٍ لتغيير أحواله. بيد أنه سرعان ما قوبل بقمع مهول، ما حدا بالكثيرين للإقبال على حتفهم تحت وابل الرصاص ونواظير القناصات الدقيقة بما يشبه الانتحار الجماعي. كأنما كان الموت بنيران السلطة بديلاً عن خيار الانتحار الفردي الذي سجّل في صفوف هذا الجيل أكثر من مئتي حالة العام الماضي لوحده!

(3)

لقد انتصب اليأس شامخاً أمام هذا الجيل والأجيال الأخرى من العراقيين، إذ فرض نفسه كقوّة خارقة لا ينازعها على وجودها أيّ شيء، وإذ به حاضر اليوم كما لم يكن من قبل. وبطبيعة الحال عمّقت الطبقة السياسية التي حكمت العراق لعقد ونيّف هذا الشعور، فعلاً وقولاً. إذ طوال الأعوام التي تلت سقوط نظام صدام حسين والاحتلال الأميركي لبغداد في نيسان / أبريل عام 2003، لم يتوانَ أيّ من رؤوساء الحكومات المتتالية على العراق، في لحظات التخفّف من أخطائهم، عن التذكير بهشاشة النظام القائم - وحتّى استحالة تأهيله - وخلق خطاب الخوف من دمار موشك سيطيح العملية السياسية برمّتها.

كان هذا الخطاب وإسقاطاته من صنع إياد علاوي في الأعوام التي شهدت تماهيه مع سياسات الاحتلال، ووقوفه بالضدّ من مقاومة راديكالية لأهدافه. ثم تلاه إبراهيم الجعفري بالنهج ذاته عند اندلاع الاقتتال الأهلي. وكرره نوري المالكي خلال ولايتين دامتا ثمانية أعوام، وألبسهما عدّة تسميات، وأكثرها تحبباً على فؤاده: "المؤامرة". وأكدّ عليه حيدر العبادي وهو في أشدّ مراحل السياسة قوّة عندما كان العراق يجاهد لاستعادة أراضيه من تنظيم الدولة الإسلامية، "داعش"، وأعاد تأكيده في أشد مراحل ضعفه عندما سُحب حلم الولاية الثانية من تحته بهدوء، ومن قبل أحلافه.

بدا الجيل الشاب وكأنّه يعيش في فجوة زمنية عن كل العالم. لا شيء يحصل في العراق سوى تسمين غول اليأس. لا شيء يشي بمستقبل أقلّ وطأة. كلام "الجيوش الالكترونية" عن الأمل سرعان ما يتبدّد عندما ينظر هذا الجيل إلى سقف منزله، أو شارعه، أو حتّى إلى ملامح وجهه المنهكة في المرآة.

ومع ظهور نتائج الانتخابات البرلمانية عام 2018، بدا واضحاً صعوبة الاستمرار في إدامة النظام السياسي في ظلّ الفساد المتفشي، وجرتّ لأوّل مرّة مكاشفة على شاشات التلفاز عن الفساد، وعليه سميّت وزارة عبد المهدي بـ"حكومة الفرصة الأخيرة". غير أنه اتضح أن "الفرصة الأخيرة" ليس مصطلحاً لتغيير مسار العمل السياسي وإصلاح الواقع، وإنما لتأبيد هذا النظام بما هو عليه، وبأيّة طريقة كانت، حتّى لو سالت دماء العراقيين أنهاراً على الشوارع.

وفور تسلّمه منصبه حظي عادل عبد المهدي بتعابير إطراء كبيرة. أكد البعض أنه مطابق للحظة "الفرصة الأخيرة"، وأردف آخرون بأنّه لن يضيّعها، بل بشّروا بأنه سيولد في عهده عصر نهضة عراقي بعد سنوات من تراكم الفشل. انطلق هؤلاء من "صداقتهم" لعبد المهدي، إضافة إلى التدليل على مقالاته التي كان ينتقد بها ما راكمته الحكومات السابقة من أخطاء. صُنّف عبد المهدي على أنه واحد من "النخبة"، وقد سعد بذلك أيّما سعادة، حتّى أنه فتح أبوابه للصحافيين والأكاديميين ليحاورهم على الشاشة وليس في المجالس الخاصة فحسب.

لكن حكومة "الفرصة الأخيرة" جاءت لتركّز السلطة بيد فئة محدّدة هي فئة السلطة الأوليغارشية والمقاولين المتعاونين معها. بالمقابل، عامل عبد المهدي الفقراء والطبقات غير المتعلّمة باحتقار. لم يجرؤ أحد من سابقيه على هدم المنازل العشوائية مثلما فعلت حكومته، ولم يتورّط أحد بحملات "تنظيف الشوارع" من البسطات كما فعل. بطش بهؤلاء الفقراء، في حين انبرت فئة من "النخبة" للدفاع عنه وعن أفعاله. كانت هذه السياسة تعالياً واضحاً على هذه الفئات المهمشة. وفيما كانت أسنان البلدوزرات تفتك بعظام البيوت العشوائية المنخورة مشرِّدة قاطنيها، كانت أعمدة صحافية تصفّق في صبيحة اليوم التالي لهذه الأفعال، بكلمات مجلجلة، بينما وسائل إعلام أخرى تصمت وصفحات في مواقع التواصل الاجتماعي تشيح بنظرها.

لم يُسائل أحد عن البدائل لهؤلاء المعدمين في السكن واستحصال لقمة العيش. ما الذي يُجبر أحداً، مثلاً، على السكن في مناطق تجلب الأمراض ولا تتوفّر فيها أبسط الخدمات؟ لم يتساءل أحد عما يجبر أحداً على بيع حاجيات وخضروات على الأرصفة والخرائب في مناخات العراق المتطرفة صيفاً وشتاءً. تمّ الانشغال بإعادة "وجه المُدن" وعصرنتها. لكن المُدن بُنيت لتوفّر كرامة للناس، وليس لهدرها.

عامل عبد المهدي الفقراء والطبقات غير المتعلّمة باحتقار. لم يجرؤ أحد من سابقيه على هدم المنازل العشوائية مثلما فعلت حكومته، ولم يتورّط أحد بحملات "تنظيف الشوارع" من البسطات كما فعل. بطش بهؤلاء الفقراء، في حين انبرت فئة من "النخبة" للدفاع عنه وعن أفعاله.

حاول عبد المهدي عزل هذه الفئات المهمّشة التي لا حياة لها سوى التآلف مع اليأس وانعدام فرص العيش. حاول منح الأوليغارشية ما تريده، ومنح الوعود الفارغة لفئات المجتمع المهمّشة. ولقد شارك عبد المهدي الكثيرين في نظرته. وكانت التظاهرات، حتّى قبل ساعات من انطلاقها، مثال تندّر للسياسيين وغالبية كبيرة من الأجيال الأكبر سنّاً. عومل الشباب على أنّهم قاصرون. ظلّ في الأشهر الأخيرة يُطلق عليهم لفظ "العوام". عوام لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل. عوام يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها لأفكارهم لأنّها تتضمن أخطاء إملائية كبيرة. عوام يُحقّرون ويوبخون على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. لم يعتقد أحد بأن هؤلاء "العوام" يمكنهم القيام بما قاموا به، وأنّهم باستطاعتهم تشخيص العلّة الأساسية التي يعاني منها العراق: فساد النظام، وعدم قدرته على الاستمرار. للمرّة الأولى تجرأ أحد على رفع شعار إسقاط النظام. كان الكل يخاف من هذا الشعار، إلا أنه بعد ذلك جرى الترويج له بشكل أكبر. بعد انتهاء التظاهرات كُتبتْ كلمات اعتذار عديدة لهؤلاء الشبان، لكنها لم تخلوا أيضاً من تحقيرهم!

(4)

خلال ستة أيام من التظاهرات مارست السلطة العراقيّة أبشع أساليب القمع. استعملت فرق قناصين، وأطلقت الرصاص الحي بكثافة، وأخرجت قوّات مكافحة الشغب كل عدّتها وعتادها وأطلقته على المتظاهرين. أُغلقت الطرق، وجرى محاصرة الأحياء بقوّات الجيش، وجرى عزل العراق تماماً عن العالم، إذ حُجبت خدمة الإنترنت، وأُضعفت شبكات الهاتف المحمول، فضلاً عن إغلاق قنوات فضائية، وتهديد بعض الصحافيين. خلال كل هذا سقط في عموم مدن العراق أكثر من مئة قتيل، وأصيب أكثر من ستة آلاف بإصابات متفاوتة. أثناء ما كان يحصل، تناوب عبد المهدي والحلبوسي بالظهور على شاشات التلفاز لكيل الوعود، وللتوسّل للمتظاهرين لمعرفة مطالبهم، لكنهما، في الآن ذاته، لم يمتنعا عن ترهيب المتظاهرين. وأثناء ذلك، فرّ صالح إلى مدينته السليمانية في إقليم كردستان والتزم الصمت، بيد أنه، وبعد أن قتل من قتل وأصيب من أصيب، خرج بخطاب متأسف على ما آلت إليه الأمور لم يخلُ من حركات مسرحية!

طالب الرؤساء الثلاثة، جميعهم، المتظاهرين باحترام الدستور والحفاظ على النظام العام، وطالبوهم أيضاً بتقديم مطالبهم بطرق سلمية وقانونية وحضارية، وحذّروهم من الفوضى والدم. كان عبد المهدي الأكثر وضوحاً: "نحن اليوم بين خياري الدولة واللا دولة"، قال. لكن الدولة على طريقة عبد المهدي ومن معه هي "اللا دولة" بذاتها، لكنّها اللادولة التي تنظّم كل شيء من أجل استمرارها. هي اللادولة التي تقتل، وتعمّق التفرقة على أساس الطوائف والأعراق، من أجل السيطرة أكثر على المجتمع، وهذا يعني ضمناً، وفقاً لجميع تعريفات الدولة، أنها "اللادولة" متحقّقة على أرض الواقع.

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أُطلق عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها لأفكارهم. يُحقّرون ويُوبَّخون. لم يعتقد أحد بأن هؤلاء "العوام" يمكنهم القيام بما قاموا به، وأنّهم باستطاعتهم تشخيص العلّة الأساسية التي يعاني منها العراق: فساد النظام، وعدم قدرته على الاستمرار.

ولدى نظام "اللادولة" هذا، بقوانينه وأحزابه، شهوة مهولة للمال تدفعه إلى الشروع بأي أعمال تدرّ أرباحاً عليه. لقد شاهد العراقيون علاقة عصابات صالات القمار - التي تفتحت كالفطر في المناطق السكنية - بالأحزاب السياسية. ورأى كيف تحمي الميليشيات عصابات المتاجرة بالأعضاء البشرية، والخطف، والسلب، والقتل. ولمس من خلال حياته اليومية كيف أن غالبية الجرائم الكبرى لا تخلو من ارتباط، بطريقة أو بأخرى، بحزب سياسي أو فصيل مسلّح.

الحال، يبقى السؤال هنا عن مشروعية مطالبة السلطات العراقيين تنفيذ القوانين: لماذا يُطلب من العراقي تنفيذ القانون واحترامه بينما السلطات، المسؤولة عن تنفيذه، تتجاوزه كل يوم؟ كيف يؤمن عراقيٌّ بالقانون، بينما يُشاهد ويقرأ عن المتورّطين بالفساد وهم يعيشون محميين كملوك، ويخرجون من القضايا المتورطين بها بالأحكام المخفّفة أو البراءة (ذكّر حيدر العبادي العراقيين بأكبر فاسدين خرجا من السجن أثناء حكم عبد المهدي). لماذا ينفذ العراقي القانون وهو يرى أسلحة الجماعات المسلحة تختطف وتقتل ولا يجرؤ أحد على محاسبتها؟ لماذا ينفذ القانون والمسؤولون أنفسهم يحلون خلافاتهم لدى شيوخ العشائر (وهنا الأمثلة لا تعد)؟ لماذا ينفّذ العراقي القانون، وهو يعيش عدم عدالته على الحواجز الأمنية، إذ يُهان من القوات الأمنية؟ كيف يحترم العراقي القانون والقوّات الأمنية تحتل المرتبة الثانية في سلم القوّة واحتكار العنف (النماذج عديدة على إهانات الميليشيات لشرطة المرور وضباط الداخلية)، لماذا ينفّذ القانون، هو وحده، بينما المتورطون بسقوط الموصل يمارسون مهامهم ويعيدون وجاهتهم على الرغم من تسببهم بواحدة من أكبر المآسي العراقية عندما سقط ثلث مساحة البلاد بيد تنظيم "داعش" في حزيران / يونيو 2014، وشرّد نحو 4 ملايين نازح، وإلى جانبهم آلاف القتلى والأرامل والأيتام؟

الدولة على طريقة عبد المهدي ومن معه هي "اللا دولة" بذاتها، لكنّها اللادولة التي تنظّم كل شيء من أجل استمرارها. هي اللادولة التي تقتل وتعمّق التفرقة على أساس الطوائف والأعراق، من أجل السيطرة أكثر على المجتمع، وهذا يعني ضمناً، وفقاً لجميع تعريفات الدولة، أنها "اللادولة" متحقّقة على أرض الواقع.

وأساساً، القانون ينظّم العلاقة بين أفراد المجتمع، وتكون الدولة مشرفة على تطبيقه، وهذا الأمر يشمل الفاعلين في الدولة طبعاً، بما أنهم أفرادٌ من الجماعة، وليسوا منزّلين من علياء ما.. وكل هذه الأسباب التي وُضع القانون لأجلها لاغية في العراق. فلا يُمكن للقانون واحترام الدولة أن يُطبّقا من طرف واحد.. من طرف الضعيف على الأقّل.

وفي الواقع، حرص المتظاهرون على عدم تأزيم الوضع أكثر من "دولة" عبد المهدي ورفاقه، فعندما أطلق هذا الأخير، بدعم من غالبيّة الأحزاب المشاركة بالسلطة، عمليّة عسكريّة داخل مدينة الصدر المدجّجة بالسلاح، ولاحقت القوّات الأمنية الشباب هناك في الأزقة الضيّقة، وجرحت وقتلت منهم العشرات، كان يمكن، حينها، أن تندلع حربٌ أهليّة بسبب هذه الخطوة. ربما راهنت الأحزاب على هذه الحرب لتبرّر عنفها القاتل أمام العراقيين والعالم. إلا أن سكّان مدينة الصدر، الذين يمتلك أغلبهم أسلحة خفيفة ومتوسطة، ولا يسكت أحّد منهم على ثأر، عضّوا على جراحهم، وانتصروا لمنطق السلم. تحمّلوا الرصاص والهراوات التي كسّرت عظامهم، ولم يقبلوا بالانحدار إلى حرب يتقاتل فيها العراقيون وتتفرّج عليها أحزاب السلطة. لم تحظ هذه الخطوة بأي تحليل، ولم يُمدح الشبان عليها.

(5)

بعد أن قُمعت التظاهرات، وعاد إحساس الانتصار إلى السلطة، وبعد أن شُيّعت الجثامين، وجرّدت حملة اعتقالات جديدة على الناشطين، بعد أن خيّم الحزن على جميع مدن العراق، وبلع الخائبون مرارة اليأس مجدداً، تساءل من يُسمّون أنفسهم "العقلاء" و"العلميين" إذا ما كان المتظاهرون يمتلكون أي تصوّر لحراكهم. نبّه هؤلاء إلى أن أعمار المتظاهرين (تتراوح بين 14 عاماً و30 عاماً) تميل إلى الثورة. وجزم الكثير منهم أن "الثورة الآن" لا تجرّ سوى أنهار من دم. هكذا وببساطة. لكن ما الحل أمامهم؟ حسناً: الصبر وانتظار إصلاح النظام.

وبينما يصبر العراقيون، يشكّل النظام نفسه بقوة، ويُصبح من المستحيل ليس إصلاحه فحسب، وإنما - مسقبلاً - إسقاطه. فقبل أعوام فقط لم يكن النظام يملك قوّة السلاح التي يملكها الآن، بات لدى النظام "الحشد الشعبي"، والفصائل الأخرى المدعومة إيرانياً، وشكّل أخيراً ما سمّاه بـ"قيادة قوات حفظ القانون". وتمتلك معظم هذه القوات مخازن سلاح داخل المناطق السكنية. صار لديه شبكة واسعة من العلاقات الإقليمية التي تؤمّن ديمومته (صرخات تخوين المتظاهرين من إيران، وتغافل الدول الأوروبية مثالاً). لكن قوة السلطة ليست وحدها المرعبة، وإنما أيضاً تحقيرها للمجتمع، وتقسيمها له إلى فئات، ليسهل تصنيف المواطَنة إلى درجات.

في الواقع، بات جليّاً أن هؤلاء الشباب المنتفضين هم من المصنفيّن كمواطنين درجة ثالثة في سلّم المواطنة العراقية. لقد صار بالإمكان تقسيم العراق إلى ثلاث درجات من المواطنة، الأولى هي فئة السياسيين ورجال الأعمال المرتبطين بهم، والثانية هي فئة الموظفين على الملاك الدائم، والثالثة هم الفقراء والكسبة.

لدى نظام "اللادولة" شهوة مهولة للمال. لقد شاهد العراقيون علاقة عصابات صالات القمار - التي تفتحت كالفطر في المناطق السكنية - بالأحزاب السياسية. ورأوا كيف تحمي الميليشيات عصابات المتاجرة بالأعضاء البشرية، والخطف، والسلب، والقتل. ولمسوا من خلال حياتهم اليومية كيف أن غالبية الجرائم الكبرى لا تخلو من ارتباط، بطريقة أو بأخرى، بحزب سياسي أو فصيل مسلّح.

الفئة الأولى تضمن رخاءها من مناصبها، ومن نهب المال العام في المشاريع الوهمية، والثانية التي تمتلك حدّاً أدنى للعيش من خلال المرتبّات الثابتة وتقاعد نهاية الخدمة، وهي مقبولة كفالتها لدى الدولة في حال أرادت الحصول على قرض سكني أو غيره، أما الثالثة فليس لديها أي من ترف الفئة الأولى، ولا امتيازات الفئة الثانية! والمعطيات تشي بأن الفئة الثالثة هي القابلة للتوسّع. النظام الاقتصادي الريعي، واتساع حالات الفساد، وإتخام البيروقراطية، هذا جميعه يؤكد، أن الخطوط البيانية لمواطني الدرجة الثالثة في العراق بارتفاع مستمر، وهذا الارتفاع يفرض شيئاً واحداً مستقبلاً: إما أن تحل معجزة تُصلح الأوضاع، أو أن انفجاراً مرعباً سيحصل.

وفي النهاية، لا شيء أكثر رعباً من الدم، خاصة في بلد مثل العراق يعيش حرباً مستمرة منذ أكثر من أربعة عقود. لكن من يريد الدم ومن أراقه: السلطة التي تنهب كل شيء حتى الأرواح، أم المجتمع الذي يريد "وطناً محترماً" بحسب الشعار الذي رفعه؟

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه