من يؤيد أو على الأقل يوافق على العملية العسكرية التركية في شمال سوريا ومن يعاديها؟ في العلن وفي السر..
يعاديها بالطبع ضحاياها، وهم الأكراد المساكين، الذين، وعبر تاريخ صراعهم الطويل من أجل حقوقهم، لم ينجحوا يوماً في تعيين هذه الحقوق بشكل فعلي! الأمر يصح في تركيا حيث هم كتلة هائلة تناهز ال15 مليوناً، تعرضوا لاضطهاد طويل وتنكيل وإهمال إجتماعي وإقتصادي جعلهم فقراء بائسين، وأُنكرت هناك كل خصائصهم بحيث كانت كلمة "كردي" أو النطق باللغة الكردية تودي بصاحبها الى السجن وربما الى الاعدام، وافتُرض بهم أن عليهم أن يقبلوا بانهم "أتراك الجبال"، هكذا فحسب، أي أن يوافقوا هم أنفسهم على هذا الإنكار، بينما الواقع مليء بالالوان في كل مكان. فثاروا وقاوموا وحملوا السلاح أحياناً، ولكن أفق حركتهم ظل ملتبساً على الدوام. وإن كان يُلتمس لهم عذرٌ في هذا بأنهم واجهوا سلطة لا ترحمهم، ولا تكف عنهم، فهم في العراق (حيث تقدر أعدادهم بحوالي 5 ملايين انسان) كانوا قرة عين الحركة الوطنية العراقية في أيام عزها وقبل أن تتبعثر أو تنحط، وهي بكل مكوناتها – حتى الأشد "عروبية" – قد حملت مطالبهم ودافعت عنها على الدوام، ونالوا اعترافاً صريحاً، رسمياً وشعبياً، وحقوقاً ثمينة وصلت الى "الحكم الذاتي". ولكنهم هنا أيضاً تصرفوا باختلال عجيب. ليس فحسب أنهم أيدوا العدوان الامريكي المتكرر على هذا البلد، وليس فحسب أن بعضهم فكر بالاستقواء باسرائيل، بل هم اندفعوا الى التصويت على "استقلالهم" ففجّوا رؤوسهم وانكفأوا.
وأما حركتهم في ايران فيصعب تبيّنها اليوم، ولكنهم كتلة كبيرة هناك (حولي 7 ملايين). وهناك أُعلنت بشكل عابر "جمهورية مهاباد" في العام 1946 التي، وعلى الرغم من ظرفية منشئها في لحظة صراع دولي، واقتصارها على قيمة "رمزية"، إلا أنها ما زالت موضع اعتداد من قِبلهم.
وهم في سوريا أقل عدداً (لعلهم نصف مليون إنسان)، وقد انكشف مع بدء انهيار الوضع في هذا البلد في العام 2011 أن نصفهم سُحبت جنسيته! وأنهم يناضلون من أجل حقوقهم المدنية. ثم اشتبكت المنطقة ببعضها بعضاً، وتداخلت الحدود والخطوط، وظهر داعش وخلافته الاسلامية في المنطقة الواقعة ما بين العراق وسوريا. وكانت تلك فرصة سانحة لبروز الاكراد، المنظمين والمنضبطين والمتمرسين بالقتال والشجعان، (على الرغم بالطبع من تنوع تياراتهم السياسية والفكرية، وصراعاتها، بل ومن تنوعهم الديني والقبلي وحتى اللغوي)، وأنهم يمكن الاعتماد عليهم كقوة محلية. فكانت "الادارة المدنية" بعد هزيمة داعش التي لهم فضل فيها... فدارت رؤوسهم إذ خطب ودهم الجميع، من مناضلين أمميين من كل الجنسيات وجدوا في تجربتهم تجسيداً لافكار يحملونها، الى الاوروبيين المولعين بالاقليات، والذين يتصرفون دوماً كما لو كانوا منقِذين للبشر (بحسب أهوائهم الانتقائية المتقلبة وليس كموقف ولا كموهبة)، ونالوا على الاخص رضا الامريكان، وهم قديمو عهد بالروس..
وبدا لهم أن كل الشروط توفرت هذه المرة لتمنحهم مِنعة ما. وأن عداء تركيا لهم لا يكفي لدحرهم.. أما عن ماذا، فهو ما لم يكن واضحاً حتى في هذه المرة.
ولكن ليست التضحية بالاكراد و"خيانتهم" مرة جديدة، كما تقول أصوات كثيرة، وخصوصاً في الغرب، هي أهم ما في الحدث، بل هو سؤال أهداف هذا الحدث الاستراتيجية. إذ يبدو أن جمهورية مهاباد 2 تلك (أو "روجافا" هنا) قد كانت فصلاً يمكن محوه أو افتراض تلاشيه حين يتفق "الكبار". من هم الكبار؟ هناك أمريكا طبعاً التي لا يخشى رئيسها ترامب من القيام ببهلوانيات "نعم" و"لا" متلاحقة، لذر الرماد في العيون، وهو يعلم أنه خسر في هذه البقعة من العالم، ولم يعد بقادر على التصرف بهجومية غير مفيدة.. ولولا الخشية من صدم القارئ، المعتاد على فكرة "القوة العظمى الاولى"، لقلنا أن أمريكا هنا تحديداً قد أصبحت ثانوية. وهناك روسيا، صاحبة اليد الطولى في سوريا، وهو نصرها الدولي الأكبر في السنوات الماضية. وروسيا تلك لمن نسي، أمدّت أردوغان باسلحة حديثة منها صواريخ أس 400 التي استفز واشنطن حصول تركيا عليها منذ بضعة أشهر، وهي الصفقة التي كشفت تطور العلاقات المتنوعة بين موسكو وأنقرة، وبين أنقرة وطهران، بينما يبدو بشار الاسد في كل هذا مجرد صورة لا بد من الحفاظ عليها داخل إطار مذهّب، وبينما تبدو سوريا كأرض خلاء – إلا من أهلها المساكين - تتصارع فوقها قوى عالمية وإقليمية وتعقد صفقات، وهو ما تكرر في التاريخ أكثر من مرة.
... وهكذا قال المتحدث باسم الكرملين اليوم: "العملية العسكرية التركية يجب ألا تضر بالعملية السياسية في سوريا"، و"موسكو تحترم في الوقت نفسه حق تركيا في الدفاع عن النفس". وأما المتحدث باسم الحكومة الايرانية فقال أن "الأحداث الأخيرة أثبتت أنه لا يمكن الاعتماد على الولايات المتحدة"، وأبدى قلق بلاده بشأن أمن الأكراد في شمال سوريا وأن "الحل الوحيد لضمان الأمن في شمال سوريا هو استقرار الجيش السوري في هذه المنطقة ومواصلة مسار أستانا وايجاد مناطق خفض التوتر. وإيران مستعدة للمساهمة في ذلك". وقد انتهى الأمر بعد ذلك إذ أُعلن عن "تعليق" عملية "نبع السلام" لمدة خمسة أيام بعد لقاء اردوغان بنائب الرئيس الامريكي مايكل بنس. وبينما غرد ترامب انه فرح لأنه "سينقذ حياة ملايين البشر" (!)، اعلنت أنقرة أن هدفها هو إنشاء منطقة آمنة تمتد من شرق الفرات إلى حدود العراق بطول 440 كلم وبعمق 32 كلم، وأن تعليق العملية العسكرية يتيح ليس إلا انسحاب الاكراد منها. ويبدو أن "الصفقة" تقوم على تحويل هذه المنطقة التي تتجاوز مساحتها ال12 الف كلمتر مربع الى إلى منطقة آمنة كي يعود إليها اللاجئون السوريون في تركيا، وهم حوالي ثلاثة مليون إنسان.
الكل رابح: تركيا أبعدت الاكراد عن حدودها وشتتهم خارج ما كانوا يَبْنون، وتخلصت من لاجئيها السوريين، وبدت كقوة اقليمية مهابة شغلت العالم، وأمريكا حفظت ماء وجهها إذ أُعلنت الصفقة بنهاية اجتماع أردوغان وبنس، وكأنها نتاج لقائهما، وروسيا أقنعت الأكراد وحمتهم، وجلبت الجيش السوري الى تلك المنطقة، فضربت عصفورين (على الأقل) بحجر واحد، لأنها هندست الحل العملي للموقف، وحفظت ماء وجه السلطة المتلاشية في دمشق، وكانت هي العراب الفعلي لكل ما جرى. وايران تدعم وتؤطر... وعملية "اعادة بناء سوريا" بكل تفاصيلها جارية على قدم وساق، والمستفيدين منها كثر، صغاراً وكباراً. وئام وانسجام، فماذا يطلب "الشعب" (المفقود) اكثر من ذلك؟ قليلة هي الاحداث الجارية في العالم التي تنضح الى هذا الحد بالسيناريو المكشوف مثلما في فيلم رديء!
الكل؟ عدا الأكراد كالعادة... لسوء تقديراتهم في السياسة، ولكن وخصوصاً لسوء أوضاعنا العامة السياسية والفكرية على السواء (عدا الباقي)، أوضاعنا النابذة للتنوع والمسطِّحة للمواقف.. وعدا الذين قضوا في حرب لا لزوم لها، كالعادة أيضاً..