تونس تستعد لانتخاب رئيسها..

رحيل السبسي فرض تقديم الرئاسية على التشريعية، واختارت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات يوم 15 أيلول / سبتمبر القادم موعداً للدور الأول من الانتخابات الرئاسية، مما بعثر أوراق الطبقة السياسية، وأجبرها على مراجعة حساباتها وحتى إعادة النظر في تحالفاتها. هنا استعراض للمرشحين الأبرز.
2019-08-29

شارك
كريم رسن - العراق

رحل الباجي قائد السبسي، أول رئيس جمهورية منتخب ديمقراطياً في تاريخ تونس. الرجل الذي عمّر طويلاً (توفي عن 92 سنة) وامتدت مسيرته السياسية لأكثر من ثلاثة أرباع القرن، لم يستطع أن يكمل الأسابيع القليلة المتبقية في عهدته الرئاسية. وعلى الرغم من عدم وجود محكمة دستورية تُثبت شغور منصب رئاسة الجمهورية، وتُشرف على نقله لرئيس مجلس نواب الشعب - كما ينص على ذلك الدستور - فإن الأمور سارت بسلاسة، وتولّى رئيس البرلمان، محمد الناصر، رئاسة الجمهورية مؤقتاً في انتظار انتخاب رئيس جديد. وهكذا وجدت "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" نفسها مضطرة لتعديل رزنامتها الأصلية. فقد كان من المفترض أن تنظِّم التشريعية أولاً في بداية تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ثم الرئاسية بدوريها في تشرين الثاني / نوفمبر 2019. رحيل السبسي فرض تقديم الرئاسية على التشريعية، واختارت الهيئة يوم 15 أيلول / سبتمبر القادم موعداً للدور الأول من الانتخابات الرئاسية، مما بعثر أوراق الطبقة السياسية، وأجبرها على مراجعة حساباتها وحتى إعادة النظر في تحالفاتها.

قارب عدد المترشحين للرئاسة المئة في بلد يعيش "انتقالاً ديمقراطياً" يرى الكثيرون أنه طال أكثر من اللازم، ويأملون أن تكون انتخابات 2019 الخطوة الأخيرة نحو ديمقراطية راسخة ومستقرة.

ترشحات بالجملة

خصصت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الفترة الممتدة من 2 إلى 9 آب / أغسطس لتلقّي ملفات المترشحين لمنصب رئيس الجمهورية، فورد إليها 98 ملفاً: 86 مترشحاً و12 مترشحة. أغلب هذه الترشحات غير جدية، وأصبحت مادة للتندر في منصات التواصل الاجتماعي. فالبعض "تميَّز" بهندامه الغريب، وآخرون حملوا ملفات ترشحهم في أكياس بلاستيكية، والبعض الآخر أعلن عن برامج غريبة مثل إلغاء الأحزاب والديمقراطية، أو فرض السلام والعدل في العالم، أو الدفاع عن لبس "الشورت" الخ الخ... طبعاً الكثير من المترشحين يعلمون أن لا أمل لهم في الفوز، لكنهم أرادوا إحداث ضجة أو تسلية، حتى أن بعضهم مشكوك في سلامة مداركه العقلية.

طوفان الترشيحات هذا، وإن أثار غضب بعض التونسيين الذين اعتبروه انتقاصاً من أهمية وهيبة منصب الرئيس، إلا أن البعض الآخر اعتبره مؤشراً صحياً: فمن جهة، لم تعد للرئيس قداسة أو هالة تحميه من النقد وحتى السخرية، ومن جهة أخرى أصبح التونسي يعتبر نفسه مواطناً كاملاً يستطيع الوصول (نظرياً على الأقل) لأرفع المناصب بفضل الديمقراطية. على كل حال قامت الهيئة بدراسة كل الملفات، وأسقطت أغلبها لتُبقي على 26 ملفاً (في انتظار قرارات المحكمة الإدارية بخصوص طعون قدمها مرشحون تمّ اسقاطهم). وهذه استوفت الشروط، وقدمت كل الوثائق والضمانات اللازمة: 24 مترشحاً ومترشحتين فقط.

ما الذي يعنيه أن تكون رئيس تونس؟

على المستوى الشعبي، وعلى الرغم من اهتزاز صورة رئيس الجمهورية، فإن عقوداً من الديكتاتورية ما زال لها تأثير في تمثّل الناس للسلطة والمناصب، وما زالت رئاسة الجمهورية مهمة في أذهان الناس عموماً، بغض النظر عن التغيرات السياسية والدستورية. أما بالنسبة للطبقة السياسية، فإن أبرز نقطة تشترك فيها خطابات وبرامج أغلب المترشحين "الجديين" للرئاسة هي "سوء فهمهم" لدور وصلاحيات رئيس الجمهورية، إما عن جهل (وهذا مستبعد) أو عن سوء نية. فالكثير من المترشحين يقدِّمون وعوداً لا يمكن تنفيذها، ليس لأنها مستحيلة، بل لأنها تمس قطاعات ومجالات ليست أصلاً من اختصاصات رئيس الجمهورية، بل هي تعود الى رئيس الحكومة والبرلمان. مرشحون آخرون، على العكس، يقدمون برامجاً ضبابية ومقتضبة وبنودها "رمزية" تحت ذريعة أن رئيس الجمهورية لا صلاحيات له تقريباً.

طوفان الترشيحات (98 ملفاً) أثار غضب بعض التونسيين، الذين اعتبروه انتقاصاً من أهمية وهيبة منصب الرئيس. إلا أن البعض الآخر اعتبره مؤشراً صحياً: فمن جهة، لم تعد للرئيس قداسة أو هالة تحميه من النقد وحتى السخرية، ومن جهة أخرى أصبح التونسي يعتبر نفسه مواطناً كاملاً، يستطيع الوصول (نظرياً على الأقل) لأرفع المناصب بفضل الديمقراطية.

عاشت تونس منذ تأسيس الجمهورية في 25 تموز / يوليو 1957 إلى هروب الديكتاتور بن علي في 14 كانون الثاني / يناير 2011 تحت حكم نظام رئاسي بصلاحيات وسلطات ملكية. ففضلاً على أن دستور 1959 اعتبر رئيس الجمهورية رأس السلطة التنفيذية، فإنه منحه صلاحيات واسعة في السلطة القضائية والتشريعية، ومنحه حق تعيين الوزراء وكبار الموظفين. ومع غياب الديمقراطية وقمع المعارضة والحريات، كان رئيس الجمهورية هو الدولة حرفياً، وكل المناصب الأخرى مجرد ملحقات تُمنح حسب الولاءات. هذا الإرث من الانحرافات الرئاسوية خلق نوعاً من الحساسية من منصب رئيس الجمهورية، وهذا ما انعكس خلال صياغة دستور تونس الجديد ما بين 2011 و2014. فأغلب القوى السياسية كانت تقترح تعديل هياكل السلطة في تونس إما عبر تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، أو بإرساء نظام برلماني صريح (كان هذا مطلب "حركة النهضة الإسلامية" وجزء من اليسار). وبعد نقاشات مطولة تمّ التوافق على تحجيم دور رئيس الجمهورية لكن دون "إخصائه" كلياً.

خصص الدستور الجديد القسم الأول (17 فصلاً) من بابه الرابع (السلطة التنفيذية) لرئيس الجمهورية. وينص الفصل 72 على أن "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور". وينبّه الفصل 76 على أنه "لا يجوز لرئيس الجمهورية الجمع بين مسؤولياته وأية مسؤولية حزبية". أما بالنسبة للصلاحيات الأساسية، فنجدها في الفصول 77 ،78 ،79، 80: فرئيس الجمهورية هو من يتولى "تمثيل الدولة، ويختص بضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة"، وله حق "حل مجلس نواب الشعب في الحالات التي ينص عليها الدستور"، وإعلان الحرب والسلم بعد موافقة البرلمان. كما أنه يتولى القيادة العليا للقوات المسلحة، ويترأس "مجلس الأمن القومي"، ويصادق على المعاهدات الدولية، ويتولى أيضاً التعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا برئاسة الجمهورية والمؤسسات التابعة لها، وكذلك التعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية والمتعلقة بالأمن القومي بعد استشارة رئيس الحكومة. وبالإضافة إلى كل هذا، فإن لرئيس الجمهورية الحق في اقتراح مبادرات تشريعية على البرلمان مع إعطائها الأولوية في النقاش، ويمكنه أيضاً أن يطرح للاستفتاء الشعبي بعض القوانين التي صادق عليها مجلس النواب الشعب، وأرسلت له لتوقيعها ونشرها. دون أن ننسى كون الدستور الجديد ضمَن لرئيس الجمهورية حصة ثابتة في تعيين أعضاء المحكمة الدستورية.

كان رئيس الجمهورية هو الدولة حرفياً، وكل المناصب الأخرى مجرد ملحقات تُمنح حسب الولاءات. هذا الإرث من الانحرافات الرئاسوية خلق نوعاً من الحساسية من منصب رئيس الجمهورية انعكست خفضاً لصلاحياته خلال صياغة دستور تونس الجديد ما بين 2011 و2014.

لكن تبقى كل الصلاحيات والسلطات الممنوحة لرئيس الجمهورية نظرية وقابلة للتقليص والتمطيط حسب السياق السياسي. وعهدة الباجي قائد السبسي أحسن مثال على ذلك. فقبل فوز الراحل برئاسيات كانون الأول /ديسمبر 2014، كان حزبه "نداء تونس" قد فاز بالمرتبة الأولى في تشريعيات تشرين الأول /أكتوبر من السنة نفسها، فوجد قائد السبسي نفسه مدعوماً بأغلبية برلمانية حزبية مريحة. حزبه فاز أيضاً برئاسة مجلس نواب الشعب وحظي بحق اختيار مرشح لرئاسة الحكومة. خلال سنتي 2015 و2016 تصرَّف قائد السبسي في السلطة كرئيس من الزمن القديم تجتمع في يده أغلب السلطات والصلاحيات، ويعامل رؤساء الحكومات (الحبيب الصيد ثم يوسف الشاهد) كموظفين لديه، وليس كشاغلين لمنصب أقوى من منصبه. لكن مع تشظي حزب "نداء تونس" نتيجة الصراع على المناصب والسلطة، فقد قائد السبسي الدعم البرلماني، ثم تلقى ضربة أخرى عندما انقلب عليه يوسف الشاهد، وسعى لتحجيم سلطته وتحالف مع خصومه لبناء مستقبله السياسي. عاش قائد السبسي السنتين الأخيرتين من حكمه في شبه عزلة سياسية خالصة. الشخص نفسه في المنصب نفسه بالصلاحيات نفسها قد يكون قوياً أو ضعيفاً حسب تحالفاته وتموقعه السياسي.

من هم أبرز المرشحين؟

بعد غربلة الترشحات من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، لم يبقَ إلا 26 مترشحاً، وإذا ما نظرنا إلى موازين القوى في تونس، وشعبية كل مترشح، فيمكن أن نقلِّص العدد إلى أقل من عشرة، مقسمين على مجموعتين. تضم المجموعة الأولى أربعة مرشحين ينتمون لمنظومة الحكم بشقيها القديم (المعاد تدويره) والجديد أي إسلاميي حركة النهضة. ومن شبه المؤكد أن يكون هناك اسم أو اسمان من هذه المجموعة في الدور الثاني من الانتخابات:

- نبيل القروي:

يًعتبر الشخصية السياسية الأكثر إثارة للجدل في تونس حالياً. يمتلك هذا المرشح قناة تلفزية خاصة ("نسمة") ومؤسسة "قروي إند قروي" للإعلان والاتصال، وهو من أكثر رجال الإعلام نفوذاً في تونس، ودائماً ما كان مقرباً من السلطة وداعماً لها، سواء في زمن الديكتاتورية أو بعد "ثورة يناير 2011". لم يسبق له أن شغل أي منصب رسمي، أو ترشح لمقعد نيابي أو بلدي، لكنه لعب دوراً هاماً في صنع المشهد السياسي خلال السنوات الأخيرة. وهو من أهم صناع فوز الباجي قائد السبسي وحزبه "نداء تونس" برئاسيات وتشريعيات 2014، كما أنّ له علاقات متشعبة وغامضة مع مختلف أطياف الساحة السياسية، وكذلك مع مسؤولين نقابيين ورجال أعمال كبار. تتعلق بنبيل القروي عدة قضايا فساد وتهرّب ضريبي وتبييض أموال وتشويه لسمعة ناشطين في المجتمع المدني. وقد سبق أن صدر قرار بمنعه من السفر قبل أن يتم اعتقاله يوم 23 آب / أغسطس. وما زال إلى حد تاريخ كتابة هذه الأسطر موقوفاً بانتظار محاكمته. والى أن يصدر حكم قضائي بات بشأنه، فإن القروي يبقى قانونياً مرشحاً للرئاسة وبإمكانه الفوز والخروج من الزنزانة إلى قصر قرطاج الرئاسي. وقد اعتبر عدد من المتابعين للشأن السياسي أن إيقاف القروي هي ضربة من يوسف الشاهد، رئيس الحكومة الطامح لرئاسة الجمهورية، سعياً منه لإزاحة خصم قوي وخطير. لكن الكثيرين يعتبرون أن الإعتقال كان يجب ان يحصل منذ سنوات.. فأنْ يأتي متأخراً خيرٌ من أن لا يأتي أبداً! كان بإمكان نبيل القروي تجنب كل هذه "البهدلة" لو واصل دوره كإمبراطور إعلامي في خدمة أباطرة السياسة، لكن يبدو أنه ملّ من الطبخ للغير، ويريد أن يطبخ لنفسه هذه المرة، فقرر الترشح لرئاسة الجمهورية، وأسس حزب "قلب تونس" الذي قدّم قوائماً للانتخابات التشريعية. والمدهش أنّ أغلب استطلاعات الرأي في الأشهر الفائتة منحته وحزبه مراتباً متقدمة جداً. يعتمد القروي على قناته وخبراته الاتصالية، وكذلك على جمعيته "الخيرية" "خليل تونس" التي جعل منها حصان طروادة لاختراق المناطق الفقيرة والمهمشة.

يبقى اليسار الغائب الأكبر. فعلى الرغم من أنه ممثَل بثلاثة مرشحين (حمة الهمامي، منجي الرحوي، عبيد البريكي)، لكن من المستبعد تماماً أن يحقق اختراقاً ويصل إلى الدور الثاني. مناصرو اليسار في تونس أقلية، وتشتيت أصواتهم بين عدة مرشحين لن يزيد الأمور إلا تعقيداً.

-عبد الفتاح مورو:

هذا المحامي التونسي، والرئيس المؤقت لمجلس نواب الشعب هو من مؤسسي حركة النهضة الإسلامية. وترشحه مفاجأة بكل المقاييس، فحركة النهضة لطالما أعطت إشارات بأنها لن تقدم مرشحاً من أبنائها، كما أنّ مورو ليس أكثر قيادات الحركة شعبية، فالكثير من القواعد فيها يعتبرون أنه "متحرر" أكثر من اللازم. يرى بعض المحللين أن ترشيح مجلس شورى حركة النهضة لعبد الفتاح مورو هي مناورة لجأت لها القيادة لعدة أسباب، أولاً إرضاءً لبعض الكوادر والمناصرين الذين اعتبروا أنّ الوقت قد حان لتقديم مرشح من داخل صفوفها، وثانياً لعدم حرق كل أوراق الحركة التي بعثرها الموت المبكر للرئيس السابق قائد السبسي. حركة النهضة كانت تريد انتظار نتائج التشريعيات لتحديد موقفها من الرئاسيات من موقع قوة يسمح لها بالتفاوض، واختيار المرشح الأكثر قابلية للتطويع. وجود مرشح إسلامي في الدور الثاني سيجعل أغلب القوى السياسية تتحالف ضده وتدعم خصمه، وربما تنتظر قيادات حركة النهضة الدور الثاني لتختار مرشحها الحقيقي.

- عبد الكريم الزبيدي:

إلى حدود شهر تموز /يوليو الفائت لم يكن اسم هذا الطبيب، الذي يشغل منصب وزير الدفاع، متداولاً في بورصة المرشحين لرئاسة الجمهورية. ارتفعت أسهمه فجأة إثر وفاة الباجي قائد السبسي. فقد كالت له وسائل إعلام تونسية مديحاً هائلاً لنجاحه في تنظيم جنازة الرئيس (على الرغم من أنه لم يشرف إلا على بعض تفاصيلها)، ثم بدأت شخصيات سياسية الحديث عنه كأفضل مرشح لخلافة قائد السبسي نظراً لاستقلاليته وتوفقه في إدارة وزارة الدفاع حسب قولهم. يتقدم الزبيدي للانتخابات وهو مدعوم صراحة من قبل أحزاب "نداء تونس" و"آفاق تونس" وشخصيات سياسية مؤثرة، ويحظى بمباركة ضمنية من قبل منظمات وازنة أهمها "الاتحاد العام التونسي للشغل" ومنظمة أرباب العمل. حتى حركة النهضة تعتبره صديقاً، فلقد عمل معها في عدة حكومات شكلتها أو شاركت فيها. ويبدو أنه يحظى أيضاً بالقبول الحسن لدى الأمريكيين والفرنسيين، فقد نسّق معهم في الملف الليبي منذ 2011. يضاف إلى كل هذا أن الرجل أصيل محافظة "المهدية" أي من "منطقة الساحل" المؤثرة بقوة في المشهد السياسي، والمصنع الأول لرؤساء الجمهورية ورؤساء الوزراء منذ الاستقلال إلى اليوم. وعلاوة على عدم طرحه لبرنامج واضح ومقنع وعدم ابدائه مواقف في القضايا الكبيرة التي شغلت البلاد في السنوات الفائتة، فإن الزبيدي يعاني من مشاكل اتصاليةكبيرة جعلت منه محل تندر شبكات التواصل الاجتماعي، فهو غير قادر على صياغة فكرة واضحة أو تركيب جملة سلسة، وهذا على الرغم من أنه محاط بجيش من الخبراء في الاتصال السياسي... لكن لا بأس، فهناك جوقة من المطبّلين في وسائل الإعلام تُصوِّر فشله الاتصالي وقلة كلامه كدليل على الحكمة والرصانة والتعقل الخ الخ..

- يوسف الشاهد:

مهندس وخبير زراعي دخل عالم السياسة بعد الثورة، ولم يكن أحدٌ يعرفه قبل سنة 2015. ساهم في الحملة الانتخابية لباجي القائد السبسي وحزبه "نداء تونس" سنة 2014، ثم عين وزيراً للتنمية المحلية قبل أن يقترح اسمه فجأة لتولي رئاسة "حكومة الوحدة الوطنية" في أواخر آب / أغسطس 2016. وهو يشغل هذا المنصب إلى اليوم. تمرَّد الشاهد منذ سنتين على "ولي نعمته" الباجي قائد السبسي وعائلته وتعاظمت طموحاته، خاصة وأنه حظي بدعم من حركة النهضة التي أرادت إضعاف الرئيس السابق، وبسط نفوذها بعد تفتت حزب "نداء تونس". لكن وفاة الرئيس عقّدت وضعية الشاهد. فحركة النهضة اضطرت لتقديم مرشح من أبنائها، كما أنّ بعض أجنحة "المنظومة" الغاضبة من "عقوق" الشاهد للسبسي واقترابه من حركة النهضة، صنعت له خصماً جديداً في وقت قياسي، وهو عبد الكريم الزبيدي. يضاف إلى كل هذا، الفشل الاقتصادي الكبير لحكوماته. على الرغم من كل شيء، ما زالت للشاهد نقاط قوة، فهو رئيس حكومة وقادر على تسخير منصبه وموارد الدولة في حملته الانتخابية، كما أنه أصغر مرشح للرئاسة، وقد تخدمه موضة "القادة الشبان" الرائجة في العالم في السنوات الأخيرة. حتى أصوله الجهوية والعائلية قد تساعده، فهو سليل عائلة "بلدية" عريقة (من أعيان العاصمة) كانت دوماً مقرَّبة من السلطة. أما على المستوى الخارجي فيبدو أنّ الشاهد يحوز رضا الأوروبيين الذين عمل معهم طيلة السنوات الفائتة على "اتفاقية التبادل الحر المعمق والشامل" ومسائل الهجرة. يحاول الشاهد استغلال الأيام القليلة المتبقية قبل الانتخابات لتحسين صورته وضرب خصومه، كما لاستباق ضرباتهم. وهكذا أعلن فجأة عن تخليه عن الجنسية الفرنسية (لم يعلم التونسيون بأنه مزدوج الجنسية إلا منذ أيام!) ويبدو انه يقف وراء تسريع إصدار القرار القاضي باعتقال نبيل القروي بعد ان فشل في إزاحته عبر تمرير تنقيحات للقانون الانتخابي في البرلمان. وحتى يدفع عن نفسه تهمة استغلال منصبه، فَوّض الشاهد صلاحياته لأحد وزرائه، وهو كمال مرجان، آخر وزراء خارجية نظام بن علي، وكذلك ابن "منطقة الساحل". وهذا ليس اختياراً اعتباطياً بكل تأكيد.

على الرغم من أن مواصفات أغلب المترشحين البارزين غير مطمئِنة، فإن هناك نقطة ضوء: اليوم، وقبل أسبوعين من الانتخابات، لا يستطيع أحدٌ أن يجزم باسم المرشح الفائز في حين أن التونسيين عاشوا زمناً كان فيه اسم الرئيس معروفاً سلفاً!

أما المجموعة الثانية فهي تضم أسماء من خارج المنظومة، أو هم من داخلها لكنهم ليسوا خيارها الأول، ومن الصعب أن يحقق مرشحو هذه المجموعة أكثر من اختراق واحد في الدور الأول:

- محمد عبو:

محامي عُرف بمعارضته الشرسة لنظام بن علي، وسجن عدة سنوات خلال حكمه. كان قيادياً في حزب الرئيس الأسبق منصف المرزوقي ("المؤتمر من أجل الجمهورية") وعيّن وزيراً مكلفاً بالإصلاح الإداري بعد الثورة في حكومة "الترويكا"، لكنه سرعان ما استقال من المنصب والحزب ليؤسس حزباً جديدا ("التيار الديمقراطي") في 2013. يبني هذا المترشح حملته على مكافحة الفساد والإصلاح الإداري والشفافية، ويسعى لأن يكون الخيار الأول للغاضبين من منظومة الحكم الحالية. لكن هناك عدة عوامل قد تقلل من حظوظ الرجل في الفوز، وحتى في الوصول إلى الدور الثاني. فهناك من يعيب عليه التحالف مع الإسلاميين بعد الثورة، وهناك الغاضبون من موقفه المساند نسبياً لمسألة المساواة في الإرث بين الرجال والنساء وكذلك لقضايا الحريات الفردية، كما أنه لا يحظى بدعم وسائل إعلام مؤثرة، وليست له الموارد المالية المتوفرة لدى أحزاب منظومة الحكم.

- قيس سعيد:

أستاذ جامعي متقاعد متخصص في القانون، بدأ في الظهور الإعلامي بعد الثورة للحديث في مسائل دستورية، ثم تنامت شعبيته خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي بفضل مواقفه التي اعتبرت داعمة للثورة. يشتهر الرجل بوجهه الخالي من التعابير، وباستعماله للغة العربية الفصحى في مداخلاته الإعلامية مما جعل الكثيرين ينعتونه بالرجل الآلي. وليس لهذا المترشح برنامج واضح أو انتماء أيديولوجي صريح، لكن العديد من مواقفه في السنوات الفائتة تُبيِّن أنه محافظ بشدة، ولا يتبنى مسائل المساواة والحريات بصفة عامة، وهذا قد يزيد من حظوظه في الانتخابات. يترشح قيس سعيد كمستقل بعد أن وضعته عدة استطلاعات رأي في المراتب الأولى عند اقتراح اسمه من بين عدة أسماء أخرى، وهو يعول أساساً على صورة الرجل "الشريف" والمناهض للمنظومة.

- عبير موسي:

محامية عُرفت بدفاعها الشديد عن حزب الديكتاتور بن علي ("التجمع الدستوري الديمقراطي") عندما تقرر حله بعد الثورة. هذه المترشحة التي كانت غير معروفة، نالت شهرة بفضل الثورة التي تسبّها صباحاً ومساءً، وتُحمّلها مسؤولية أي مشكلة تقع في تونس. يرتكز خطابها على معاداة الحريات والحنين إلى زمن الديكتاتورية، وضرورة إطلاق يد الأجهزة الأمنية، وهي تنادي بمنع الإسلاميين من العمل السياسي وإعادتهم إلى السجون. يجتذب خطاب موسي جزءاً من التونسيين الذين اعتبروا أن الثورة أضرت بالبلاد، وأنها مؤامرة من الخارج نفذها عملاء محليون. وتمثل هذه المترشحة شقاً من منظومة الحكم القديم يرفض التأقلم مع الواقع الجديد، ويحلم بالعودة بتونس إلى ما قبل الثورة.

- مهدي جمعة:

مهندس تونسي - فرنسي عمل مع مجموعة "توتال" لسنوات طويلة، وعين كوزير للصناعة في حكومة "الترويكا" الثانية (2013) قبل أن يكلف بقيادة "حكومة كفاءات" من كانون الثاني/ يناير 2014 إلى آذار/ مارس 2015. أسس في 2016 حزب "البديل التونسي" الذي سيشارك في تشريعيات 2019، وهو يحاول تسويق مشروع سياسي ليبرالي يقوم على "الواقعية" و"النجاعة" و"تشجيع الاستثمار". ويعول جمعة أساساً على صورته ككفاءة وطنية عملت في شركات عالمية، ونجحت نسبياً في قيادة الحكومة، وربما يأمل بأن تعزز أصوله الجهوية "الساحلية" (محافظة المهدية) حظوظه في الفوز.

***

طبعا هناك أسماء كبيرة أخرى، لكن حظوظها ضعيفة نظراً لأن القاعدة الانتخابية التي يتوجهون إليها لديها مرشحين أكثر بروزاً ومن الصعب تجاوزهم. نتحدث أساساً عن الرئيس السابق منصف المرزوقي الذي قد يستفيد من عدم رضا بعض قواعد حركة النهضة عن المرشح عبد الفتاح مورو.

هذه مجرد قراءة أولية لموازين القوى، وقد تحدث مفاجآت، وقد تظهر "حقائق" و"فضائح" ضد هذا المرشح أو ذاك، وقد يلعب المال السياسي وكذلك الإعلام المؤثر دوراً مهماً في توجيه أصوات الناخبين نحو مترشح ضعيف الحظوظ حتى يُسهّل هزيمته في الدور الثاني.

ويبقى اليسار الغائب الأكبر. فعلى الرغم من أنه ممثل بثلاثة مرشحين (حمة الهمامي، منجي الرحوي، عبيد البريكي)، لكن من المستبعد تماماً أن يحقق اختراقاً ويصل إلى الدور الثاني. مناصرو اليسار في تونس أقلية وتشتيت أصواتهم بين عدة مرشحين لن يزيد الأمور إلا تعقيداً.

وعلى الرغم من أن مواصفات أغلب المترشحين البارزين غير مطمئِنة، فإن هناك نقطة ضوء: اليوم وقبل أقل من شهر من الانتخابات، لا يستطيع أحدٌ أن يجزم باسم المرشح الفائز... في حين أن التونسيين عاشوا زمناً كان فيه اسم الرئيس معروفاً سلفاً!

مقالات من تونس

للكاتب نفسه