إلى أين تتجه الجزائر؟ يتردد هذا السؤال على الألسنة في العديد من الدوائر داخل الجزائر وخارجها، كما يشكل - في الوقت ذاته - انشغالاً لكل المتابعين للشأن الجزائري منذ 22 شباط/ فبراير الماضي. السؤال مهم وهو قديم قدم منظومة الحكم في الجزائر، التي أعطت عن نفسها في العقد الأخير صورة السلطة الهرمة والمتفسخة، والعاجزة حتى عن أداء بعض وظائفها الوجودية.
"إلى أين تتجه الجزائر؟" سؤال حمله عنوان كتاب صدر سنة 1964 للزعيم محمد بوضياف (1919 -1992) أحد الوجوه البارزة في الثورة الجزائرية، بعد أن انفرد العسكر بالسلطة ومارسوا الإقصاء والعنف وفرضوا الأحادية وعبادة الشخص الواحد كاستراتيجية للحكم. وقد كان محمد بوضياف أحد ضحايا هذا النظام الذي استمر في العنف والتخوين والكراهية. فبينما هو في منصب رئيس مؤقت للدولة بعد إلغاء المسار الديمقراطي في 11 كانون الثاني/ يناير 1992، اغتيل يوم 29 حزيران/ يونيو 1992 وهو يخطب في الناس بقصر الثقافة بمدينة عنابة شرق الجزائر.
بعد 55 سنة من صدور كتاب بوضياف، و27 سنة على اغتياله، وثمانية أشهر على بداية الثورة السلمية في الجزائر، تثار كل التساؤلات حول ما تخفيه الأسابيع والأشهر القادمة. فهل تتجه الجزائر نحو الوصول الى توافقات سياسية من أجل بناء الدولة وانقاذها؟ أم تسير بمنطق ستينيات القرن الماضي أي بالإقصاء والعنف الذي سيكون مكلفاً ولا ينتج إلا الدمار والانهيار؟
ورقة طريق السلطة: انتخابات، مناورات واعتقالات
السلطة في الجزائر، وحسب تصريحات قائد الأركان أحمد قايد صالح، لا ترى حلاً لأزمة منظومة الحكم إلا عبر تنظيم الاقتراع الرئاسي المقرر في 12 كانون الاول/ ديسمبر القادم، وهو الرد الوحيد لحد الآن على الملايين من الجزائريين والجزائريات الذين يواصلون التظاهر منذ ثمانية أشهر للمطالبة بتغيير شامل لمنظومة الحكم.
الجزائر: مخاض ولادة رأسمالية متلعثمة
29-03-2019
تعمل السلطة من أجل فرض "ورقة طريقها" تلك عبر استخدام وسائل الإعلام العمومية والخاصة في حملات دعائية للاقتراع كحل واحد وحيد، كما يتم تنظيم حملات تحريض ضد كل النخب السياسية الرافضة أو المتحفظة على هذا المسار. وقد وصل الأمر إلى حد تخوين المعارضة واتهام النشطاء بالتآمر مع الخارج ضد المصالح العليا للجزائر، وذلك من قبل منظومة إعلامية انتقلت في وقت قياسي من الدعاية لعهدة خامسة للرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة إلى تخوين هذا الأخير، وتعظيم قائد الأركان الذي تصفه بالوطني و"النوفمبري" و"الباديسي" (يعني من عائلة ثورة نوفمبر – 1954 التي انتهت باقتلاع الاستعمار الفرنسي - ومن الايديولوجيا الوطنية والمرجعية الإسلامية لرائد النهضة عبد الحميد بن باديس).
وصل الأمر إلى حد تخوين المعارضة واتهام النشطاء بالتآمر مع الخارج ضد المصالح العليا للجزائر، وذلك من قبل منظومة إعلامية انتقلت في وقت قياسي من الدعاية لعهدة خامسة للرئيس المخلوع إلى تخوين هذا الأخير، وتعظيم قائد الأركان الذي تصفه بالوطني و"النوفمبري" و"الباديسي"...
دخل هؤلاء المعتقلين وعلى رأسهم المجاهد لخضر بورقعة، البالغ من العمر 87 سنة، في إضراب عن الطعام للمطالبة بإطلاق سراحهم ورفض التهم الموجهة إليهم، التي تتراوح بين "إضعاف معنويات الجيش" و"تهديد الوحدة الوطنية وتهديد الأمن العام".
وبالإضافة إلى حملات تخوين معارضي فرض الاقتراع، وغلق وسائل الإعلام أمام كل الأصوات المعارضة، يتواصل مسلسل اعتقالات النشطاء وبعض رموز هذه الثورة السلمية من الشباب والشابات وحتى من الشيوخ، من ضمنهم الرائد لخضر بورقعة أحد قادة جيش التحرير في الثورة التحريرية، وواحد من أشد معارضي التطبيع مع الكيان الصهيوني في العالم العربي. وقد سبق له أن قال عشية اعتقاله، أن "السلطة الفعلية لها مرشحها وهي تناور من أجل أن تفرضه".
ولمواجهة هذا الاعتقال، دخل هؤلاء المعتقلين وعلى رأسهم المجاهد لخضر بورقعة، البالغ من العمر 87 سنة، في إضراب عن الطعام للمطالبة بإطلاق سراحهم ورفض التهم الموجهة إليهم، التي تتراوح بين "إضعاف معنويات الجيش"، و"تهديد الوحدة الوطنية وتهديد الأمن العام"!
الشارع الثوري: "لا انتخابات مع العصابات"
الجزائريون والجزائريات الذين سيدخلون، بعد غد الجمعة، أسبوعهم الـ 34 من التظاهر السلمي، يواصلون رفض الاقتراع الرئاسي تحت شعار "لا انتخابات مع العصابات"، وهو الاقتراع الذي لم تعلن أية شخصية لها مصداقية في الشارع عن قبولها المشاركة فيه، ما عدا الأطراف التي ساندت بوتفليقة من العهدة الأولى إلى آخر يوم من حكمه، أو الذين كانوا معه وانقلبوا عليه بعد ذلك، كما هو حال رئيس الوزراء الأسبق علي بن فليس.
السلطة تخسر جزءاً كبيراً من معركتها السياسية، لأنها لم تستطع إقناع من يملكون الحد الأدنى من المصداقية بتبني ورقة طريقها. وحتى الذين رحبوا بالبداية بمسار الحوار من أجل الذهاب إلى انتخابات، تراجعوا عن ذلك، وهو حال رئيس حزب "جيل جديد" جيلالي سفيان، الذي دعا لإلغاء اقتراع 12 كانون الاول/ ديسمبر بعد زخم الجمعة الـ 31، على الرغم من مشاركته في الحوار الذي دعت إليه السلطة عبر "لجنة الوساطة والحوار"، وكان يرى في الاقتراع حلاً ممكناً.
بعد شخصيات سياسية عديدة وبعد الاحزاب الاسلامية، أعلنت كل أحزاب ما يسمى بالتيار الديمقراطي والعلماني، من اليسار واليمين، وكذلك منظمات المجتمع المدني، عن رفضها لهذا المسار المحدد بجراء انتخابات في 12 كانون الاول/ديسمبر، ومطالبتها بانتقال ديمقراطي، بينما تردد المظاهرات أن "لا انتخابات مع العصابات".
وكذا إعلن الوزير الأول الأسبق أحمد بن بيتور عن عدم مشاركته في الانتخابات الرئاسية، بالإضافة إلى إعلان عبد العزيز رحابي، أحد الوزراء السابقين الذين يملكون بعض التعاطف لدى جزء من المؤسسات الإعلامية والأحزاب السياسية، والذي عمل على تقريب وجهات النظر بين السلطة الفعلية والقيادات الحزبية والجمعوية، وعمل على الحفاظ على علاقات ودية مع الحراك والسلطة في الوقت نفسه، الذي عبّر عن عدم تحمسه للاقتراع المحدد. واختار اعلاناً مقتضبا عن عدم ترشحه، حيث قال: "أود أن أبلغكم أنني لن أترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة. أعبّر عن شكري وعرفاني للذين طلبوا مني الترشح وللذين رافقوني في جهدنا المشترك من أجل إيجاد حلٍ سياسي شامل وتوافقي للخروج من الانسداد الذي تمر به بلادنا". كما حدث الأمر نفسه مع "حركة مجتمع السلم"، الحزب الإخواني الذي يقوده عبد الرزاق مقري، و"جبهة العدالة والتنمية" الحزب الإسلامي الآخر الذي يرأسه عبد الله جاب. وقد أعلنت كل أحزاب ما يسمى بالتيار الديمقراطي والعلماني، من اليسار واليمين، وكذلك منظمات المجتمع المدني، عن رفضها لهذا المسار ومطالبتها بانتقال ديمقراطي.
حمروش والمرافعة من أجل مشروع سياسي جديد
مولود حمروش رئيس "حكومة الإصلاحات"، وهو من جيل ثورة التحرير، وغير دوغماتي من الناحية الأيديولوجية، وكانت تربطه علاقات خاصة مع أقدم معارض في الجزائر وأحد أكبر زعماء ثورة الجزائر، الراحل حسين أيت أحمد (1926-2015)، وهو أحد أهم الوجوه النظيفة في الساحة السياسية الجزائرية. وهو سبق له أن حاول تنظيم أول انتقال ديمقراطي من داخل منظومة الحكم في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، عندما ترأس الحكومة من أيلول/ سبتمبر 1989 إلى 3 حزيران/ يونيو 1991. ثم استقال بسبب استخدام القوى المضادة للانتقال الديمقراطي داخل السلطة، وعلى رأسهم الجنرال وزير الدفاع الأسبق خالد نزار، للعنف ضد متظاهري "جبهة الإنقاذ" المحظورة الذين دخلوا في إضراب مفتوح للمطالبة بإلغاء القوانين الانتخابية المستحدثة.
"هذا النظام الذي يريد البعض الاحتفاظ به مهما كان الثمن، لم يضمن بناء الدولة ولا كفاءة الحكومة، ولم يضمن إدارة البلاد وتنميتها. لقد نجح في منع مشروع الجزائر من أن يصبح واقعاً وأن تصبح البلاد نمراً اقتصادياً. أفشل كل الخيارات والبدائل، وكل المشاريع الصناعية، والأدهى من هذا أنه ورّط في السنوات الأخيرة ضُبَّاطاً سامين في فساد وفي مؤامرات".
يحظى مولود حمروش باحترام واسع في الساحة السياسية وفي الشارع الجزائري. وقد أرغم يوم 5 تشرين الاول/ أكتوبر الجاري على الخروج الى أمام مقر إقامته بالعاصمة الجزائر، لاستقبال وفد من المناشدين له للترشح لاقتراع 12 كانون الاول/ ديسمبر القادم، كمرشح يمكنه أن يواجه سياسياً ورقة طريق السلطة. لم يتردد حمروش في تجديد رفضه للاقتراع الرئاسي ورفض الترشح له قائلا: "البلاد بحاجة إلى مشروع جديد فكفانا اجتراراً للحلول الخاطئة"، وذهب لأبعد من ذلك عندما أكد أنه "بهذه الشروط الحالية والظروف الراهنة حتى وإن انتخبتموني رئيسا فلن أقدر على فعل أي شيء، أقولها لكم بكل صراحة ودون نفاق، الحراك الذي خرج يوم 22 شباط/ فبراير أعطى النظام والبلاد فرصة لطي صفحة 30 سنة من الرشوة والإرهاب، لكن وإلى حد الآن لم يتغير شيء. كنت دائما أرسل تنبيهات وتحذيرات، بطرق مباشرة وغير مباشرة، هناك ما قلته صراحة وهناك ما أرسلته مشفراً، لم أتخلف يوما عن النضال وفعلت ذلك بكل مسؤولية وانضباط". وفي آخر كلمته، فتح حمروش الباب ليلعب دوره في مرافقة الثورة، إذا أبدت السلطة نية صادقة لتحويل الفرصة التي أعطتها الأمة إلى مشروع جديد يبني انتقالاً ديمقراطياً هادئاً منظماً لتغيير النظام وإنقاذ الدولة.
هل يغلب احتمال بناء عقد جديد يحدد قواعد العمل السياسي وبناء دولة الحق والقانون، وهو التوافق الذي يحلم به كل عاقل داخل وخارج سرايا الحكم. فيتم الذهاب نحو مسار انتخابي أو تأسيسي يؤدي لبناء دولة المؤسسات التي تَدفن نهائياً نظام الفساد والاستبداد، حتى تتمكن الجزائر من الاحتفال بالذكرى الستين للاستقلال سنة 2022، وهي في مصالحة تاريخية..
موقف مولود حمروش لم يكن مفاجئاً، خاصة وأنه كان قد حذر منذ بداية الثورة من خطورة الأزمة داخل النظام، وبأن الحل هو في تغيير المنظومة الفاسدة على كل المستويات. فهو قال بضرورة تغيير "السيستام" (النظام) الذي قال عنه في مساهمة له في شهر أيار/ مايو الماضي: "إن هذا السيستام، الذي يريد البعض الاحتفاظ به مهما كان الثمن، لم يضمن بناء الدولة ولا كفاءة الحكومة، ولم يضمن إدارة البلاد وتنميتها، لقد نجح في منع مشروع الجزائر من أن يصبح واقعاً وأن تصبح البلاد نمراً اقتصادياً. لقد أفشل كل الخيارات والبدائل وكل المشاريع الصناعية، والأدهى من هذا أنه ورّط في السنوات الأخيرة ضُبَّاطا سامين في فساد وفي مؤامرات".
السيناريوهات المتوقعة: المخارج والمخاطر
كيف ستكون الأيام والأسابيع القادمة مع معارضة الشارع للاقتراع الرئاسي الذي يُنظّم بهذا الشكل؟
السيناريو الأول:
هو اتجاه السلطة نحو مواصلة القمع بتكثيف الاعتقالات ضد من تعتقد أنهم محركو الثورة، وهو ما بدأ منذ أيام، مع ممارسة العنف ضد المتظاهرين. وهو سيناريو متوقع لكنه سيكون مكلفاً لها كسلطة وكذلك لرجالها، وللجزائر كدولة وأمة. هو خيار انتحاري بكل المقاييس، وإن حدث فإنه سيؤكد غياب الرؤية والبصر والبصيرة، وستتحمل السلطة كل تبعات ذلك، خاصة وأن المجتمع الجزائري ومنذ ثمانية أشهر، أثبت سلميته رغم القمع والاعتقالات والمضايقات. وفي هذه الحالة، فمن الممكن أن يتم فرض اقتراع بنسبة مشاركة لا معنى لها في لغة الاحصاء، بتضخيم مفضوح وبآلة دعاية لا مصداقية لها، مع احتمال مقاطعة شاملة لها في العديد من الأحياء والمدن والقرى والمناطق. وهو أمر قد يهدد حتى النسيج الاجتماعي. وستكون نتيجة هذا السيناريو الانتحاري تعيين رئيس ضعيف لا يقوى حتى على تسيير تناقضات السلطة ومشاكلها الداخلية، وسيؤدي لانهيار عنيف لنظام الحكم سنة 2021 كأقصى تقدير، مع نفاذ احتياطي الصرف.
السيناريو الثاني:
تمكّن الشارع من تكثيف الضغط بمختلف الأشكال السلمية والمنظمة، والذهاب لإلغاء الاقتراع مرة ثالثة بعد إسقاط اقتراع 18 نيسان/ أبريل و4 تموز/ يوليو، وهو ما يعني ذهاب الوجوه الحالية في السلطة، وظهور وجوه أخرى لم تُعلن عن نفسها، قد تكون مشكّلة ممن يراقبون الوضع من داخل صالونات السلطة. ولكن يصعب التوقع بهويتهم، لأن تفكك عصب وعصبيات وشبكات السلطة يجعلنا اليوم غير قادرين على فهم من يقف مع من؟ ومن يحارب من؟ ومن يتحالف مع من؟ وماهي التحالفات الجديدة؟ وما هي التحالفات الإستراتيجية والتكتيكية؟ وفي هذا السيناريو يمكن توقع الأفضل كما يمكن توقع الأسوأ أيضاً.
السيناريو الثالث:
وهو السيناريو الأكثر تفاؤلاً، وهو نجاح الجزائر في المحافظة على السلمية وتكثيف الضغط، رغم كل ما يمكن أن تتعرض له، وبروز طريق جديد داخل سرايا الحكم يبني جسور التشاور والتحاور خارج شبكات الولاء والفساد من أجل إنقاذ الدولة وحماية النسيج الاجتماعي للبلاد.. جسور تفضي إلى إنتاج ورقة طريق واضحة تصب في توافق تاريخي من أجل بناء عقد جديد يحدد قواعد العمل السياسي وبناء دولة الحق والقانون. وهو التوافق الذي يحلم به كل عاقل داخل وخارج سرايا الحكم،.هذا التوافق يحدد رزنامة دقيقة من أجل إلغاء كل القوانين السالبة للحريات، ثم الذهاب نحو مسار انتخابي أو تأسيسي يؤدي لبناء دولة المؤسسات التي تَدفن نهائياً نظام الفساد والاستبداد، حتى تتمكن الجزائر من الاحتفال بالذكرى الستين للاستقلال سنة 2022، وهي في مصالحة تاريخية تقطع نهائياً مع الإقصاء والعنف والكراهية، بمجتمع مفتوح يساهم في بناء دولته وإثراء التجارب الإنسانية في الانتقال الديمقراطي، في جزائر جديدة لا يُظلَم ولا يُقتلَ ولا يُقصى فيها أحد، جزائر العقل السياسي الذي يقطع مع الأيديولوجيا الإدارية والأمنية.