إذا كانت نساء العالم (والعالم العربي منه) قد استفقن على قدرة المنصات الافتراضية على تشكيل بعض الرأي العام وحشد مناصَرات لقضاياهن الكثيرة، ومنها حملات عالمية لمناهضة التحرش مثلاً، مثل حملة #أنا_أيضاً (أو Metoo#)، فإن الملاحظ ضعف استخدام السوريات والسوريين أنصار النسوية وأصدقائها وصديقاتها لهذا المجال الذي يسمح لهن بالتحرر من ضغوطات مجتمعية وسياسية متنوعة، ونقل قضاياهن المتجاهAلة ـ المتعددة ـ من الصحافة واﻹعلام المرئي ومن المجتمع إلى مساحات جديدة يمكن فيها تحقيق أثر تراكمي عادل لقضاياهن مع اﻷيام.
أصبح لدعم تفكيك سرديات التحرش - عميقة الصلة بالجانب المظلم لمختلف المجتمعات - ولعملية طرحها في الفضاءات الافتراضية حظوظ واسعة في تحقيق أثر إيجابي ليس فقط لسعة انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، بل لقدرتها على تقديم تلك السرديات السوداء دون تعريض حياة كثيرات (وكثير من اﻷطفال) للخطر بأنواعه، يضاف لها الانتشار الواسع لهذه المنصات واحتمال تأمين مناصرين من خارج الدائرة الضيقة للمجتمع المعني. لكن التجربة السورية في هذا المجال لم تظهر إلا في ما تعرضت له السوريات في مخيمات النزوح أو في البلدان المجاورة، دون انتقال تأثيرها عملياً إلى داخل البلاد.
وهكذا، ففي العالم العربي يمنع خوفُ العار الاجتماعي والعائلي الضحايا (النساء واﻷطفال أولهم) من الإبلاغ عن الجناة - حتى في الواقع الافتراضي - ويبقى التحرش الجنسي جزءاً من الحياة اليومية.
بالمقابل، فمن الصحيح أن الشبكات والمنصات الافتراضية قد فتحت باباً مضافاً للتحرش بأنواعه الجديدة (تعليقات، إيميلات، مقاطع فيديو سهلة الوصول عبر الموبايل الشخصي).
تحرش بالمدافعات وتهديد بالقتل
هذا التحرش اﻹلكتروني يعلو باتجاه العنف في قطاع المدافعات عن حقوق اﻹنسان والقضايا المشابهة، مع وجود تهديدات صريحة تصل إلى حدود التهديد بالقتل لمن تمارس حريتها بنشر وفضح التعديات التي تطال النساء المعنّفات أو ضحايا التعذيب. تشير إحدى الناشطات السوريات في مجال الدفاع عن حقوق المرأة إلى تهديدها العلني على صفحتها بالقتل عندما فضحت ممارسات ما يجري في بعض السجون السورية الحكومية، بالوقت نفسه الذي تعرضت فيها لتهديدات مماثلة عند تناولها واقع النساء في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة.
تسمح تقنيات التواصل بالتخفي أو اﻹخفاء أو إغلاق الحساب، لكن التهديدات تنتقل واقعياً الى الشخصيات العامة الحاضرة في النشاط المجتمعي.
التوظيف السياسي للتحرش؟
تزامن وصول منصات التواصل الاجتماعي إلى الفضاء السوري مع انطلاق الحراك الشعبي في آذار/مارس 2011. فبعد أن كان فيسبوك وتويتر محجوبين حتى شباط/فبراير 2011 اتخذت السلطات السورية قراراً بفتح تلك المنصات فتحول فيسبوك في وقت قصير إلى المنصة اﻷكثر استعمالاً لدى السوريين (يليها "واتساب" ثم "تليغرام" مؤخراً، ويحتل تويتر موقعاً متأخراً). واليوم هناك 36 في المئة من السوريين قاطنين في اﻹمبرطورية الزرقاء أي حوالي 5.5 مليون من إجمالي مستخدمي اﻷنترنت داخل البلاد البالغ عددهم حوالي 16 مليوناً (2017)، وبنسبة جندرية متقاربة، وفقاً لتقرير نشرته كلية دبي للإدارة الحكومية(1).
تشير إحدى الناشطات السوريات في الدفاع عن حقوق المرأة إلى تهديدها العلني على صفحتها بالقتل عندما فضحت ممارسات ما يجري في بعض السجون السورية الحكومية، بالوقت نفسه الذي تعرضت فيها لتهديدات مماثلة عند تناولها واقع النساء في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة.
فيسبوكياً، تبدو "الغنيمة" ﻷطراف النزاع السوري ثمينة في حال كان اﻵخر، المختلَف معه، "أنثى" (وقد يكون الحساب مزوراً أو منتحِلاً للصفة)، فتظهر فرصة للقصف بأبشع الصفات التي تستخدم الألفاظ الجنسية حاملاً لغوياً.
كان فيسبوك، وما يزال، الساحة الافتراضية الموازية والمتداخلة واقعياً مع ساحات الصراع السوري بكافة أشكاله. وبلغ التخندق فيه، كما في الواقع، حدوداً مرعبة، فبات ما يفرّق السوريين في أي أمر أكثر مما يجمعهم (باستثناء المكدوس!). وربما يكون فهم هذا الانقسام الافتراضي مدخل لمعرفة أسباب غياب قضايا اجتماعية سورية (مشتركة) كثيرة عن هذه المنصات، ومنها التحرش، إذ أن القطيعة السياسية الناتجة عن الموقف من انفجار آذار/مارس 2012، أفرزت صورتين متقابلتين متضادتين للسوري تقومان على تسفيه اﻵخر وشيطنته وإقصاءه من المجال اﻹنساني. وأدى ذلك الى انزياح باتجاه الحقل السياسي عبر اتهام اﻷطراف لبعضها البعض بحوادث تحرش جنسية الطابع في أغلبها، خاصة على الحواجز العسكرية المسلحة وأماكن اللجوء الداخلي وأماكن اﻹقامة المؤقتة والمخيمات في مختلف المناطق. وتم استخدام الوقائع الحقيقية الحدوث - عبر نقلها إلى الشبكة الافتراضية - لإثبات شيطنة اﻵخر دون البحث في كونها فعلاً متجذّراً في السياقات المجتمعية السورية ﻷسباب سابقة على الحرب، وأن الظاهرة ليست منتجاً رئيسياً للحرب بقدر ما هي استمرار ﻷمر قديم وضرورة إبعادها عن المبازرة السياسية باعتبارها فعلاً لا إنسانياً يؤذي المجتمع ككل وليس فقط أطراف المشكلة.
فيسبوكياً، تبدو "الغنيمة" ﻷطراف النزاع السوري ثمينة في حال كان اﻵخر، المختلَف معه، "أنثى" ـ قد يكون حسابها الشخصي مزيفا،ً ولكن لا بأس. فهناك فرصة للقصف بأبشع الصفات التي تستخدم الألفاظ الجنسية حاملاً لغوياً يتجاوز ما يتم تناقله في الواقع بخفوت إلى علو الصوت الافتراضي بشمولية الشتائم للعائلة وأصلها وفصلها وتاريخها. وبالطبع، فتاريخ الشتائم (الجنسية وغيرها) بين السوريين أقدم من فيسبوك ولكن انتقالها إلى الفضاء اﻷزرق حدث في ظل انقسام مبكّر ومنفلت من أي ضوابط أخلاقية أو اجتماعية، بما فيها ضوابط فيسبوك نفسها (التي تطورت لاحقاً إلى حدود الرقابة).
من الواقع إلى الشبكة: طريق مغلق؟
يتيح استخدام هاشتاغ #التحرش_في_سوريا التأكد من أن نقل بعض الوقائع اقتصر على تناول وقائع تحرش لفظي أو فعلي بحدود دنيا على الصفحات الزرقاء، ويكاد يخلو يوتوب من مقاطع سورية عن اﻷمر.
تعيد "ابتسام أحمد"، إحدى الناشطات المجتمعيات من محافظة حمص السبب إلى أمرين، اﻷول، التفكك الكبير الذي طال العائلة السورية بسبب "اﻷزمة" وتركها في مهب الريح في ظل انشغال الذكور بالحرب بنسبة واسعة لدى أطراف النزاع، ولا جمعيات ولا محامين. يتضح اﻷمر أكثر عند الحديث عن الظاهرة في دول اللجوء، داخل العالم العربي وخارجه، حيث تنتشر ظاهرة التحرش بوضوح وتُجبر المرأة على الصمت في غالب اﻷحيان لأنها في بلد غريب (لا تعرف قوانينه) وليس لديها أي مناصرين. وبالطبع، يتحمل النظام السياسي السوري تبعية هذه الأفعال في ظل نظرته للمهجّرين وطريقة تعاطيه الفوقية واللاإنسانية معهم. والثاني أنه في حال وجود سند ذكوري، يكون السكوت هو الغالب، داخل البلاد وخارجها، فهناك "من يترقب وينتظر"، وهناك أمر تقني مضاف، هو أن استخدام اﻷسماء المستعارة يجعل من التشكيك في الرواية المقدمة عالياً وبالتالي يلغي النتائج المحتملة للأمر.
هناك 36 في المئة من السوريين قاطنين في اﻹمبرطورية الزرقاء، أي حوالي 5.5 مليون من إجمالي مستخدمي اﻷنترنت داخل البلاد البالغ عددهم حوالي 16 مليوناً (2017)، وبنسبة جندرية متقاربة.
وتغيب الدراسات الاجتماعية عن الميدان تقريباً، ولعل السبب اﻷساسي في هذا الغياب مرتبط ببنية الدولة الأمنية نفسها التي يمتنع فيها الضحايا من الشكوى بسبب الخوف من تبعات الدخول في هذه المعممة، وبغياب تنفيذ القوانين ـ أو هي غير موجودة ـ وبالطابع الذكوري لهذه اﻷجهزة حيث لا تجرؤ الضحايا وهنّ نساء وأطفال، على تجاوز الاتهام المسبق لهن بأنهنّ سبب ما حدث، وهي الصورة النمطية لتعامل المجتمع مع القضية، عدا عن الخوف من القطيعة الاجتماعية والعائلية والعقاب الممكن أن يحدث لهنّ ولهم بخرق هذا التابو.
من الشبكة إلى الواقع: الطريق مغلق أيضاً
لم يساهم الانتشار الواسع لحملات مناهضة التحرش، عربياً وعالمياً، في ظهور أي منابر سورية فاعلة في فضح الظاهرة وتفكيك سرديتها والقيام بمناصرات فاعلة، سواء لبناء فعل أو رد فعل مجتمعي عليها، أو على اﻷقل، لتأمين مساحات يمكن فيها توثيق الظاهرة بعيداً عن التبعات التي يمكن أن تطال الضحايا، وهو أمر ممكن وليس صعباً تقنياً.
القطيعة السياسية الناتجة عن الموقف من انفجار آذار/ مارس 2012، أفرزت صورة متقابلة للسوري، تقوم على تسفيه اﻵخر وشيطنته وإقصاءه من المجال اﻹنساني. وأدى ذلك الى انزياح الحقل السياسي عبر اتهام اﻷطراف لبعضها البعض بحوادث تحرش جنسية الطابع في أغلبها.
لعل أهم عوائق هذا اﻷمر، غياب وجود إرادة حقيقية من قبل السلطات (والمحامين والنقابات والجمعيات) ﻹنجاز أي تعديلات تتعلق بهذا الشأن، بغياب أية قوانين رادعة أو مجرّمة أو معاقبة لفعل التحرش عن التشريعات السورية، وهو ما يعني لدى المهتمين ربما، عبثية اﻷمر. فليس هناك أي تعريف يحدد التحرش في قانون العقوبات أو يجرمه كفعل بحد ذاته، ولا توجد مادة جزائية تجرمه تجريماً واضحاً وتعاقب عليه. المادة 506 من قانون العقوبات السوري تنص على أن "من عرض على قاصر لم يتم الخامسة عشرة من عمره أو على فتاة أو امرأة لهما من العمر أكثر من خمس عشرة سنة عملاً منافياً للحياء أو وجه إلى أحدهم كلاماً مخلاً بالحشمة، عوقب بالحبس التكديري من يوم إلى ثلاثة أيام، أو بغرامة لا تزيد على خمسة وسبعين ليرة أو بالعقوبتين معاً". وعلى الرغم من المصادقة على اتفاقية سيداو، فإن المشرّع السوري لم يخط خطوة واحدة باتجاه تفعيل بنود الاتفاقية التي تتناول في موادها حقوق اﻹنسان والطفل والمرأة بشكل خاص ومنها ما يتعلق بالتحرش.
من ملامح أزماتنا الجنسية
19-11-2015
في محاولة أجرتها "شبكة المرأة السورية" العام 2018 تبين لها في استبيان وجّهته إلى 118 سيدة أنهن جميعاً تعرضن ﻷحد أنواع التحرش، إلا أن اﻹبحار على الشبكة العنكبوتية نفسها يوضح من جديد أن الحديث عن التحرش منحصر في الاستخدام السياسي لا الاجتماعي ولا اﻹنساني. يوجد عشرات المقالات التي تتهم هذه الجهة أو تلك بالتحرش (الجنسي واللفظي وغيره) دون تقديم أدلة مثبتة عن اﻷمر، لتبدو الاتهامات المتبادلة في حقل البروباغندا اﻹعلامية لكل اﻷطراف.
التحرش الفكري الأكثر انتشاراً على الشبكة
في ظل انكسار القطيعة التواصلية المجتمعية بين الذكور واﻹناث على المنصات الاجتماعية فإن مزيداً من أنواع التحرش قد أخذت مكانها، ومنها ما هو قادم من قلب المجتمع ويتجلى بصورة افتراضية تعكس أنماط تفكير قطاع واسع من الأشخاص في علاقتهم بالجنس اﻵخر، ونعني به التحرش الفكري.
في هذا النوع من التحرش يظن الذكر أن (من حقه) التحرش بالأنثى على المنصات الاجتماعية ﻷنها ارتكبت خطأً ما يتعارض مع قيم المجتمع أو الشريعة أو الدين أو حتى الموقف السياسي، ليس في اللباس فقط، بل وحتى في النقاش الفكري. ويلعب الذكر هنا دور الحامي المدافع عن "العرض والكرامة واﻷخلاق" المقاسة على حسب عقله.
متى ينتهي الصمت؟
حسب حركة #أنا_أيضاً فإن 17.8 مليون إمرأة أميركية استجبن للحملة وافدن بتعرضن للتحرش في مرحلة ما من مراحل حياتهن، وهو رقم تسانده أرقام موازية في مناطق العالم المختلفة، في حين يذكر استبيان قامت به "شبكة المرأة السورية" (مستقلة) أن استجابة السوريات للحملة لم تتجاوز عدد أصابع اليد(2).
______________
1- mbrsg.ae/getattachment/1383b88a-6eb9-476a-bae4-61903688099b/Arab-Social-Media-Report-2017
2- نفذ بالتعاون مع راديو روزنة بتاريخ 20 أيلول/سبتمبر 2018.