عاشت الجزائر!

.. وأما "أطرف" ما في الأمر فهو حين تُفلس تماماً هذه الانظمة بحكم تمرد الناس على سوء أحوالها، أي حين يفشل الضبط السالف. فماذا تقول حينها؟ أن خطر "الفوضى" يتهدد البلاد. لا حجة ولا أي برنامج ولا أي فكرة. كلّها اختفتْ وحل بديلاً منها خواء خانق.
2019-03-14

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك

.. هذا بدايةً وقبل أي شيء. وهو محل إجماع إلا لدى الضِباع من الاستعماريين، ولدى السفلة من المحليين ممن لا تتجاوز مخيلتهم رؤوس كروشهم. عاشت الجزائر حرة أبية، معتزة بنفسها عن حق وجدارة. وهو اعتزاز جددته المظاهرات التي غطت شوارع مدنها من أقصاها الى أقصاها انتفاضاً ضد محاولة إلحاق إهانة جديدة بها لا يوجد فعل لإعرابها سوى في قواميس البلادة والاستهتار.. والغباء!

هكذا تثبت شعوبنا أنها أقوى من مخططات السحق والإخضاع.. أن الحياة أقوى. شعب نصفه دون العشرين، قاتل أجدادهم في حرب التحرير الوطنية ضد المستعمر الفرنسي الذي لم يتجنب أي موبق. وانتصروا، وانتزعوا الاعتراف بانتصارهم في 1962، اي بالأمس.. بلدٌ هو عنوان الخيرات الوفيرة، وليس النفط والغاز إلا أسهلها في الاستغلال.. والنهب.

أن يرتفع شعار "الكرامة" في التظاهرات ليس بلاغة أدبية. ولا كان كذلك في مصر وتونس 2011. كان الاستعمار الفرنسي يعتدي عامِداً على كرامة الجزائريين بكل السبل، ولم يكتفِ أبداً بنهب ثرواتهم. كان يسعى لمحو هويتهم، لتشييئهم، لاستتباعهم. تدمير "الجماعي" مخطط استعماري في كل مكان: هو النهج الاسرائيلي في فلسطين.. التي استُحضرت في تظاهرات الجزائر الأخيرة عبر علمها المرفرف فوق الرؤوس. وقد استعادت السلطات المحلية في كل بلداننا هذا المبدأ الاستعماري، تدمير "الجماعي"، حتى تتمكن من السيطرة والحكم. وهي تنظر بريبة الى أي مبادرة من أي نوع وفي أي مجال، ومهما كان أصحابها قلة أو حتى لو كانوا أفراداً (حملة لتنظيف الشوارع أو لتعليم أطفال الشوارع القراءة تودي بأصحابها الى السجن في زمن السيسي في مصر وفي زمن آل الأسد في سوريا، وفي سواهما بالطبع، هذا لو جرت بدون تنسيق مسبق وضوء أخضر من المخابرات، وهذا ما يجعل المبادرات مشبوهة بنظر الناس وهكذا..). وأما تهمة "التخطيط لقلب نظام الحكم" (وليس أقل من ذلك)، فتحت إبط تلك الانظمة، تطلقها إذ ترى أن ثمة نبض هنا، وثمة اعتزاز بالنفس وإحساس بالمسئولية الجماعية، يدفع الى تجاوز الاكتفاء بمتعٍ غريزية (كالأكل والجنس وبعض التسليات) أو هو يحفِّز على الاعتقاد بالقدرة على فعل شيء ما في المجال العام! يا للجسارة.

قال فرانز فانون يوماً أن المستعمِر يخلق "مُواطَنة فارغة". وهكذا يفعل المستبد المحلي، وريثه. وفي الجزائر، تلى ما تسبب به عنف الاستعمار الفرنسي المديد (132 عاماً) وكلفة هزيمته والتحرر منه – مليون ونصف مليون شهيد في بلد كان تعداده آنذاك 10 ملايين! – تلاه ما سُمي بـ"العشرية السوداء" في تسعينات القرن الفائت، حيث قُتل واختفى أقل قليلاً من ربع مليون إنسان - وهو رقم مهول - خلال معركة لـ"استئصال" الاسلاميين،تعدتهم كثيراً فطالت الناس العاديين أولاً وطالت ثانياً المعارضين بكل فئاتهم (وهي خاصية ملازمة لأي من معارك "الاستئصال" أو "الاجتثاث" المجنونة)، فكانت "الصدمة" الثانية في أقل من نصف قرن، أي في جيلين متعاقبين. وأما الجيل الحالي، فقد أنضجته كدمات الاباء والأجداد.. بدليل الحذر الذي رافق التظاهرات، والقدرة على استيعاب العدوانية المقابلة – وإن الكامنة – بالبهجة والنكتة والسخرية وبـ"سلميّة، سلميّة". وبدليل العناية بالأملاك العامة حدّ التخلي للبوليس عن مجموعات النهابين أو المدمرين الذي استغلوا التظاهرات لإرتكاب هذه الممارسات، بل وطلب تدخل الشرطة لضبطهم، وحدَ كنس الشوارع من قبل مجموعات من المتظاهرين في نهاية المسيرات لتبقى نظيفة. فهذا أيضاً جزء من صون "الكرامة"، ومن ممارسة المسئولية العامة، من خلق الرابط الجماعي بكل معانيه ومظاهره، على الرغم من أنف السلطة المدمِّرة له.

وأما على الضفة المقابلة، فكارثة بكل معنى الكلمة. والضفة المقابلة ضِفاف. فقد شعرت أنظمة عديدة في المنطقة بالتضامن مع بوتفليقة، إن لم يكن بالفعل فبالقياس! كما شعر المستعمِر القديم أنه معني (لو يصمت ماكرون وجماعته! فما يحركهم هو الحقد الفرنسي الدفين على الجزائر الحرّة من جهة، والطمع بالربح من جهة أخرى!).

الطغمة الحاكمة في الجزائر خليط من البيروقراطيين الفاسدين وبعض الجنرالات (الفاسدين هم أيضاً والمطبوعين فوق ذلك بالعنف والشراسة). وهؤلاء استأثروا بـ"جبهة التحرير الوطني الجزائري FLN واعتبروها ملكا شخصيا، نادٍ لهم - وهو اعتداء مريع على الرمز وما يمثّل، واختراع لـ"عشيرة" لا تربط بين أفرادها صلة الدم بما هو النسب والقرابة. ويضاف إليهم بعض الحيتان من "رجال الاعمال" ممن يستفيدون من هذه المنظومة المغلقة، وهم أتباعها في الوقت نفسه. فهنا، كما في سائر بلداننا، فإن السلطة هي ما يتيح امتلاك الثروة.

تقول تلك الطغمة أنْ لا بدائل جاهزة عن الرجل الذي يُستخدم منذ سنوات كستارة مريحة بعد إصابته بفالج دماغي منذ 2013. ولذا ارتكبوا حماقة ترشيحه لعهدة خامسة بينما كانت الرابعة في 2014 فائضة عن المنطق. هذه أنظمة متقلصة الرقعة بتزايد متعاظم، متقلصة حتى في داخل بيئتها الطبيعية، نابذة للمجتمع الذي يُعامَل كعبء يجري ارضاؤه أو اسكاته – حين يكون ذلك ممكناً - ببعض الفتات، ما سمي بالجزائر "شراء السلم الاجتماعي". وهو أمرٌ كان ممكناً بحكم إيرادات الريع النفطي والغازي الهائلة، ثم تقلّص مع تراجع أسعار هذا المنّ السماوي، فتعثرت التقديمات الاجتماعية وتهدد المستقبل في واحد من أغنى بلدان منطقتنا.

لقد دُمِّرت البدائل عمداً وبمثابرة. خُلِق الفراغ بقوة القمع والنبذ والافساد والتيئيس، ثم يجري الاحتماء بفقدان البدائل! تكتيك كررته الانظمة "التقدمية" في مصر وسوريا والعراق، معتدة بوصايتها على المجتمع باسم أفكارها "الطليعية" و"الثورية" و"التحديثية "الخ الخ.. كبديل عن "شرعية" الاعتداد بالنسب الشريف أو بالزود عن الدين أو القبيلة..

مقالات ذات صلة

وأما "أطرف" ما في الأمر فهو حين تُفلس تماماً هذه الانظمة بحكم تمرد الناس على سوء أحوالها، أي حين يفشل الضبط السالف. ماذا تقول حينها؟ أن خطر "الفوضى" يتهدد البلاد. لا حجة ولا أي برنامج ولا أي فكرة. التلويح فحسب بالفوضى: ألم تروا ما حدث في سوريا وفي اليمن وفي ليبيا؟ اتريدون حكماً جائراً كحكم السيسي في مصر، يُحصي الانفاس؟ اهدأوا إذاً و"دعونا نعمل دعونا نمر"، وارتضوا بالمُرّ، فهناك ما هو أمَرٌ منه! وهو ذاته المنطق الاستعماري وإن معدلاً بحكم مقتضيات الهوية. إختفى الخطاب وحل بديلاً منه خواء خانق. وفي الجزائر سمح "للاشقاء السوريين" حين فروا اليها بعد 2011، بان يتسولوا في الطرقات شرط إبراز جواز سفرهم السوري على أكفّهم. وكان ذلك لا يحتاج لتعليق. كان تربية مسبقة للجزائريين.

ثم لو لم ينفع كل ذلك، يُعتدّ بالكلفة العالية لما سيُدفع مقابل الاحتجاج أو المطالبة أو الثورة – ولو أن المطروح اليوم في الجزائر، في الواقع وفي الافق، ليس ثورة. ولكن أي تحرك، مهما كانت مطالبه، يبدو على الدوام في عيون هذه السلطات، الجشعة والمذعورة في آن، وكأنه ثورة أو تمهيد لها. وبالمناسبة، وطبعاً، فالثورة حق لكل الشعوب! تقول هذه السلطات: فكروا، هل يستحق الأمر العناء؟ سقط في سياق الثورة الفرنسية - وهي علامة بارزة في تاريخ البشرية – وخلال سنوات قليلة بعد 1789 ما يربو عن مليون قتيل. هل كان الأمر يستحق العناء؟ هل صنع الثوار تلك الثورة حتى "تلتهم أبناءها" على ما يقال دائماً بخصوص الثورات.. حتى تلد نابوليون ثم "الجمهورية الثالثة" بعد مئة عام من الصراعات والتقلبات والتدخلات الاجنبية والخيبات والخيانات، وأيضا المبادئ والمنجزات الانسانية والتاريخية.. هل نتفحص الثورة البلشفية مثلاً على ضوء ستالين؟ هل يُعقل أن يصنع الفلسطينيون حركتهم المقاوِمة، مراراً وتكراراً، بينما يُجمع العالم بأسره – من الاستعمارات قديمها وحديثها الى الاتحاد السوفييتي – على تأييد اسرائيل؟ مجانين فعلاً!

ثم هل يلام الناس على الكلفة المدفوعة – وهذا يجعل المنطق هنا يقف مقلوباً على رأسه - أم أن المسئولية الجرمية في ذلك تقع على عاتق االقامعين؟ وهو منطقٌ رجعي محافظ، كائناً من كان قائله، وبغض النظر عن التذويقات (الحجج والبراهين) التي يحيط بها نفسه.

وأخيراً - لو كان هناك "أخيراً"، فهذا صراع لا ينتهي – يُعتد بالجيوستراتيجيا، هذه البدعة البشعة إبنة عم "نظرية المؤامرة"، وكلاهما موجودان بفعالية بالطبع ومنذ فجر التاريخ، وبغض النظر عن التسميات، ولكنهما لم يحولا يوماً دون استمرار الصراع الذي لا يمكنه أن يكون مرتّباً، مهندماً نظيفاً وواضحاً، في أي مِثال. ومفردات الجيوستراتيجيا التوازنات والاولويات والخنادق والمعسكرات.. السلطة الجزائرية أيدت على الدوام، وباختلاف الحقب، الثورة الفلسطينية. فهذا الذي يجري الآن هو إذاً "مؤامرة" صهيونية، أو هي تخدم اسرائيل ومعسكر الرجعية العربية. هناك تنافس على المغانم بين باريس وواشنطن من ناحية وهناك من ناحية ثانية غيرة كل منهما حيال الصين التي أرست مصالح راسخة لها في الجزائر، وهذه التحركات تخدم ولا شك أحد المحاور، فحذاري! وهذا أيضاً منطقٌ رجعي محافظ، كائناً من كان قائله، وبغض النظر عن التذويقات والحجج والبراهين التي يحيط بها نفسه.

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...