برزت في السنوات الأخيرة بين فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 شخصيّة تتمتّع بتقديرٍ تُجمِع عليه الشخصيات السياسية المتناحرة، والدوائر الاجتماعية على تعدّدِها وخلافاتها. تتابعها الصحافة بإعجاب، ويتكرر ظهورها في شبكات التواصل الاجتماعي بسياقات إيجابية. ويُمكن لهذا الاجماع أن يعكس إلى حدٍ بعيد أرضية قيمية سائدة في مجتمع الداخل. اسم هذه الشخصية "حسام حايك"، وحيثما وُجد هذا الاسم رافقه الاحتفاء ولازمته المباركة، المباركة له ولشعبنا وللإنسانية جمعاء.
حصل الشاب المولود في الناصرة عام 1975 على شهادة الدكتوراه في الهندسة الكيميائية من المعهد الإسرائيلي للعلوم التطبيقية – "تخنيون". واصل دراسات ما بعد الدكتوراه في معهد وايزمان للعلوم، ثم معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، ثم عاد إلى "التخنيون" محاضراً في قسم الهندسة الكيميائية، ومديراً لمختبر الأجهزة المعتمدة على تقنية النانو. منذ سنوات، برز البروفيسور الشاب في الإعلام بعد أن نال عدة جوائز إسرائيلية ودولية، وضمّته مجلّة MIT Technology Review في العام 2008 إلى قائمة العلماء الشباب الرائدين عالمياً. الإنجاز العلمي الأبرز الذي قدّمه حايك كان تطوير جهاز "أنف اصطناعي" قادر على التشخيص المبكر لعددٍ من الأمراض، ومن ضمنها أنواع من السرطان، من خلال استنشاق وتحليل زفير الإنسان وفحصه. وبالطبع، فإن التشخيص المبكّر للأمراض هو أحد العوامل الأهم لزيادة احتمالات الشفاء.
رأسماليّة 1948: الماضي
08-08-2019
يطور البروفيسور حايك ابتكاره، ويطوف العالم، يتحدث عن هدفه الجديد: تحويل "الأنف الاصطناعي" إلى لاصقٍ صغير الحجم، يُثبَّت على جسد الإنسان بشكلٍ دائم ويكون قادراً على تشخيص احتمالات المرض مبكّراً والإشعار بها. بهذه الكلمات يصف العالِم الشاب ابتكاره: "إنه يتتبّع إشارات فيزيولوجيّة بشكلٍ مستمر (...) فتخيّلوا أن يرافق هذا اللاصق كلّ إنسان، غني أو فقير، منذ ولادته وحتى وفاته. يرصد ويراقب صحة الإنسان لحظة بلحظة. هل يبدو ذلك حلماً؟ خيالاً علمياً؟ أعتقد أن هذا الخيال العلمي سيُصبح يوماً ما عِلماً".
تحدّث حايك عن ابتكاره مؤخراً في حدثٍ إعلامي شغل وسائل التواصل الاجتماعي: "العالِم العربي الإسرائيلي" يقدّم خطاباً باللغة العبريّة أمام 4 آلاف إسرائيلي على منصة TEDx في تل أبيب، يعرض قصة نجاحه، ويحكي عن تقنيّته القادرة على تغيير مجال الصحة والطب. أما مغزى الخطاب وعنوانه فهو: "كيف يكون العلم حلاً من أجل تحقيق المساواة الاجتماعية".
كيف ننتصر على العنصريّة بحسب البروفيسور؟
ما يجعل حايك مادةً تستحق التمعّن أنه، وبخلاف نماذج سابقة تنتمي للطبقة ذاتها وللتوجهات الاجتماعية السياسية ذاتها، لا يكتفي بالعمل والتقدّم الفردي، إنما يبذل جهوداً حثيثة لتعميم خطابه، ويشارك بشكلٍ فاعل في تربية أجيال من الأكاديميين وطلاب المدارس على هذه الأفكار، وذلك من خلال منصبه الجامعي في "التخنيون" الذي يشهد ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الطلاب الفلسطينيين، ومن خلال المؤسسات والجمعيات التي تحثّ على "الاندماج الاقتصادي" في مجالات التكنولوجيا والعلوم، ومن خلال ظهوره الإعلامي المتكرر. وهو ليس وحده، بل انتقلت "البرجوازية الفلسطينية الجديدة" من محاولات التقدّم في المناصب وتوسيع المصالح، إلى دور الوكالة الفاعلة لتوسيع دائرة الاندماج. فما الذي يُمكن أن نتعلمه من حايك مثلاً عن طبيعة خطاب "الاندماج" ولغته؟
خطاب الرجل ليس منافقاً للإسرائيليين، ولا متذللاً ولا مُنكراً لهويته. بالعكس، رؤيته متمسكة بالانتماء العربي الفلسطيني – كهوية ثقافية وإثنيّة شخصية. ولكن الترجمة السياسية لهذا الانتماء الثقافي تتلخّص بمطلب أن تتحول "الأقلية العربية في إسرائيل" إلى جزء يتساوى في الفرص والمنافسة على موارد ومؤسسات "الدولة" التي يحتكرها "اليهود" – أي تحدي يهودية الدولة. وانطلاقاً من هذا، فإن تسلّق سلّم المؤسسات الإسرائيلية، بفضل التفوق العلمي والمهني (وليس بواسطة التذلّل أو إنكار المرء لثقافته ولذاته) هو بحد ذاته "انتصار" في المعركة من أجل المواطنة المتساوية. هذا خطاب باتت تتفق على خطوطه العريضة كل الأطياف الاجتماعية والسياسية المركزية، بل يُطرح كخطابٍ وطني في دوائر التنشئة الثقافية والسياسية الوطنية في الداخل.
خطاب "حايك" ليس منافقاً للإسرائيليين ولا متذللاً ولا مُنكراً لهويته. بالعكس، بل هو متمسك بالانتماء العربي الفلسطيني – كهويّة ثقافية وإثنيّة شخصية. ولكن الترجمة السياسية لهذا الانتماء الثقافي تتلخّص بمطلب أن تتحوّل "الأقليّة العربية في إسرائيل" إلى جزء يتساوى في الفرص والمنافسة على موارد ومؤسسات "الدولة" التي يحتكرها "اليهود".
يدّعي حايك في خطابه المذكور (والذي نشرته وموّلت إعلانه على فيسبوك مؤسسات إسرائيلية) أن التفوق العلمي للإنسان، والسعي العنيد نحو المزيد من التقدم في سلّم النجاح هو الإمكانية الوحيدة لتحطيم "السقف الزجاجي" و"نيل المساواة الاجتماعية". بحسبه، فإن التفوق العلمي والمساواة مصطلحان متلازمان، يصفهما باعتبارهما "رايةً واحدةً علينا أن نقف تحتها جميعاً". يقول الآتي: "أقول لكل طفلة وطفل يعيشون تحت أو إلى جوار السقف الزجاجي: اسعوا للتفوق لأن هذه هي الطريق التي ستوصلكم إلى المساواة". ولكي يُبيّن البروفيسور حايك قصده، بدأ خطابه بقصة. قصة عن التمييز العنصري والتفتيش المُهين الذي كان يتعرض له طوال حياته في مطار بن غوريون الإسرائيلي كونه فلسطيني، وبسبب اسم والده المقيّد في جواز سفره: جهاد. يحكي كيف قرر في أحد الأيام أن يتحدى هذا التمييز العنصري، ويُرغِم أمن المطار على معاملته بمساواة، وكيف استخدم مكانته العلمية المرموقة ليرفض أوامر الأمن المذلة، وجَعْلهم يعرفون "من هو" وأجبرهم على معاملته باحترامٍ ومساواة.
"أكتوبر 2000": من زرع ومن حصد؟
نهاية أيلول/ سبتمبر العام 2000، ومع دخول شارون إلى باحة المسجد الأقصى، واستشهاد محمد الدرة، خرجت القرى والمدن الفلسطينية في الداخل لتتظاهر وتواجه الأمن الإسرائيلي. تحوّلت فلسطين كلها، دون استثناء، إلى ساحة معركة شعبية ضد الإسرائيليين. لم يشهد تاريخ الشعب الفلسطيني منذ النكبة هذا الشكل من الوحدة السياسية النضالية بين الداخل والضفة الغربية وقطاع غزّة. لكن إسرائيل سرعان ما قمعت المظاهرات في الداخل. قتلت 13 شاباً، وجرحت وسجنت الآلاف، ثم حاصرت القرى والمدن الفلسطينية وقطعت جميع الخدمات الحيوية عنها ما أدى إلى إخضاعها سريعاً – بسرعةٍ تتناسب طردياً مع مدى ارتباط الناس في الداخل بالسوق الإسرائيلي. لكن الأهم أن ما كان تفاعلاً طبيعياً وعضوياً وانسجاماً مع انتفاضة الشعب الفلسطيني، تحوّل بسرعة البرق إلى "أحداث أكتوبر 2000"، و"هبّة القدس والأقصى"، أي أُعطي تسميةً وتعاملاً يميزانه، ويفصلانه عن الانتفاضة كحدثٍ وطني جامع. أول ما فعله الإسرائيليون، من خلال الصحافة ومؤسسات الدولة، كان التفريق بين ما حدث في الداخل، وما استمر في الضفة الغربية وقطاع غزّة والقدس. لكنّ ما جذّر هذا الفصل (المُختلق والمفتعل) فعلياً، كان نشاط وخطاب النخب السياسية والحقوقية الناشئة في المجتمع المدني ومعها الصحافة الفلسطينية في الداخل، وقد ذهبت هذه نحو اتهام إسرائيل بقتل "مواطنيها" ولاحقاً المطالبة بالمشاركة في لجنة التحقيق الرسمية التي عيّنتها الحكومة الإسرائيلية - لجنة "أور" - التي بلورت مجريات تحقيقها ونتائجها تصوّرنا السياسي للهَبّة الشعبيّة كحدث موازي للانتفاضة، وليس كجزء عضوي فيها.
نهاية أيلول/ سبتمبر العام 2000، ومع دخول شارون إلى باحة المسجد الأقصى، واستشهاد محمد الدرة، خرجت القرى والمدن الفلسطينية في الداخل لتتظاهر وتواجه الأمن الإسرائيلي. تحوّلت فلسطين كلها إلى ساحة معركةٍ شعبية ضد الإسرائيليين. لم يشهد تاريخ الشعب الفلسطيني منذ النكبة هذا الشكل من الوحدة السياسية النضالية بين الداخل والضفة الغربية وقطاع غزّة.
نشاط النخب السياسية والحقوقية الفلسطينية، ومعها الصحافة الفلسطينية في الداخل، وخطابها اتهم إسرائيل بقتل "مواطنيها"، وطالب بالمشاركة في لجنة التحقيق الرسمية التي عيّنتها الحكومة الإسرائيلية - لجنة "أور" - التي بلورت مجريات تحقيقها ونتائجها تصوّرنا السياسي للهَبّة الشعبية كحدث موازي للانتفاضة وليس كجزء عضوي فيها.
تكمن أهمية تقرير لجنة "أور" النهائي، والذي صدر عام 2003، في أنه يحمل أولى الاعترافات الرسمية الإسرائيلية بالتمييز العنصري الإسرائيلي ضد المواطنين الفلسطينيين. ورأت اللجنة الحكومية أن أسباب انتفاض الفلسطينيين في الداخل تعود إلى التمييز الذي يعانون منه في مجالات العمل والإسكان والمعيشة وغيرها من الفجوات الاقتصادية. وأوصت اللجنة الحكومة الإسرائيلية بالعمل على سدّ هذه الفجوات كأداة لعدم تكرار "الأحداث". وقد تبنّت الحكومة الإسرائيلية بالفعل التوصيات المتعلّقة بهذا الجانب، وبدأت تمارس إصلاحات رسمية في السنوات التالية تهدف إلى دمج الفلسطينيين في سوق العمل واحتوائهم اقتصادياً. وكانت هذه السياسات، بالمناسبة، شبيهة (في مبدئها أكثر من شكل تطبيقها) باستراتيجيّة إسرائيل في الضفة الغربية في السنوات ذاتها تحت مسمى "الإصلاح الاقتصادي" وسائر استراتيجيات وأد الانتفاضة في حقبة ما بعد عرفات.
خرج الناس إلى الشوارع عام 2000، انتفضوا وواجهوا القمع بشجاعة. خرجوا، ببساطة، لأن شارون تحدّاهم كفلسطينيين حين دخل المسجد الأقصى، ولأنهم رأوا في محمد الدرّة تكراراً لقتل أطفال كفر قاسم ويوم الأرض وقانا وشاتيلا وغزّة... والأهم، رأوا فيه صورة أولادهم وأحبّتهم. خرجوا بدافعٍ وطني عميق وحر. إلا أن هذا العمق الإنساني وقع ضحية نخب اجتماعية امتلكت قوة "صياغة الخطاب". فئات ذات نفوذ سياسي وأكاديمي ومهني، في الصحف والجمعيات والأحزاب. هكذا تم تسطيح التضحيات وإرجاعها للبعد المطلبي "المدني" الضيق الذي لم تستفد منه إلا فئات زادت نفوذها المادي، وبات ذلك مدخلها للسباق في السوق الإسرائيلي، وفي الوقت ذاته مدخل إسرائيل لسياسات الاحتواء و"الدمج".
أذرع "أور" الضاربة
صرفت الحكومة الإسرائيلية ميزانيات طائلة لدمج الفلسطينيين في سوق العمل الإسرائيلي. أسست في العام 2007 "سلطة التطوير الاقتصادي للوسط العربي والدرزي والشركسي" التابعة لمكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية، ومن وظيفتها تطوير المبادرات والاستثمارات في "وسط الأقليات"، ودمج السلطات المحلية العربية في "المناطق الصناعية الإقليمية" وتشجيع المصانع العربية على التعامل مع الحكومة الإسرائيلية وتزويدها بالخدمات والسلع، وغيرها. وتأسست في العام ذاته "سلطة تطوير البدو في النقب"، والتي، علاوةً على أنّها تقوم على فكرة فصل فلسطينيي النقب عن سائر الفلسطينيين في الداخل، كانت ولا تزال الذراع المركزي في هدم قرى النقب من أجل فرض "التمدين القسري" من خلال تطوير "الفرص الاقتصادية" في "المدن" التي تبنيها الحكومة لتهجّر إليها أهالي القرى غير المعترف بها.
ركز التحقيق الإسرائيلي على التمييز ضد الفلسطينيين في مجالات العمل والإسكان والمعيشة، وأوصى الحكومة بالعمل على سدّ هذه الفجوات كأداة لعدم تكرار "الأحداث". تبنّت الحكومة الإسرائيلية التوصيات المتعلقة بهذا الجانب، وبدأت تمارس إصلاحات تهدف إلى دمج الفلسطينيين في سوق العمل واحتوائهم اقتصادياً.
وعلى إثر هذه التحولات أُنشِئت عدة جمعيات ومؤسسات تدور في فلك "تطوير العرب"، وبميزانيات هائلة، وبذلت جهوداً حثيثة في ما يُسمّى "التوجيه الأكاديمي" الذي يُرشد طلاب المدارس قُبيل دخولهم إلى الجامعات، ويوجههم لدراسة المواضيع التي "تلائمهم"، ومن ثم تعمل على دمجهم في سوق العمل. عزّزت هذه المؤسسات وكرّست توجه الطلاب نحو المواضيع التقنية والعلوم الدقيقة وعلوم الطبيعة، وهي "مواضيع لا تترك وقتاً للانشغال بالقومجية". وهذه الجملة الأخيرة، هي جملة من وثيقة "كينغ" التي كُشفت في العام 1976، وهي وثيقة هدفت إلى إرشاد تعامل الحكومة الإسرائيلية مع فلسطينيي الداخل بعد يوم الأرض. وقد رأت وثيقة كينغ ضرورةً في إبعاد الفلسطينيين عن دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية، كما شجّعتهم على التعلّم خارج البلاد. وقد تضخّم فعلاً عدد الطلاب المتوجهين للدراسة الجامعية في الأردن وفي شرق أوروبا.
تأسست مراكز ومؤسسات توجيه الطلاب، وأبرزها مثلاً مركز "تسوفن" (ومعناها إشارة أو توجيه)، الذي يُعنى بدمج الطلاب العرب في سوق التكنولوجيا الإسرائيلي، و"كاف مشفيه" ("خط المساواة") الذي يعمل على دمج الأكاديميين العرب في سوق العمل. وكذلك تأسست في الفترة ذاتها مشاريع "تكافؤ الفرص" في الجامعات الإسرائيلية، وهي مشاريع تابعة لعمادة الجامعة، تنظِم النشاطات المهنية والتعليمية والترفيهية للطلاب العرب. وفي الفترة ذاتها، بدأت أيضاً وزارة الخارجية الأمريكية بتخصيص برنامج منح تعليمية للطلاب العرب للدراسة في الولايات المتحدة، وغير ذلك الكثير...
بعد العام 2000 بات ابتعاد الطلاب الفلسطينيين عن العمل السياسي أكثر ارتباطاً بتناقض مزعوم بين العمل السياسي والتفوق الأكاديمي، وهذا شكل من أشكالٍ كثيرة تحوّل فيها التقدم المهني والأكاديمي إلى نقيض للعمل السياسي. وهكذا كانت الأحزاب السياسية "الضحية" الأولى لخطاب المساواة الذي طرحته هي بنفسها.
تسهّلت المهمة الإسرائيلية أولاً لأنها تماشت مع المطالب السياسية الفلسطينية التي تنادي "بالمساواة". ولكن الأهم أنها انسجمت مع تحولات اقتصادية وتكنولوجية عالمية خضعت لها المجتمعات ورغبت بها بشكلٍ طبيعي. تفشّت في الجامعات الإسرائيلية ثقافة تعليم "تايلورية" (أي تسعى الى التنظيم "العلمي" للعمل وتعتمد معيار أفضل "فعالية" ممكنة). ورأى الطلاب الفلسطينيون في الجامعة وسيلة لتحصيل مهارات تقنية تمكنهم من دخول سوق العمل، وكان هذا التوجه الأداتي للجامعة ممكناً بسهولة بسبب غربة الطالب الفلسطيني أصلاً في الأكاديمية الإسرائيلية، وعدم قدرته على أن يكون جزءاً من جماعة بحثية تُنتج معرفة. ضربت هذه التحولات أحد أهم أركان الحركة الوطنية الفلسطينية، أي الحركة الطلابية في الجامعات التي لعبت قبل ذلك دوراً سياسياً وتثقيفياً هاماً. وباتت صور العمل الطلابي توصف اجتماعياً كإعاقة للتقدم والتعليم، ورُسمت صورة الطالب الجامعي المسيّس على أنه ذلك الذي يبقى في الجامعة سنوات طويلة، ويفشل في تحصيل شهادة جامعية. ويمكن الانتباه، مثلاً، إلى أن ابتعاد الطلبة عن الحركات السياسية في السبعينيات أو الثمانينيات مثلاً، كان بسبب خوف الطلاب من ملاحقة المخابرات، أو من "النقطة السوداء" (أي أن تضعك المخابرات على لوائحها السوداء وتمنعك من مواصلة تعليمك)، لكن لغة هذا الابتعاد بعد العام 2000 باتت أكثر ارتباطاً بتناقض مزعوم بين العمل السياسي والتفوق الأكاديمي. وهذا شكل من أشكالٍ كثيرة تحوّل فيها التقدم المهني والأكاديمي إلى نقيض للعمل السياسي. وهكذا كانت الأحزاب السياسية "الضحية" الأولى لخطاب المساواة الذي طرحته هي بنفسها.
أين تتجسّد البرجوازية الجديدة في هذا العقد؟
هناك ما تغيّر في تجسّد البرجوازية الجديدة: فقد برزت هذه الشريحة في التسعينيات الفائتة والعقد الأول من الألفية الثالثة، من خلال التعبير السياسي والثقافي بالأساس، أي من خلال قيادة الأحزاب وبنائها، كما بتأسيس الجمعيات الأهلية والمؤسسات الثقافية والصحافية. لكن التغييرات التي قادتها إسرائيل بعد الانتفاضة الثانية فتحت وسهلت إمكانية توسع هذه الشريحة من خلال السوق الإسرائيلي، وتراجع بالتالي "التعبير السياسي عن الذات" بعد أن استنفذ دوره.
باتت "البرجوازية الفلسطينية الجديدة" تتجسد وتُنتِج وتتوسع من خلال مجالات بعيدة كل البعد عن أطر العمل السياسي والاجتماعي الفلسطينية، ما أدى إلى تراجع تاريخي في فعالية وشعبية هذه الأحزاب، وإلى تصاعد قوة رؤساء المجالس المحلية، المنتخبين على أسس حمائلية غالباً، كمسؤولين مباشرين عن "التطوير الاقتصادي" للقرى والمدن الفلسطينية، وهم ممن تربطهم علاقات مباشرة مع الوزراء الإسرائيليين.
تمركز ثقل هذه الشريحة في القطاع الإسرائيلي الخاص والعام. وبرز وجودها بالأساس في المجالات العلمية والتكنولوجية ومجال الصحة. فتذكر الإحصائيات الإسرائيلية ارتفاع عدد المهندسين والمبرمجين الفلسطينيين في شركات التكنولوجيا الإسرائيلية من 350 (1 في المئة) عام 2008، إلى 5000 مهندساً (4 في المئة) في العام 2018. كذلك في مجالات الصحة حيث ارتفع عدد الأطباء الفلسطينيين من 9.6 في المئة عام 2008 إلى 15 في المئة عام 2015، وذلك من مجمل الأطباء في جهاز الصحة الإسرائيلي. وتذكر الإحصائيات ذاتها أن هذا الارتفاع لم يكن متساوياً بين الفلسطينيين جميعهم، إنما تحقق بالأساس لدى الشرائح الاجتماعية "الأقوى" - الفلسطينيين المسيحيين، والفلسطينيين المسلمين في حيفا والشمال - كما ظلّت الأغلبية الساحقة من الأطباء الفلسطينيين من الذكور. أما في مجال الصيدلة فإن أكثر من 40 في المئة من الصيادلة في إسرائيل فلسطينيون (2017). تذكر الإحصائيات الإسرائيلية كذلك ارتفاعاً في نسب الطلاب الفلسطينيين في مجالات الحسابات والاقتصاد وإدارة الأعمال: بين عامي 2013 و2016 ارتفعت نسبة الطلاب الفلسطينيين من 19 إلى 27 في المئة من طلبة الحسابات في إسرائيل، من 6 إلى 13 في المئة من طلبة إدارة الأعمال.
باتت "البرجوازية الفلسطينية الجديدة" تتجسد وتُنتِج وتتوسع من خلال مجالات بعيدة عن أطر العمل السياسي والاجتماعي الفلسطينية، فقد تمركز ثقل هذه الشريحة في القطاع الإسرائيلي الخاص والعام، وبالأساس في المجالات العلمية والتكنولوجية ومجال الصحة.
كذلك ظهر بين 2010 و2015، ارتفاع بنسبة 3 في المئة للموظفين الفلسطينيين في الوزارات الإسرائيلية. وكانت أبرزها وزارة القضاء، على الرغم من أن من تولّت هذه الوزارة في السنوات الخمس الأخيرة كانت آيليت شاكيد – وهي قيادية في أكثر الأحزاب الصهيونية تطرفاً. خلال السنوات الستّ التي شهدت هجمة قانونية غير مسبوقة على الفلسطينيين (من قوانين "مكافحة الإرهاب" وصولاً إلى "قانون القومية")، تضاعف عدد الموظفين الفلسطينيين في وزارة القضاء، بل وتولت وزارة القضاء مسؤولية رفع نسبة الفلسطينيين في جميع المؤسسات الحكومية. من 242 موظف في وزارة القضاء عام 2012 ارتفع العدد إلى 502 موظف عام 2018. في العام 2004 وُظّف محاميان فلسطينيان فقط في النيابة الإسرائيلية العامة، لكن العدد ارتفع حتى العام 2016 إلى ما يزيد عن 50 محامياً فلسطينياً يمثّلون النيابة الإسرائيلية.
كيف تعاملت القوى الوطنية مع الواقع الجديد؟
لم تتوقف أي من القوى السياسية في الداخل لتبحث بشكلٍ جدي في هذه التغييرات، ولا في أثرها على الوعي السياسي للناس، ولم تتخذ بالطبع مواقفاً من استراتيجية الحكومة الاسرائيلية هذه. بل شارك العديد من النشطاء والقيادات الحزبية والجمعيات والنخب بشكلٍ فاعل في مشاريع ومبادرات تخدم سياسات "الدمج". كان مطلب العدالة - ولا يزال - محكوماً بإطارٍ فكري رأسمالي، فلا تُصاغ مطالب "المساواة" إلا باعتبارها "مساواة في تكافؤ فرص الربح" في السوق الإسرائيلي. هنا، تسقط القراءة الاجتماعية. فحين تتجذر رؤية تبحث عن "مصالح الأقلية القومية" كمصلحة مجموعة إثنية داخل الدولة القائمة، تسقط الرؤية التحررية الشاملة في معادتها للصهيونية كحركة استعمارٍ استيطاني.
في خطابه، يستخدم حايك مرةً تلو الأخرى الكلمة العبرية "متسويانوت"، ويقصد بها التفوق العلمي أو التفوق المهني. وللمفارقة فإن هذه الكلمة لو حاولنا ترجمتها إلى العربية، لكشفت اللغة على الفور التناقض الجذري في الادعاء بأن "المتسويانوت" هي الطريق إلى المساواة. لأن الترجمة العربية الأدق للكلمة هي "امتياز": مفردة تحمل ثقلاً سياسياً جوهرياً لفهم العنصرية وانعدام المساواة. أما الترجمة الأخرى فهي "التفوق"، وهي كذلك ليست عبارةً من معجم المساواة.
يفشل البروفيسور، كما تفشل النخب الفلسطينية عموماً، ويفشل أصحاب النفوذ في كل مكان، في فهم الفكرة البسيطة التي يُمْكن لأي طفلٍ في المدرسة أن يفهمها: معنى المساواة أن تكون الحياة الكريمة والحرية مكفولة لكل الناس بغض النظر عن قدراتهم أو طموحاتهم أو رغباتهم. ومعنى ذلك أن العدالة لا علاقة لها بالتحصيل، وأن قيمة الإنسان لا علاقة لها بما يكسبه من مالٍ أو مكانةٍ أو نفوذ. إنهم، ببساطة، لا يفهمون (أو لا يريدون الفهم) بأن معنى التمييز هو أن يتلقّى إنسان معاملة أفضل من غيره لأنه يحظى بمنصب باحثٍ مرموق، أو ممثل مشهور، أو رئيس حكومة. أن التفوق العلمي، كما يصفه حايك، وتصفه النخب الجديدة وتصفه إسرائيل، ليس طريقاً للمساواة، إنما هو طريق الإنسان ليقفز من دائرة المظلومين إلى دائرة الظالمين، من دائرة المميَّز ضدهم، إلى دائرة الممَّيز لصالحهم. وهذا يعكس إلى حدٍ بعيد الطموحات الحقيقية للفئات الفلسطينية التي راكمت وتراكم ثروتها أو نفوذها من خلال تلك الاستراتيجية الاسرائيلية الجديدة .
الرأسماليّة "بأبهى" أشكالها
إن الرؤية الرأسمالية التي تقع في صلب هذا الخطاب تحوِّل التقدم والمنافسة إلى هاجس مركزي لدى الإنسان، إذ تُصبح لقمة عيشه وحريته وكرامته مرتبطة بهما. تحقيق التقدم يتحوّل قيمةً عليا. فلسطينياً، يجري تصوير العنصرية الصهيونية على أنها تحاول إبقاء الإنسان الفلسطيني في الحضيض، وبالتالي يُصبح إنجاز الإنسان الفلسطيني علمياً أو مهنياً هدفاً قائماً بحد ذاته، ويصبح قصة انتصار "رغم الظروف". و"رغم الظروف" هذه معناها بوجود الظروف ودون تغييرها. ومع تحوّل هذا إلى قيمة عليا، يُصبح هاجس الإنسان كيفية "الوصول"، ولا يعود "المنصب" ومعناه وأثره سؤالاً مطروحاً. تُصبح إسرائيل ككل، بمؤسساتها، جزءاً من السوق المعولم، من رأسمالية كونية تقنعنا بأنها طبيعة مطلقة غير قابلة للتغيير. لقد بات المجتمع الفلسطيني يقدّس التقدم – التقدم الأكاديمي والمهني والتجاري والثقافي. وبات هذا المعيار غالباً على كل شيء: على القيم الأخلاقية، وعلى القيم الإنسانية البسيطة التي بتنا بتجاهلها نتجاهل الأهوال التي تُرتكب بحق الناس، بحق الفلسطينيين الفقراء أولاً، وبحق الفلسطينيين عموماً، وبحق الشعوب التي تشارك إسرائيل في قمعها حول العالم.
كان مطلب العدالة - ولا يزال - محكوماً بإطارٍ فكري رأسمالي، فلا تُصاغ مطالب "المساواة" إلا باعتبارها "مساواة في تكافؤ فرص الربح" في السوق الإسرائيلي، وتسقط القراءة الاجتماعية، وتسقط معها الرؤية التحررية الشاملة.
لكن الأمر لا يتوقّف هنا، إنما تنجر هذه "الطبقة البرجوازية الجديدة" إلى خطابٍ خطير من نوعه يأتلف تماماً مع خطاب المؤسسة الإسرائيلية، ويقول الآتي: إن كان حسام حايك قادراً بتفوقه أن يحصّل مساواة اجتماعية مع أنه فلسطيني، فإن كل إنسان فلسطيني قادر على التفوق وتحصيل المساواة. وإذا لم يحصّل الفلسطيني المساواة، فيبدو أنه لم يبذل ما يكفي من الجهد. إن الإنسان الفلسطيني الذي لم "يشدّ حاله" (كما يقول البروفيسور) من المنطقي ألا يجد فرصة عمل، أو مسكن، وأن يُهان في المطار أو يُهدم بيته، ويكون "ذنبه على جنبه". هذه بداية تحميل الضحية مسؤولية الجريمة المرتكبة بحقها. وهي شأن موجود حيثما وُجد الظلم ووُجدت علاقات القوة: حيث الرجل الأبيض يحمّل الأمريكيين السود مسؤولية الفقر الذي يعيشونه وينعتهم بالكسل، وحيث الرجل يبرر اغتصاب امرأة بما كانت تلبسه، والإسرائيلي يبرّر هدم البيوت "بتخلف" البدوي الذي يرفض "التمدين" الخ... وهكذا، ومع الوقت، يتحول المجتمع إلى تحميل ذاته مسؤولية الجريمة المرتبكة في حقّه، بل وإلى الاعتقاد بوجود صفات جوهرية فيه تجعله دونياً.
إن ما يجعل هذا الخطاب (وغيره من الخطابات السياسية الكثيرة التي نواجهها في العالم كله) خطاباً مجحفاً وقمعياً هو أنّه لا يُبقي مكاناً وحقاً للضعفاء ولا يراهم. لا مكان فيه لمن هو غير قادر، لمن لا يريد أن يكون متفوقاً، ولا ممتازاً، ولا سوبرمان. هذا نوع من الرؤى التنافسية الرأسمالية التي تحتقر الاكتفاء وتدوس البساطة. وهي جوهرية في الثقافة المنتصِرة في العالم كله. هذا ألف باء الوحشية التي لا تتوقف هنا البتة، إنما تنسحب بسرعةٍ هائلة على من لا يجد العمل، ومن لا يوفّر لمخصصات الشيخوخة، ومن لا يستطيع دفع التأمين الطبي، ومن لا يستطيع تسديد إيجار المنزل في المدن التي يمتص الأثرياء مراكزها، ويطردون الفقراء منها.
.. هذه آفة كونية، وهي موجودة في فلسطين، وتتخذ طابعاً قومياً يُترجم الهيمنة الاستعمارية والرأسمالية إلى مبنى علوي يتقنّع بـ"القومية اليهودية" على حساب سرقة أراضي الفلسطينيين. وعلينا أن ندرك أن النظام الصهيوني بات اليوم في مرحلة يُقنع فيها فئات من الفلسطينيين بأنهم قادرون على المشاركة في إدارة السرقة والجريمة والاستفادة منها، إذا ما تجاهلوا أنها سرقة، وإذا ما أقنعوا العالم أن إسرائيل ليست مجرمة ولا سارقة. وبهذا نصل إلى ختام قصة البروفيسور.
... عودةٌ إلى المطار
ما الذي حدث مع البروفيسور ذلك اليوم في المطار؟ كيف نجحت مكانته العلمية المرموقة في أن تنقذه من أنياب الإهانة والتفتيش المُذِل؟ كيف تحقّقت "المساواة"؟ نستودعكم مع القصة كما يرويها البروفيسور حسام حايك: "في أحد الأيام وصلتُ إلى المطار لأسافر إلى إنجلترا. وتزامن ذلك مع تصاعد التهديدات بمقاطعة الأكاديمية البريطانية لإسرائيل. وأنا فكّرتُ في حينه بأنّي أستطيع في هذه الأوقات الصعبة أن أكون سفير العلم والعلماء في البلاد". بعد أن طلب منه أمن المطار أن يقف جانباً ليخضع لتفتيش دقيق، رفض حايك قائلاً: "إذا لم أتلقّ تفتيشاً متساوياً هذه المرة، فأنا من لا يريد الصعود إلى الطائرة ولا أريد السفر. ولكن هذه المرة، صدّقوني، لستُ أنا الخاسر، وليذهب شخص آخر يمثّل الدولة ضد حركة المقاطعة!". تنتهي القصة بانتصار البروفيسور، ودخوله المطار دون تفتيش مُهين. ثم يحكي مفخرة شعبنا كيف مرّت سنوات قليلة، ثم في المطار ذاته الذي أُهين فيه، عُلِّقت صورته ضمن معرضٍ يستقبل زائري إسرائيل الوافدين.
صورته ضمن أبرز "علماء الدولة"... على بعد أمتار قليلة من الشعار الضخم الذي يطغى على جدران المطار: "الصهيونية هي المثالية اللانهائية"!