الفقر في مصر... حدة الخطوط ومخالب الأرقام

صدر مطلع تموز/ يوليو الماضي، بعد عامين من البحث الميداني والتحليلي، تقرير "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" عن الدخل والإنفاق العام في مصر. ووفقاً له، ارتفعت معدلات الفقر في البلاد لتصل إلى 32.5 في المئة من عدد السكان.
2019-09-04

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
عبد الهادي الجزّار - مصر

هل يمكن اختصار الفقر في رقم؟ نعم! فللأرقام مخالب يمكنها حفر الحقيقة فوق جدار الزمن.

لقد تحولت الحياة اليومية داخل البيت المصري إلى دائرة محمومة من الأرقام. إنهم يحسبون ليل نهار كيف يمكن لهذه الأرقام أن توائم ما بين قدر الراتب وحجم الإنفاق، ما بين ترتيب عمود الاحتياجات الأساسية وتوقيف مسار الأحلام المرئية.

تقول إحدى الأمهات: يمكننا تأجيل "شوار البنت" هذا العام استعداداً للزواج، مقابل حصول أخيها على نصف مكافأة نهاية خدمة أبيه من أجل توفير فرصة للسفر قد تعيننا جميعاً في ما يلي من أيام.. أيام تلو أيام، هي الأخرى يمكن حسابها بالأرقام. إنها أسرة ذات شهادات دراسية عليا، يعمل الزوجان مدرّسَين منذ ما يزيد عن أربعين عاماً، ثلاثة أولاد لا أكثر، تخرجوا جميعاً من الأسوار الجامعية، ولا عزاء لظروفهم المهنية.

هذه الحالة، رغم كآبتها، تبدو مثالية إذا ما قورنت بأرقام أخرى في مصر، يشير أحدثها إلى تأرجح 33 مليون من أهلها ما بين خط الفقر القومي والغذائي والمدقِع.. وهكذا زادتهم حدة الخطوط وجعاً، اكتمل به كمد الأرقام.

مهام بحثية

صدر مطلع تموز/ يوليو الماضي، بعد عامين من البحث الميداني والتحليلي، تقرير "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" عن الدخل والإنفاق العام في مصر. ووفقاً له، ارتفعت معدلات الفقر في البلاد لتصل إلى 32.5 في المئة من عدد السكان، مقابل 27.8 في المئة لعام 2015/ 2016، وسجل حد خط الفقر ب 8827 جنيه سنوياً، بواقع 735.5 جنيه شهرياً للفرد، حسبما أظهرت نتائج البحث عن العام المالي 2017/ 2018.

وجاء ذلك بعد عام من التطبيق الكامل لـ"برنامج الإصلاح الاقتصادي"، أو لشروط صندوق النقد الدولي الذي منح قرضاً لمصر بقيمة 2 مليار دولار مقابل رفع تدريجي لكافة خدمات الدعم في الوقود والمواصلات والصحة والتعليم، وتحرير سعر الصرف، ليقفز سعر الدولار خلال ثلاثة أعوام من 8 إلى 18 جنيه مصري.

تحولت الحياة اليومية داخل البيت المصري إلى دائرة محمومة من الأرقام. إنهم يحسبون ليل نهار كيف يمكن لهذه الأرقام أن توائم ما بين قدر الراتب وحجم الإنفاق، ما بين ترتيب عمود الاحتياجات الأساسية وتوقيف مسار الأحلام المرئية.

تضمنت أبرز نتائج "البحث الرسمي" ارتفاع متوسط الدخل السنوي للأسرة التي لا يزيد عددها عن خمسة أفراد من 44.2 ألف جنيه في 2015 إلى 58.9 ألف جنيه في العام 2017/2018، وسجل متوسط الإنفاق السنوي للأسرة في ذلك العام 51.4 ألف جنيه مقابل 36 ألف جنيه في 2015.

وأشار التقرير إلى أنه تمّ تنفيذ البحث الميداني لعام 2018 على 26 ألف أسرة من مختلف المحافظات، وبدأ البحث في تشرين الأول/ أكتوبر 2017.

أرقام تفصيلية

شمل التقرير أرقاماً أخرى هامة استحقت إبرازها في عناوين خاصة، كالتوزيع الجغرافي للفقر، وعلاقته بمستوى التعليم.. تصدر صعيد مصر (جنوبي البلاد) قائمة المحافظات الأكثر فقراً في الجمهورية، حيث سجلت محافظة أسيوط نسبة فقر بين مواطنيها بلغت 66.7 في المئة، تلتها محافظة سوهاج بنسبة 59.6 في المئة، وجاءت المحافظات الأقل فقراً بمحاذاة الساحل، وعلى رأسها محافظتا "بورسعيد" و"دمياط".

نعم، تراجعت معدلات الفقر في ريف الوجه القبلي بنحو 4.8 في المئة، إلا أنه لا يزال نحو 52 في المئة من السكان فيه ـ وفقاً للتقرير ـ لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية، ويبلغ عددهم نحو 12.5 مليون مواطن. بل أن ثلث الفقراء بشكل عام يسكنون الريف. وقد أشار التقرير إلى أن ما يقرب من 46 قرية في محافظة سوهاج، تتراوح نسبة الفقر فيها بين 80 إلى 100 في المئة، فضلاً عن معاناة 236 قرية، بما يمثل 87 في المئة من القرى ككل في تلك المحافظة.

ومن البعد المكاني عن العاصمة إلى سلم التعليم. فقد وصلت نسبة الفقر بين الأميين إلى 39.2 في المئة، وارتفعت نسبة الفقر بين من يقرأ ويكتب إلى 37.9 في المئة (مقابل 32.9 عام 2015)، وتراجعت بين الحاصلين على شهادة محو الأمية إلى 33 في المئة بعدما كانت 35.7 في المئة. ومن غير المتعلمين لحاملي الشهادات، ارتفعت نسبة الفقر بين الحاصلين على شهادة الابتدائية إلى38.3 منهم مقابل 32.6في المئة للفترة السابقة، وبين الحاصلين على شهادة الإعدادية إلى 34.4 في المئة مقابل 27.5 في المئة سابقاً، وارتفعت النسبة بين الحاصلين على شهادات الثانوية الفنية إلى 28.6 في المئة مقابل 21.7 في المئة سابقاً .

تصدر صعيد مصر (جنوبي البلاد) قائمة المحافظات الأكثر فقراً في الجمهورية، حيث سجلت محافظة أسيوط نسبة فقر بين مواطنيها بلغت 66.7 في المئة، تلتها محافظة سوهاج بنسبة 59.6 في المئة.

وكان الأمر الصادم أكثر من غيره، هو ارتفاع نسبة الفقر بين الحاصلين على شهادة جامعية إلى 11.8 في المئة مقابل 7.1 في الارقام السابقة، وبين الحاصلين على شهادة أعلى من الجامعي إلى 5.5 في المئة مقابل 2.9 في المئة سابقاً. .

وقال الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، إن النتائج خلصت إلى أن التعليم المنخفض هو أكثر العوامل ارتباطاً بمخاطر الفقر في مصر، حيث تتناقص مؤشرات الفقر كلما ارتفع مستوى التعليم.

فقر مادي أم غذائي أم مدقِع؟

تسبب الإعلان الأخير عن أرقام الفقر في صدمة ساخرة - إذا صح التعبير - قادها من يستطيعون دفع اشتراكات الانترنت للكتابة على حساباتهم الخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي. توالت الأسئلة: من أين جاء هذا الرقم؟ كيف تم حسابه؟ كيف يكفي مبلغ 700 جنيه لتلبية الاحتياجات الأساسية لفردٍ واحد، في بلد لا سيطرة للدولة فيه على حركة الأسعار بالأسواق، التي شهدت بدورها موجات غلاء تفوق هذا الارتفاع الشديد في درجات الحرارة صيفاً؟

من؟ وأين؟ وكيف؟ هل ثلثنا فقط فقير؟ أم أن أقل من الثلث الأخير يملك وحده فرصة العيش الكريم؟ التقرير الهام، والذي يصدر كل عامين في مصر - ودائماً ما تصاحبه البلبلة نفسها - يؤكد أن هناك "الفقر المادي، وهو عدم قدرة الفرد على توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للفرد أو الأسرة"، وتم تحديد هذه الاحتياجات الأساسية بالطعام والمسكن والملابس وخدمات التعليم والصحة والمواصلات. وعليه، فإن تكلفة الحصول على السلع والخدمات الأساسية للفرد أو الأسرة هو ما يسمى بـ"خط الفقر القومي". و"الفقراء" هم المواطنون الذين يقل استهلاكهم الكلي عن تكلفة خط الفقر القومي.

المستوى الآخر للفقر، هو "الفقر المدقع"، أي من يقل استهلاكهم الكلي عن خط "الفقر الغذائي"، أي بالكاد يوفرون قوت يومهم أو لا يستطيعون ذلك. وأشار التقرير إلى أن نسبتهم في مصر تصل إلى 6 مليون مواطن.

تسبب الإعلان عن أرقام الفقر في صدمة ساخرة قادها من يستطيعون دفع اشتراكات الانترنت للكتابة في مواقع التواصل الاجتماعي. توالت الأسئلة: من أين جاء هذا الرقم؟ كيف تم حسابه؟ كيف يكفي مبلغ 700 جنيه لتلبية الاحتياجات الأساسية لفردٍ واحد، في بلد لا سيطرة للدولة فيه على حركة الأسعار بالأسواق.

في مقابل هذا الرقم وتلك المنظومة الحسابية، هناك مقاييس أخرى يطلقها البنك الدولي بين الحين والآخر، فهو أصدر "مؤشر الفقر متعدد الأبعاد" لعام 2016، ووفقاً له، وعبر إحصاء دولي، تم تحديد 1.9 دولار يومياً كخط للقضاء على الفقر، أي أن من كان دخله اليومي أقل من 1.9 دولار فهو "فقير"، وعليه تم تحديد عدد فقراء العالم بـ1.6 مليار إنسان.

.. رقم يحتاج هو الآخر لمزيد من التأمل. ولكن إذا ما تم تطبيقه على الحالة المصرية، فإن 1.9 دولاراً يومياً تعادل 18 جنيهاً، أي حوالي 840 جنيهاً مصرياً في الشهر. الرقم نفسه المطروح محلياً، ولكن كليهما لم يأخذ في الاعتبار أنه لا يمكن تكرار الرقم لحسابه وفق متوسط عدد الأسرة (5 أفراد)، فكثير من الأسر المصرية تعتمد بشكل كامل على الدخل الشهري لـ"الأب" أو "الأم المعيلة"، وعليه فإن أسرة كاملة قد تعيش على الـ800 جنيه شهرياً، أي أنها تنحدر تحت الخط المحدد أربع مرات للأسفل ولا ينقذها أحد.

وتتأكد من صحة الرقم حين تقارنه بمستوى المعاشات الاجتماعية التي يحصل عليها 2.5 مليون مصري، وهم المعترف بهم رسمياً كمواطنين أولى بالرعاية، فلا يزيد معاش الأسرة بحال من الأحوال عن 1300 جنيه شهرياً لعدد من الأفراد لا يقل عن الخمسة.

تساؤلات حدية

كتب الخبير الاقتصادي "مصطفى كامل السيد" تعليقاً على التقرير الرسمي، قال فيه أن هذه الأرقام نتيجة بحث مضنٍ، وعمل خبراء حقيقيين في مجال فهم معدلات الفقر، وعليه لم يشكك بالأرقام، لكن دعا للتأمل في القفزات السريعة المتتالية في تسجيل معدل الفقر في مصر. فمن 16.7 في المئة من المواطنين عام 2000/1999 إلى 32.5 في المئة في العام الأخير: الضعف مباشرة في أقل من عشرين عاماً.

وهو ما يطرح سؤالاً حول ما إذا كان ما يعانيه الملايين في مصر، هو فقر "الموارد" أم فقر "القدرات" إذ رأى أن ثقافة إدارة الفقر في مصر، وما تفرضه السياسات العامة لا ينذر بخير، بل هو المسؤول عن فقد الملايين - وبشكل سريع - لقدرتهم على تحسين ظروفهم للخروج من الفقر.

هذا البلد الذي يعاني ما يقارب من نصف سكانه من الفقر، اختفى من موازنته العامة في عام واحد (هو العام 2010) ترليون و272 مليار جنيه، ذهبت إلى صناديق خاصة لا يعلم الناس عنها شيئاً.

فأصبح السؤال: هل يعني "الفقر" افتقاد فرصة "الحياة الكريمة" أم البقاء حد الكفاف، حد قدرة البقاء على قيد الحياة؟

هذا البلد الذي يعاني ما يقارب من نصف سكانه من الفقر، اختفى من موازنته العامة في عام واحد (هو العام 2010) ترليون و272 مليار جنيه، ذهبت إلى صناديق خاصة لا يعلم الناس عنها شيئاً. هذا المبلغ نفسه ودون فوائد، إذا تم توزيعه اليوم ـ بعد ما يقارب عشرة أعوام ـ على من اعترفت بهم الدولة رسمياً ك"فقراء"، فسيصل نصيب الفرد منهم إلى 40 ألف جنيه: فلتمنحه لهم الحكومة! وتترك لهم إدارة حسابات فقرهم بأنفسهم؟

مقالات ذات صلة

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...