بدأت بكتابة افتتاحيتي عن "السودان: ماذا بعد" يوم صدر تقرير لجنة التحقيق بمجزرة ساحة الاعتصام، وكان مزوراً الى الحد الذي يُقصد به الاستفزاز. وهو استفز فعلاً الناس الذين عاشوا تلك الأيام ويعرفون ما جرى فيها، فانطلقت تظاهرات عفوية غاضبة، بدت وكأنها وقعت في الفخ الذي نصبه لها المجلس العسكري ليفتعل الفوضى والعنف ويتملص من المفاوضات ومن التوصل الى اتفاق مع "قوى الحرية والتغيير" يخص المرحلة الانتقالية.
والناس محقون بغضبهم ولم يكن من الممكن أن يسكتوا على ذلك التقرير، فإذا بهم بين فكي كماشة: ضبط النفس من جهة لعدم الانزلاق الى الهياج الذي يتيح المجال أمام المجلس العسكري لتنفيذ ما يريد، والتعبير من جهة ثانية عن الرفض والاستنكار. ولم تكد تمضي ساعات على ذلك حتى أمعن المجلس العسكري فافتعل مجزرة "الابيض" في ولاية كردفان بحق تلامذة المدارس المتظاهرين سلمياً استنكاراً لذلك التقرير اللعين، وقتل 6 فتية وجرح المئات. وكان من الواضح أن هؤلاء الضباع خططوا للوصول الى وضع من العنف والفوضى يبرر لهم الانسحاب من المفاوضات الجارية والتي يشرف عليها الاتحاد الافريقي وتحتضنها أثيوبيا ويراقبها العالم باسره ويترقب نتائجها بعد ثمانية أشهر من انتفاضة مدهشة تميزت بانها عارمة ومستمرة، وسقط فيها، على الرغم من سلميتها، 250 ضحية.
والمأزق أن الوضع في السودان شديد التوتر اصلاً، فهو ما زال يحتضن ثلاث بؤر تمردات مسلحة في أكثر من جهة فيه، ويعاني من وضعية كارثية على المستوى الاقتصادي، وينوء تحت اثقال مظلوميات تتخذ أحياناً طابعاً مركّباً فيه الطبقي والعنصري الاثني أو المذهبي، وأن النظام الذي لم يزل قائماً بعدما جرت التضحية برأسه يدافع بشراسة عن استمرار إمساكه بالسلطة طمعاً أولاً وقبل كل شيء بمزيد من النهب وخوفاً ثانيا من المحاسبة على الجرائم المريعة التي إرتكبها، قديمها وجديدها.. وأن اجهزته، علاوة على ذلك، وبعد الهزة التي اصابتها بالاطاحة بالبشير تتنافس فيما بينها.. وهي كلها عوامل تحيل الى برميل البارود القابل للانفجار في كل لحظة.
... وأنه حتى لو تم اجتياز هذه المرحلة الاولى بنجاح فستكون المرحلة التالية فائقة الصعوبة ومزروعة باًلغام شتى. وأن القوى السياسية والاجتماعية والمهنية التي قادت الانتفاضة ثم التفاوض ستجد نفسها أمام تآمر هؤلاء الضباع – وهو سيكون شرساً وخبيثاً – وأمام صعوبات ذاتية وموضوعية تخصها كما تخص التوفق بادارة هذا الارث المرعب من الخراب في بلد هائل الغنى والفقر في آن، متعدد التكوينات، مترامي الاطراف، متفاوت الأوضاع، ومحط أطماع خارجية شتى، ويقع في منطقة تلتهب فيها شتى الحرائق.
ولكني لن استرسل أكثر، فقد وصلنا نصان لامعان يعبران بالتأكيد بشكل أفضل مما كنت سأفعل عن الموقف، فقررنا أن نفسح لهما المجال هنا. وها السفير العربي ينشرهما معاً لاستكمال هذا التقديم، ويختتم كلامه الخاص بتحية السودان وأهله وتهنئتهم بالمنجز العظيم أي التوصل الى الاتفاق على "الإعلان الدستوري"، الذي يطلق المرحلة الانتقالية.. حيث يستمر الصراع!
فاقرأوهما:
لمحمد ناجي الأصم (28 عاماً)، وهو طبيب ومناضل وأحد مؤسسي "لجنة الاطباء" الشهيرة وأحد قادة تجمع المهنيين السودانيين، وأول من كُلف بالاعلان عن وجود التجمع وغاياته.. فاعتُقل، ثم اطلق وانضم الى الوفد المفاوض الذي توصل الى اتفاق مع المجلس العسكري حول الفترة الانتقالية.
_________________________
قضايا المرحلة الإنتقالية
05-08-2019
لخالد عمر يوسف المعروف بخالد سلك (40 عاماً)، وهو مهندس وأحد قادة "حزب المؤتمر السوداني" الذي تأسس في 1986. وحزبه ركن أساسي في "تجمع قوى الحرية والتغيير". وكان هذا الحزب، ومعه الحزب الشيوعي السوداني، أكثر حزبين تعرضا للملاحقة والتنكيل والسجن على يد النظام البائد.