ألم "يمني" فوق جسر النيل

نصف مليون يمني، من الناس العاديين "عالقون" في مصر دون محل ثابت أو حلم نابت، وهي البلد الذي لطالما اعتبروه نفس وطنهم. جاء أغلبهم بعد انهيار أوضاع بلدهم للعلاج من أمراض أو إصابات حربية، وتلقوا معاملة طيبة، إلا أنها لا تفي بحاجاتهم بحكم محدودية الامكانات، والبيروقراطية، وكم مهول من المعوقات...
2019-10-15

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك

أنت - دونما مال وعلم وصحة - غريب في وطنك، فما بالك إن كنت فقدتَ الوطن على حين غرة؟ وحين توجهتَ هارباً باتجاه بلدٍ لطالما اعتبره أهلك نفس وطنك، فوجئتَ أن الحرب قد سبقتك إلى هناك ووضعتْ بصمتها على ملفك.

إنه حال ما يقارب نصف مليون يمني في مصر، هذا بعدما تأخذ في الاعتبار متوسط فوضى الأرقام حول أعداد اليمنيين فيها، وتطرح من هذه الحسبة رجال الأعمال وحاملي الجوازات الدبلوماسية، فيتبقى لك الأصل، "ملح الأرض" الذي يضم كل الفئات العاملة، الطبيب والحرفي، الرجل والمرأة، السليم والجريح، المسالِم والمطارَد، الآمل بالعودة والراغب في الانطلاق نحو الغرب.

إنهم اليمنيون "العاديون"، مثل قضيتهم، "عالقون" دون محل ثابت أو حلم نابت، في "مصر" التي هي عندهم كما أخبرتني واحدة منهم "لا تُقارَن بغيرها". فعلى الرغم من أي موانع تمّ فرضها عقب الحرب، وعلى الرغم من أي ظروف معيشية طاحنة يعيشها الوافد (كما أهلها)، وعلى الرغم من السياسات الملاحِقة للحريات والخوف، إلا أنها لا تزال هي الاختيار الأسلم.

ولكن ماذا عندما يدب الألم بالجسد، مرضاً أو إثر حرب؟ إنه الاختبار الأكبر.

آلام أنس .. وآمال "أُلفت"

وجعان يلتقيان على أعتاب المستشفيات، طفل وامرأة وأحباء يلاحقهم في الغربة المرض اللعين، "السرطان". "ألفت" هي أم لطفل جميل يدعى "تيم"، ابنة "البلاد" كما يُطلقون على الريف في اليمن، أرض خضراء، بشر بسطاء، يملؤون مياههم من النبع، يطعمون خرافهم الحشائش، فمن أين داهم السرطان وجه هذه الشابة وهي في مقتبل العمر. ومن أين داهمت البلاد الحرب؟

نتيجة تدخل طبي خاطئ، تورم وجهها بشكل مؤذٍ. وعقب اكتشاف المرض والتوصل للتشخيص الصحيح، كانت مدينة "تعز" تستقبل مأساتها، وقد تحولت لساحة مواجهة. "سافِروا إلى مصر"، كانت نصيحة الطبيب، وعليه كانت محاولتهم لجمع النذر القليل الذي لديها وزوجها باتجاه الرحيل.

من تفاصيل قصة مشابهة على حدود ميناء الحُديدية، جاء معلم اللغة الإنجليزية "سلمان" إلى القاهرة قبل عامين، يحمل تحت إبطه نتائج الفحوصات الطبية الخطيرة، وباليد الأخرى يمسك كف "أنس" ابن العاشرة. كان ذا بنية جسمانية مميزة، وغزو مرضي طارئ بالمخ.

سجّله الوالد في مدرسة يمنية خاصة حيث حصل هو الآخر على فرصة عمل، قال الطبيب اليمني "ورم خبيث"، وقال أول طبيب مصري فحصه "التهاب فيروسي حاد". وما بين تضارب التشخيصين مرت الأوجاع بجسد الطفل وقلب والديه لمدة عامين.

وصل "مهيب"، زوج ألفت إلى القاهرة، حصلا على شقة سكنية بمنطقة شعبية لا يعرف ساكنوها إلا الأزقة الضيقة، انحشروا وسطهم وتقبلوهم، وبدأت الرحلة.

بمساعدة البعض، حصل "مهيب" كما "سلمان" على عمل سريع، مصحِّح لغوي في دار نشر يمنية قديمة بالقاهرة. التقيا أمام بوابة "مفوضية اللاجئين" واتفقا على هدفهما: "الحق في العلاج".

يحكي "مهيب" بدلاً عن زوجته التي فقدت النطق نسبياً: "بعد عدة زيارات إلى مقر المفوضية بمدينة 6 أكتوبر، استطعتُ تسجيل أسرتي، وبناءً عليه حصلنا على مساعدة شهرية قيمتها 700 جنيه، ومساعدة طبية تركزت على دعم العلاج الكيميائي في إحدى المستشفيات، وهي كلفة باهظة بالتأكيد. لكن التكلفة الأكبر بدأت بعد ذلك، فاستئصال ورم من الوجه أدى إلى تشويه شديد وأثّر على النطق بشكل كامل، وأدى إلى إغماض العين اليمنى. عندها تمّ تحويلنا إلى مستشفى جامعي حكومي مصري، حصلنا على المساعدات الأولى والتشخيص الصحيح، لكننا لم نحصل على حق الإجراء المجاني للجراحة، وأخبرتنا المفوضية أنها لا تستطيع تحمل هذه التكلفة.

يكمل: "فقدنا الأمل، وكنت بانتظار ارتداد المرض مرة أخرى، إلى أن تواصل معنا بعض الشباب اليمني المتطوع بالعمل الأهلي وعرض حالة زوجتي على رجال أعمال تكفلوا بالمصاريف".

أما "سلمان" فلم يعد من الممكن أن نسمعه بشكل مستفيض، فقد فارقته آماله لحظة مفارقة الألم جسد أنس، بالموت.

رحل الابن ولم يرحل ألم الأب، لايزال أسير تفاصيل التجربة. فالرجل الأربعيني الحاصل على درجة الماجستير، المدرِّس، ابن الأسرة الميسورة وصاحب مركز تدريب خاص على المهارات واللغة الإنجليزية في بلدته، لم يكن ليتخيل أن الأمور ستؤول به إلى هذه اللحظة أبداً.

خاض مع المبنى المانح للبطاقات الصفراء (مفوضية اللاجئين) تجربة وصفها بالسيئة، المعيقة، غير المتفهمة. حدث التشخيص الخاطئ في رأيه، فور الوصول إلى مصر، بسبب تحويله إلى طبيب غير متخصص. تردد بعدها على عدد من الأطباء المصريين على نفقته الخاصة وزادت البلبلة، ومعها أخذت صحة "أنس" في التدهور. ارتخت جفونه ثم فقد جزءاً من وزنه، لم يعد يستطيع المشي بشكل طبيعي، ولا يستطيع ابتلاع الطعام، ثم دخل إلى مراحل الغيبوبة المتكررة.

خلال ذلك حصل على تقرير رسمي من مستشفى مصري جامعي بضرورة سفر الطفل إلى الخارج. كان يعرف أن فرصته للحصول على هذه التأشيرة عبر الحكومة المصرية شبه مستحيلة، وكانت صدمته أن لا سبيل إلى ذلك من خلال مفوضية اللاجئين، وما يتبعها من مؤسسات طبية مثل save the children أو أي من المؤسسات الدولية الداعمة. سألهم الرجل غاضباً في إحدى المرات: لماذا لا تقدمون لي مساعدة حقيقية، أجابوا: "محدودية الإمكانات"، قال: "تأذيت من تشكيككم في عدم استحقاقي وغيري من اليمنيين للسفر إلى الخارج، لم أكن أريده ولم أفكر به يوماً، كنت سأوافق لو أخذوا الولد وحيداً إلى هذه الرحلة وحصل على حقه الإنساني في العلاج".

امتد به الوقت، ساعدته المفوضية مرات في إسعاف الطفل بعد نوبات الألم الشديد ونقله لمستشفى خاص. وفي المرة الأخيرة امتنعوا، فاضطر إلى حمل ابنه فاقداً وعيه إلى مستشفى خاص على حسابه. لم يحتمل المصاريف لكن أراد له الله بازغة أمل. أفاق الولد فساعده طبيب مصري على إدخاله مستشفى حكومي وإجراء جراحة عاجلة مع عودة للتشخيص القديم.

الطفل مصاب بسرطان بحالة متقدمة تحتاج إلى تلقٍ عاجل للعلاج، لكن لا شيء عاجل في ظل بيروقراطية حكومتين ومفوضية معنية بالنازحين. بالمعهد القومي لعلاج مرضى السرطان في مصر، أخبروه أنهم لن يستطيعوا منحه العلاج الكيميائي مجاناً لارتفاع كلفته بحالات المخ.

مرّ شهرٌ كامل بلا أي علاج، فاختار "أنس" رفع العناء عن والديه بالرحيل.

جرحى خراب الوطن

تنتقل القصص من حاملي "البطاقات الصفراء" إلى معلِّقي "شارات الحرب". وهذا كان لقاءً مع وجه آخر للألم، مع من جُرِحوا خلال المعارك.

شباب عفي بحماسة لا تزال متقدة وهيئة ناقصة. فإما ذراع أو قدم مفتقَدة أو عينٌ فرت من مكانها. وبدلاً من ارتكان آلات موسيقية أو دراجات على الجدار، كان العكاز والكرسي المتحرك، فلا رفاه يسمح بطرف صناعي.

استقبلت مصر، وفق التصريحات الرسمية، ما يزيد عن خمسة آلاف جريح يمني، جاء بعضهم عبر الهلال الأحمر الإماراتي، وهؤلاء لاقوا رعاية صحية فائقة الجودة وكذلك خدمات فندقية. أما الجزء الأكبر فتوافد عبر اللجنة الرسمية لرعاية الجرحى في اليمن، ففرعها بالقاهرة هو المسؤول عن استقبال الجرحى وإسكانهم وصرف معاش شهري لهم، ثم تبدأ المتابعة الطبية.

وفي الشقة السكنية البسيطة بحي الدقي الهادئ القديم في القاهرة، التقطنا صورة حقيقية للأوضاع على الأرض.

بالصمت والزهد الذي يواجه به كل متألم الكاميرات، قال لنا "خَطّاب": "نريد لبناً وخبزاً وعلاجاً ونرجع لمزارعنا في البلاد، أيها السياسيون في كل مكان، اتركوا لنا الله وخذوا موائده."

عشرات الشكاوى التي يدلل الألم على الاحتمالية الكبيرة لصحتها. ويمكن حصرها في عدة نقاط، هي تأخر بدء العلاج، اعتماد قائمة أطباء محدودة تشوبها تهمة المحاباة مما تسبب بحالات إهمال وأخطاء طبية كارثية، شبهة فساد حول الاستفادة من فروق الأسعار في قوائم الدواء عبر اعتماد صيدليات محددة تمنح العلاج بأسعار مخالفة لتلك المعتمدة في الأسواق.

لا يزال "خطاب" يحتفظ بساقه بعد الإصابة، وهو محظوظٌ في ذلك على الرغم من العرج الواضح، إذ لم ينل "عمر" و"بلال" و"محمد" مثل هذا الحظ. بَترت قذيفة ساق "عمر" اليسرى وأصابت اليمنى بتهتك شديد، عاد إلى قريته دون تلقي علاج مما أصاب ساقه بالتصلب، ولم يتلقَ رداً على طلبه للسفر من أجل العلاج إلا بعد سبعة أشهر. وصل القاهرة في شباط/ فبراير الماضي يملؤه الأمل، ولكن تكررت المأساة: فهو يقضي الآن شهره السادس في القاهرة دون تلقي أي علاج. يقول: "أصابني الاكتئاب ومرض السكري، ذهبت ساقي الأولى فداء الوطن أما الثانية فضحية القيادة والأحزاب، أقول هذا لنفسي كل صباح وأفكر جدياً في إلقاء نفسي في مياه النيل".

ومن التصلب للتقيح الشديد، تأتي قصة "بلال" الذي خضع داخل القاهرة لأربع عمليات تركيب صفائح ومسامير، لم تتم متابعتها بالشكل الصحيح. التقيح يهدد ببتر الساق أو بتسمم في الدم. يطالب الشاب بإحالة مسؤولي اللجنة بالقاهرة للتحقيق بسب فساد اختيار المعالجين، قال: "شوهوا سمعة الأطباء المصريين التي نسمع عنها دوماً في بلادنا بسبب اختيار قائمة الأطباء الأرخص سعراً والخاضعة للحسابات والمحاباة".

"محمد" هو الآخر خضع لعملية تصحيح بتر ولكنها جاءت على يد طبيبة نساء وتجميل صدر وأرداف، مما عرّضه لمضاعفات شديدة على مدار ستة أشهر قبل أن يقوم أخوه بالضغط من أجل تغيير الطبيب الذي قام بعمل جيد، ولكنه أخبرهم أنه "فقد فرصة تركيب طرف صناعي بسبب العمليات المتتالية".

بكى "أمين" وهو يشير إلى عينه الصناعية الجاحظة بشكل لافت وغريب، وغير المشابهة لعينه الأخرى، قال: حين رآني ولدي عبر الهاتف صرخ: "الوحش".

لا يريد "عمار" انتظار تكرار هذه المآسي، قرر أن يعود إلى بلده دون تلقي علاج، ولكنه حين توجه لمكتب السفر قالوا له أن تذكرته للقدوم فقط. وأنه غير مسموح له بالعودة إلا بعد دفع غرامة تصل إلى 300 دولار.

انقر/ي على الصورة

أربعون جريحاً بأربعين قصة بينما مر عليهم أربعون يوماً عند كتابة هذه السطور دون أن يتلقوا أي أموال للإعاشة، يأكلون "الكُشري" كما يقولون (أكلة شعبية مصرية)، وهذا بعد أن أعلنت اللجنة الطبية العسكرية الخاصة بجرحى الجيش الوطني في مأرب، تعليق عملها وإعادة الجرحى من دولة مصر العربية، بسبب عدم التزام الحكومة بدفع ميزانية اللجنة. وقالت في بيانها، أنها قررت إعادة جميع الجرحى من مصر إلى أرض الوطن "على الوضع الذي هم عليه".

حاولتُ التواصل مع فرع اللجنة بالقاهرة، والملحق الصحافي بالسفارة اليمنية، لكننا لم نتلق رداً من أي منهما.

أمام باب الحماية الدولية

حملتُ القصص السابقة، وتوجهت إلى حي الزمالك بوسط القاهرة حيث مقر المفوضية الدولية للاجئين التي يصل عدد الأشخاص الذين تُعنى بهم في مصر (وفق موقعها الرسمي) إلى نحو 280 ألف شخص، وقد حصلوا على 150 ألف استشارة في مجال الصحة الأولية.

في مخاطبة رسمية، أكد لنا مسؤولو المفوضية على وصول عدد اللاجئين وطالبي اللجوء اليمنيين المسجلين في مصر حتى شهر آب/ أغسطس 2019 إلى 9 آلاف و240 يمني.

الرعاية الصحية هي الخدمة الرابعة التي تقدمها المفوضية للاجئ بعد التوثيق والحماية القانونية والمساعدة المالية المحدودة. وهي تشمل الرعاية الصحية الأولية، ورعاية الطوارئ، والرعاية المتخصصة، ورعاية الأمراض المزمنة بالتعاون مع وزارة الصحة والشركاء المحليين. في هذا السياق، وفي عام 2016، قامت المفوضية بتوقيع مذكرتي تفاهم مع وزارة الصحة تبرعت الأولى بموجبهما بـمبلغ 2 مليون دولار على شكل معدات طبية حديثة، من ضمنها أجهزة للكشف المبكر عن أورام الثدي، و70 سريراً، ووحدات عناية مركزة وأجهزة تنفسية مع تجهيز عدد من المرافق الصحية في مختلف المحافظات، وذلك لينتفع منها المواطن المصري واللاجئ على حد سواء.

ووفقاً للإفادة الرسمية، لا تتعامل المفوضية مع حالات جرحى الحرب، ولم تطلب الحكومات تدخلها بينما هي توفر العلاج للأمراض المزمنة وفقاً لمعايير طبية محددة وبحسب الميزانية المتوفرة. ويمكن للمفوضية أن تتدخل في حالات العمليات الجراحية الكبرى وتوفر التكلفة اللازمة لاستئصال الأورام ولعمليات القلب المفتوح، ولكن ليس لزراعة الأعضاء، وذلك أيضاً وفق معايير طبية محددة، وبحسب الميزانية المتوفرة.

كلفة باهظة وأوجاع عادية

وما بين الجهات المانحة والحكومات المحلية، تتحرك مجموعات أهلية على الأرض في محاولة للدعم. "محمد كزعول"، طبيب يمني من ضمن ما يقدر بألف طبيب يتواجدون في القاهرة من أجل تحصيل درجات الماجستير والدكتوراه من الجامعات المصرية. تشاركوا تطوعياً في تشكيل ما اسموه "اللجنة الطبية لمساعدة المرضى اليمنيين" الآخذ عددهم بالازدياد.

تعاونوا بداية مع "لجنة العالقين" التي شكًلها رجال أعمال، وقدمت بالفعل خدماتها لـ 8000 يمني. لكن مع استمرار الحرب وتزايد أعداد اليمنيين القادمين من السعودية والأردن، أحجم أغلب المتبرعين عن الاستمرار في الدعم، خاصة بسبب رواية رسمية تقول إن 80 في المئة من "اليمن" محررة وآمنة.

يقول "كزعول": اعتمدنا على آليات التواصل مباشرة مع المرضى لتوجيههم، من ناحية، بالاتجاه الصحيح وحتى لا يتعرضوا لاستنزاف أموالهم أو لأشراك النَصب التي قد تصل للمتاجرة بالأعضاء، ونقوم من ناحية ثانية بالتواصل مع المستشفيات المصرية من أجل الحصول على تخفيضات، ونجحنا فى تفعيل بروتوكول سابق مع مستشفى جامعي شهير بحيث يحصل اليمنيون على خصم 30 في المئة للعمليات الجراحية وعلى 70منحة علاج سنوية، وهو ما ساعدنا في إتمام إجراء ما لا يقل عن 100 من عمليات زراعة الكبد والكلى والقلب المفتوح بتكلفة أقل من 50 في المئة من أسعارها الحقيقية التي لا تقل عن 150 ألف جنية للعملية الواحدة، إضافة إلى التعاقد مع مستشفيات خاصة تمنح علاج الأورام لخمس حالات يمنية شهرياً.

سألناه إن كان هذا يكفي لمساعدة كل يمني في مصر على تسكين آلامه، أجاب: "بالطبع لا، عدد الحالات التي نواجهها باتجاه الزيادة لا النقصان، لكن ما نراهن عليه هو أنّ من تمكّن من الوصول للقاهرة ليس معدماً بشكل كامل وإلا لما استطاع الوصول إلى هنا. لكن التحويلات الخارجية دون دعم مؤسسي لن تصمد، خاصة مع استمرار انهيار البنية الصحية في اليمن. ولعل الصحيح هو دعم هذه البنية وتطويرها حتى لا يضطر هؤلاء للاغتراب خارج بلادهم التي يفضلونها على الرغم من الحرب".

ترى المفوضية أن بيئة الحماية لا تزال مؤاتية، بينما يشتكي آلاف اليمنيين في مصر من حاجتهم لحق اللجوء، ويشتكي آخرون من إغلاق ملفاتهم، سواء على يد المفوضية أو الحكومة اليمنية، ومن مخاوف الترحيل.

يلقون جميعاً باللوم على ما أسموه "لعبة السياسة"، حيث تتلاقى مصالح الجميع على عدم تدويل القضية والاعتراف باليمني كلاجئ. فاللاعبون الإقليميون، كالسعودية والإمارات، لا يريدون ذلك حتى لا يعتبر كإدانة دولية لتدخلهم باليمن، والأطراف الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية، تضع اليمن على قائمة الجنسيات المصدِّرة للإرهاب، ولا ترحب بمواطنيها.

علقت قبول العبسي، الناشطة الحقوقية اليمنية ومؤسسة مبادرة "وجود" لدعم حقوق اللاجئين، قائلة: هناك أزمات حقيقية تواجه اليمنيين المرضى بالقاهرة، فلا بروتوكولاً حكومياً يمنياً يتكفل بتسفيرهم للعلاج على نفقته، ولا بديلاً قوياً آمناً داخل اليمن، وحتى انتهاء الحرب لا أمل في غير ذلك. وعلى الرغم من وجود تاريخ للمستشفيات المصرية في تقديم العلاج لليمنيين، إلا أن المنظومة لم تعد تسمح باستيعاب كل هذه الحالات عبر المجانية، ولا يمكن لأحد مطالبتهم بذلك. ولا نفهم طبيعة التعقيدات التي تواجهها المفوضية والتي تجعل أن من تشملهم برعايتها من اليمنيين في مصر لا تتجاوز نسبتهم 5 في المئة منهم. هناك حاجة بالتأكيد لأن يضع العالم حق المتألم في العلاج كأولوية تتفوق على أي من المعيقات التي هي بدورها حقيقية ومرهقة.

خريطة العيش بالقاهرة

لا حلول فورية سريعة، بينما تبقى ملامح مشتركة للمعيشة، تجمع بين من سبقوا وأغلب اليمنيين النازحين إلى مصر.

فحين يصل "اليمني" إلى مطار القاهرة لا يلاقي تعنتاً كبيراً أو مساحات تشكيك. هو يعاني فقط من ارتفاع أسعار بطاقات الطيران التي تصل إلى 600 دولار للفرد الواحد، أما "قرار العلاج" فهو تذكرة مرور، ورقة صورية يحملها 80 في المئة من النازحين، يستخرجونها عبر رشاوي شبه رسمية للإدارت الحكومية الصحية باليمن، ويتراوح سعرها ما بين 200 و300 دولار.

يتم عبور بوابات مطار القاهرة دون تأشيرة، وهذه تصدر خلال أسابيع على أن يكون قد تمّ تقديم ما يُثبت حصول العابر على مكان سكن ثابت بالإيجار لمدة عام. يحصل على التأشيرة مجاناً للـ6 أشهر الأولى، بعدها يتوجه دورياً إلى قسم الشرطة التابع لمحل سكنه، يدفع مقابلاً مادياً بسيطاً هو 1600 جنيهاً مصرياً أو 100 دولار للفرد وذلك لكل 6 أشهر. وأما تكلفة السكن شهرياً في منطقة شعبية بالقاهرة فتقارب هذا الرقم، وكذا تكلفة المأكل والانتقال. وكل منها يعادل تقريباً الحد الأدنى للأجور شهرياً في مصر (وهو 2000 جنيه). أي أن اليمني يحتاج إلى ثلاثة أضعاف الحد الأدنى ليتمكن من العيش، وذلك قبل احتساب تكاليف التعليم أو الصحة. وعليه، يصبح متوسط ما تحتاجه أسرة يمنية متوسطة الحال (أو أقل من متوسطة)، مكونة من خمسة أفراد، هو 10 آلاف دولار للإقامة لمدة عام واحد في القاهرة. يتضاعف الرقم مرة واحدة على الأقل حين يتم احتساب تكلفة التعليم الأساسي والرعاية الصحية الأولى، ثم يصبح الأمر غير محتمل حينما نصل إلى مراحل التعليم الجامعي (7 آلاف دولار سنوياً كحد أدنى)، أو حين يزور المقيم وأسرته مرض عضال (15 ألف دولار كحد أدنى).

وهذا الرقم الأخير يراه الطبيب النقابي المصري أحمد حسين منطقياً في ظل ارتفاع ميزانية العلاج على نفقة الدولة في مصر التي اضطرت لاقتصار خدماتها على حاملي الجنسية المصرية بشكل رئيسي. فوفق بيانات رسمية يصل حجم التغطية السنوية إلى 1.03 مليون طلب في عام واحد، بتكلفة تتراوح سنوياً بين 1.5 إلى 2 مليار جنيه أو 200 مليون يورو. وعلى الرغم من هذا، يلاقي اليمنيون تسهيلات كبيرة ومعاملة متساوية، عدا الحالات المرضية باهظة الكلفة العلاجية.

حياة تستمر

في خطوة أخيرة، على هامش إعداد هذا التقرير، توجهتُ وعدد من الشباب الجرحى، والناشطة الحقوقية "قبول"، والزوج "مهيب"، إلى منزل "سلمان وعبير" لتقديم واجب العزاء. قال أحد الجرحى، "عبد الفتاح"، خلال الجلسة أنه وزملاءه قد قرروا إعلان نقابة تمثلهم في القاهرة، وتمتد إلى داخل البلاد لتضم كافة الجرحى الذين يزيد عددهم عن عشرة آلاف.

تفاعل معه الحضور ما بين تأييد وتحذير. وخلال الجلسة أمدني "مهيب" بصورة ضوئية لتقرير طبي حديث يفيد باستكمال "ألفت" المرحلة الأولى من العلاج التجميلي، وحاجتها لإجراء العملية الثانية في محاولة لاستعادة النطق والحفاظ على العين. أخبرني أن المفوضية قد توقفت قبل شهرين عن إرسال المساعدات الشهرية وأن ملفه، كآخرين غيره، قد تم إغلاقه ولا يعرف سبباً لذلك.

منحني أوراقه، وكان لديه "أمل" لم أكن أعرف كيف أتعامل معه. أما "الألم" فكان حين أطلعني "سلمان" بصوت خافت على قصاصة ورقية من جريدة يومية تحذِّر من تجرؤ لصوص على مقابر الوافدين وغير معلومي الهوية، لسرقة الجثث واستخدامها في أغراض تشريحية، قال لي: "أخاف على جسد "أنس" أو أن أتركه هنا وحده".

***

إنها قصص وفرص وحياة تستمر رغم الآلام التي لا زالت تنبت على ضفاف النهر في انتظار من يمد لها يداً قادرة بشكل كامل على العون.

______________________

في إطار جائزة إعلام الهجرة، نال هذا العمل دعم مركز الاعلام "أوبن ميديا هاب” وبرنامج يوروميد هجرة اربعة، بتمويل من الاتحاد الأوروبي
إن الآراء الواردة لا تعكس بالضرورة الرأي الرسمي للاتحاد الأوروبي

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...