لبنان: اللعنة عليكم!

صار كل الناس في لبنان محللين سياسيين مهرة، ولكن عاجزين. تماماً مثلما هما صاحباي، ماهران في مهنتيهما ولكنهما على حافة الجوع!
2019-09-19

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
عدنان شرارة - لبنان

صديقي الخيّاط الماهر والآخر الحلواني الماهر كلاهما تجاوز الستين من العمر. كلاهما يملك محلاً صغيراً يمارس فيه صنعته منذ زمن. كلاهما لا ينتمي الى الـ35 في المئة من اللبنانيين العاطلين عن العمل، بل كلاهما عمل طوال حياته بلا كلل وربى أبناءه حتى نالوا شهاداتهم وصاروا مستقلين.. ومهاجرين في أرض الله الواسعة. يقولان "الحمد لله اننا نفدنا بهم". صاحبايَ لا يعرفان بعضهما، ولكنهما يقولان كلاماً واحداً ويعيشان حالة واحدة.

صاحبايَ لا يملكان ثمن "تشريج" خط هاتفهما الخليوي. الهاتف يستقبل ولا يرسل، وهما استغنيا عن الخط الثابت منذ ظهر الموبايل حتى لا يراكما فاتورتين. وكلاهما لا يملك مولداً للكهرباء وليس بمقدورهما الاشتراك بمولد الحي الذي لا يوفر أصلاً الا طاقة قليلة تصلح لانارة لمبة وليس لتشغيل مبرّدة في هذا الصيف اللهاب، او أي آلة تخص العمل.. في بلد يدفع فيه الناس ثمن الخدمات الاساسية مرتين أو ثلاثة: هكذا يسددون فواتير مصلحة المياه ("ماء الدولة")، وهي على الأغلب آسنة تخالطها مياه مجارير الصرف الصحي - وهذا على الرغم من أن حفر الطرقات وتبديل قساطل المياه وإمدادات أخرى لا يعلم بها إلا الله يكاد يكون ممارسة دائمة - كما ان مياه الدولة تلك مقننة وتنقطع باستمرار، لذا يساهمون في كلفة حفر آبار في أسفل البنايات حين يمكن ذلك، ومياهها آسنة هي الأخرى، أو يملؤون الخزانات على الاسطح بشكل دوري ودائم بماء تبيعه لهم شركات مياه خاصة بواسطة شاحنات مغلقة ("سيترن")، ثم يشترون المياه المعلبة في قناني لمن يستطيع. وهكذا في الكهرباء. فباعتبار ان شركة كهرباء لبنان تعاني من عجز مالي مهول (لماذا؟) وتحتاج الى 2800 مليار ليرة (قد تسلفها منها الدولة 1500 مليارأً)، وضع اجتماع مجلس الوزراء الأخير الذي ناقش موازنة 2020 نفسه أمام أحد خيارين، فإما رفع التعرفة أو زيادة التقنين – أي خفض ساعات التغذية بالتيار - المنخفضة أصلاً وخاصة خارج العاصمة بل وحتى في مناطق بيروت الشعبية - وسيهتدي المجلس ان شاء الله الى تبنيهما معاً! بينما يسدد الناس فواتيرهم لمصلحة الكهرباء ثم لمولدات الحي وهي ملكية خاصة يديرها بلطجية الاحياء، أو لمولدات البنايات نفسها (للفئة المرفهة) وهكذا...

أحد صاحبيّ كان قبل سنوات الحرب يخيط بدلات للرجال من أفخر الاقمشة، وهي مهنة ورثها عن أبيه، وصار اليوم يبدّل سحّاباً معطلاً أو يقصر بنطلوناً أو حتى تنورة. والثاني – وهو ورث الصنعة عن أبيه كذلك - صار لا يعمل الا عند الطلب، إذ لا يجرؤ على عرض بضاعة قد تكسد، ولا يملك أصلاً ثمن موادها الأولية، بل هو يستدينها حين يكون متأكداً من بيع البقلاوة والمعمول، ومن رد أثمان ما اشترى.

ليسا من أسماك القرش، وهي قليلة بالنسبة لمجمل السكان. لذا فقد ظل محل كل منهما كما كان، لم يتوسع ولم ينتقل من مكانه.. وهو على أية حال في موقع مركزي وشارع تجاري. فالمشكلة ليست في هذا. تسير في الشارع فتخال أنه يوم عطلة. قلة من المارة والسيارات. كمية كبيرة من المحلات التجارية المقفلة. إشاعات. حالات صرف عديدة من العمل. مؤسسات عريقة مفلسة أو تكاد. الناس منكفئة في بيوتها. صاحبايَ يصفان نفسيهما بالطبقة الوسطى، "المستورة والحمد لله"، تمييزاً عن الفقراء المعدمين الذين يعانون من الجوع بالمعنى الحرفي، وهم الاكثرية. صاحبايَ بلا تغطية صحية، شأنهما شأن المعدمين. ويقولان إن الضمان الصحي "مثل قلّته" بدليل ان المسجلين فيه ينتظرون أمام أبواب المستشفيات التي ما عادت تستقبلهم لأن الدولة تتأخر في سداد مستحقاتهم، ثم يقولان بصوت واحد – كلٌ على حِدَة – "كل شيء بالواسطة في هذا المجال" (وفي سواه، وحتى لتسجيل ولد في مدرسة رسمية)، ثم يدعوان لنفسيهما ولمن يخصهما بالحماية الربّانية من الأمراض. وهما لم يجريا تأميناً صحياً خاصاً لأنه بالغ الكلفة، ولا يقْدم عليه إلا من يستطيع.

هناك طبقة وسطى مستورة أخرى تجد نفسها أمام تهديد بسلبها جزءاً من معاشاتها التقاعدية المتواضعة أصلاً باسم الضريبة على الدخل (بينما المعاش التقاعدي ليس دخلاً بل ادخاراً جرى اقتطاعه مسبقاً). فرض 6 في المئة على المعاشات التقاعدية في 2019 وتتجه الحكومة لجعلها 8.5 في المئة هذا العام!

بهذه الاجراءات وغيرها يفكر السادة. وربما يقومون بتصفية ما تبقى من الأملاك العامة (كما فعلوا بالاملاك البحرية) لتوفير بعض المداخيل وسد فوائد الدين. ويسمون ذلك "إصلاحات" اقتصادية. يخصصون 60 في المئة من ميزانية لبنان لسداد مستحقات الديون و30 في المئة للرواتب والاجور، ولا يتبقى للمشاريع العامة شيء. بلغ الدين 150 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، أو 85 مليار دولار!

أقام السادة بعد اتفاق الطائف نظاماً ريعياً بلا أساس (فهو قد يُفهم في البلدان النفطية!). قام هذا النظام على المضاربة العقارية والاستفادة القصوى من مشاريع اعادة الاعمار (التي فاقت كلفتها بقدرة قادر ستة أضعاف ما كان محسوباً لها)، وعلى دولرة الاقتصاد البنكي، أي على القبول بوجود نظام مزدوج يجري فيه التعامل – رسمياً وفي كل المجالات - بالدولار كما بالعملة الوطنية. يتربّح من المضاربات العقارية ومن آليات الدولرة الفئات الاكثر نفوذاً وغنى فيزدادون ثراء، وينهار الإنتاج تماماً وتضيق أحوال الناس الى حد الاختناق.

لاحظوا أننا لم نتكلم بعد عن النهب، أي عن السرقة الصريحة التي يمكنها أن تجعل أي مسؤول ينقلب مليونيراً بعد وصوله الى منصبه بقليل. ربما بالرشوة عموماً، أو باقتطاع نصيب من كل ما يمر من تحت أنفه ويحتاج لتوقيعه.. أو باستملاكات مريبة، الى آخر الاحتمالات، وهي مهولة!

المشكلة أن الناس، كل الناس، يعرفون. وصاحبايَ يعرفان. والكلام الوارد أعلاه متداول بين العامة. والاستنتاجات المترتبة عليه من البديهيات. وكذلك الشتائم التي تنهال في السياق،واللعنات، والانفكاك التام العميق بين السادة أصحاب السلطة والمال وبين عموم الناس. ولكن السادة لا يأبهون.

والمشكلة أن الناس، كل الناس، يموتون من الخوف كلما وقع حدث صغير. ثم يطمئنون أنفسهم وأصحابهم بأن "لبنان ما زال محمياً لأسباب سياسية". يعرفون انه ليس أهم من اليونان (ويعرفون ما الذي جرى لليونان!)، ولكن لبنان يقع على حدود اسرائيل، ويختزن معطيات حساسة تتعلق بالتوازنات الطائفية وبموضوع اللاجئين الفلسطينيين فيه، وبالتوتر الذي يبدأ من سوريا التي يتمدد البلد بطوله بقربها، ولا ينتهي بالخليج وايران.. حسناً، صار كل الناس محللين سياسيين مهرة.. ولكن عاجزون. تماماً مثلما صاحبايَ ماهران في مهنتيهما ولكنهما على حافة الجوع!

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...