متبجّحٌ صهيونيّ كتب الشهر الماضي مقالاً يسردُ فيه «معاناته» في صحراء النقب. ويصف الطّريق الصعب الذي سلكه ليزرع عنب «الشاردونيه» لصناعة النبيذ الفاخر. يحكي كيف اقتحم قطيع الماعز كرم العنب للرعي فيه، وكيف طرد القطيع ثم احتجز عنزةً واحدة رهينة، حين رفضت الراعيتان البدويّتان الانصياع لأوامره. «الصحراء لنا، وسندخل أينما نريد» قالت واحدة منهنّ.
كان القطيع من الماعز الأسود، أو البدويّ. ماعز تربطه بالمستوطنين علاقة ثأر قديمة، تدور رحاها في كلّ فلسطين وفي النقب خاصة. معركة على الأرض، مساحاتها، شكلها واستخداماتها. أقحم المستعمرون فيها كلّ شيء، وشنوا فيها حرباً على كلّ شيء: على أجناس من الحشرات، وعائلات من النباتات ومن الأشجار، وأنواعٍ من الحيوانات، لتغيير معالم فلسطين، وإعادة تشكيل طبيعتها الجغرافيّة، والسيطرة على مساحاتها بإحكام. لكن الطبيعة احتفظت بحقّ الردّ في المكان والزمان الملائمين.
ماشية... على القانون
«يُمنع أي شخص من امتلاك أو رعي الماعز إلا بحدود قطعة الأرض التي يمتلكها، وبالنسبة المسموحة (...) عنزة واحدة لكل أربعين دونما من الأرض الزراعيّة». هذا باقتضاب نصّ القانون الذي أطلقوا عليه في قرى الجليل والنقب اسم «قانون العنزة السوداء»، وهو قانون تقدّم به في العام 1950 دافيد بن غوريون، رئيس الحكومة آنذاك، الذي عُرف بأطماعه الشرسة في أرض النقب خاصةً، واسمه «قانون حماية النباتات ــ أضرار الماعز». وفسّر المشرّعون الصهاينة في حينه، متسلّحين بخبراء زراعيين، أن رعاية الماعز في الأحراش والجبال تؤدّي إلى ظاهرة زراعيّة تُسمّى الرعي الجائر. فعندما تُرعى المواشي بالمراعي الطبيعيّة بشكلٍ مكثّف ومبالغ به تسرّع عمليّة التصحّر وتعرية التربة، وتخلّ بالتوازن البيئي والتنوّع البيولوجيّ.
خبّأ القانون تحت نصّه الجاف وتبريراته العلميّة، أوجهاً كثيرة للعنصريّة والأهداف الاستعماريّة، كضرب إمكانيّات الرعاة الفلسطينيين لمصلحة مزارع الكيبوتس والموشاف، التي تميّزت بالأساس بتربية أنواع الماشية التي يُمكن رعايتها في مزارع مغلقة ومحدودة، بعكس الماشية التي امتلكها الفلسطينيّون ورعايتها تقوم على حريّة الحركة في الطبيعة وعلى امتداد مساحات كبيرة. احتكار اليهود للإنتاج الزراعي في فلسطين له تاريخ طويل. كتبت الصحافة في الأشهر الأخيرة أن وزارة الزراعة لا تسمح للمزارعين من فلسطينيي الداخل بإنتاج بيض الدجاج بحصة تزيد عن 0.3 في المئة من إجمالي الإنتاج. أي أن اليهود يحتفظون بإنتاج 99.7 في المئة منها.
الأهداف التجاريّة ثانويّة نسبةً للهاجس الصهيونيّ الحقيقيّ: السيطرة الكاملة على الأرض عبر تقييد حركة الفلسطينيين فيها. سنوات الخمسينيّات صال الإسرائيليّون وجالوا في إبداعاتهم للسيطرة على الأراضي: تركيز الفلسطينيين في مساحات محصورة (حدث ذلك في المدينة كما القرية، في حيفا كما في قرى النقب). فرضوا الحكم العسكري واشترطوا تنقّل الفلسطينيين بتصاريح عسكريّة وذلك حتى العام 1966، وقبلها سنّوا قانون أملاك الغائبين الذي صودرت بموجبه البيوت والأراضي في كل الأراضي المحتلة عام 1948. في العام 1960، تأسست «دائرة أراضي إسرائيل»، وهي مؤسسة تدير الأراضي التي تملكها «الدولة»، و«الصندوق القومي اليهودي» و«سلطة التطوير». والأخيرة هي التي نُقلت لحوزتها أملاك اللاجئين. مجموع الأراضي التي تمتلكها دائرة الأراضي هذه يساوي 22 مليون دونم أي 93 في المئة من مساحة فلسطين المحتلّة عام 1948.
مثل البدوي في المدينة؟
« 88 في المئة من سكّان إسرائيل لا يعملون بالزراعة، وعلينا أن نشمل البدو معهم. سيكون الانتقال حاداً، ويعني ألّا يعيش البدوي على أرضه ومع قطيعه. سيصبح من سكّان المدينة (...) وعلى أطفاله أن يقبلوا حقيقة أن أباهم يرتدي البنطلون، لا يحمل خنجراً ولا يزيل قمل رأسه أمام الناس، وسيذهب الأطفال إلى المدارس وشعرهم مسرّح». هذا ما كتبه موشيه دايّان في العام 1963، وكان وزير الزراعة في حكومة بن غوريون، في مطلع حديثه عن «التمدين القسريّ».
وكان قانون العنزة السوداء، ورغم أنه ضرب المزارعين الفلسطينيين في كل الأرض المحتلّة، يشكّل جزءاً من «التمدين القسري» الذي فُرض على بدو النقب. 90,000 إنسان من 95 قبيلة عاشوا في أرض النقب عشيّة النكبة، بقي منهم 11,000 إنسان من 19 قبيلة في العام 1952. وتم تركيزهم في منطقة تعادل مساحتها 10 في المئة من الأراضي التي امتلكوها. ثم تلتها منذ الستينيّات محاولة للتخلّص من القرى البدويّة وتهجير أهلها إلى سبع «مدن» خططتها إسرائيل وقررت تركيز البدو فيها.
في العام 1976 شكّلت الحكومة وحدةً خاصّة سمّتها «الدوريّة الخضراء» لتطبيق القوانين الزراعيّة على «الأراضي المفتوحة»، أي على الأراضي المصادرة والمناطق الطبيعيّة كالجبال والسهول. أشرفت «الدوريّة السوداء» كما سمّاها أهالي النقب، على عمليّات واسعة لمصادرة قطعان الماعز وبيعها للذبح بموجب قانون «العنزة السوداء»، لأن الرعاة مشوا بالقطيع في «أراضي الدولة». وقد ازدادت هذه العمليّات، خاصةً في النقب، في العام 1980، على أثر المعاهدة الإسرائيليّة - المصريّة، وبدء التخطيط لنقل القواعد العسكريّة الإسرائيليّة من سيناء إليها. في العام 2011، أصدرت الكاتبة دانيئيلا كارمي (التي عُرفت بعملها السياسي بتنظيمات معادية للصهيونيّة) روايةً قصيرة تتمحور حول عمليّات مصادرة الماعز بموجب القانون. رواية عن رجال صهاينة في «الدورية الخضراء» يلاحقون البدو، يصادرون معيشتهم، يغتصبون زميلتهم، ويتحدّثون عن أحلامهم المشرقة. أما في الماضي الأقرب، فلم تعد الدوريّة الخضراء تُعنى كثيراً بالماعز الأسود، وبات عملها الآن يتركز بهدم البيوت في القرى غير المعترف بها. في العام 1998 قتل رجال «الدورية الخضراء» شاباً أثناء إحدى عمليّاتها. أما في الفترة بين العام 2000 2005 فصبّت اهتمامها على إتلاف المحاصيل الزراعيّة. في العام 2002 أتلفت محاصيل زراعية من 12,000 دونم زراعيّ. كذلك شهدت هذه السنوات استخدام الطائرات لرشّ الحقول بالسموم بغاية إتلافها. في مرّات كثيرة أطلقت تلك السموم على الحقول أثناء تواجد المزارعين، وحدث في العام 2003 ذلك أثناء تواجد عشرات الأطفال في الحقول.
رعي جائر... إنما مفيد
ضمن وهم التعددية السياسيّة في إسرائيل، وقف بعض الصهاينة المعدودين على «اليسار» ضد قانون «العنزة السوداء»: في سنوات الثمانينيّات، كانت إسرائيل قد بدأت بتجنيد أعداد من البدو للجيش تحت طائلة الملاحقة والقمع والخنق. وكانت تستخدمهم بالأساس كقصاصي أثر يسيرون على مسافة متقدمة من السرايا ليتحققوا من أمان المنطقة وخلوّها من الفدائيين، معتمدين على معرفتهم الممتازة بالطبيعة. أحد «اليساريين» الصهاينة عارض قانون «العنزة السوداء» لأنه يمنع البدو من الاستمرار برعي الماشية الذي يكسبهم تجربة عمليّة في «الحقل»، فيكتسبون مهارات عالية في قصّ الأثر «يجب تكريسها في خدمة الجيش». سنوفّر وجع القلب، ولن نتحدث عن شحّ التوثيق الفلسطيني. لكننا في الوقت ذاته نجد النقاشات الداخليّة الإسرائيليّة قد أدلت بمعلومات زراعيّة وبيئيّة هامّة، نقضت الادعاءات العلميّة حول الرعي الجائر. هكذا مثلاً، تحدّث باحثون عن أهميّة الرعي في منع الأشجار والشجيرات من الانتشار والسيطرة على كل المساحة بكثافة عالية، ما يؤدي إلى وقف نمو النباتات العشبيّة والأزهار البريّة وانقراضها من المنطقة، وبالتالي اختفاء الحيوانات والطيور التي تحتاج مساحات مفتوحة تعيش فيها. في بحثٍ بيئي أجري في جزيرة كريت، يقارن بين منطقة مأهولة برعاة الماعز وأخرى لا تُرعى فيها الماشية، وُجدت في مناطق الرعي 46 جنساً من النباتات العشبية البريّة، بينما وُجدت في المنطقة الأخرى 10 أجناس فقط.
يفيد رعي الماشية في المناطق الطبيعة المفتوحة بتقليص خطر الحرائق وسرعة انتشارها في حالة الكثافة العالية للشجيرات، فأكل الماعز للشجيرات يقلص كمية المواد القابلة للاشتعال، كما يخفف كثافة الشجيرات. الفلسطينيّون على سفوح الكرمل يذكّرون جيداً حرائقها، والأكبر سناً يذكّرون كيف صودرت ماشيتهم وبيعت للذبح بموجب قانون العنزة السوداء. ولا ضير من التذكير بالهوس الإسرائيلي بزراعة أشجار الصنوبر التي قضى بها الصهاينة على نحو ستة ملايين شجرة زيتون، وأخفوا بها معالم القرى المهجّرة، وخلقوا منها أحراجا جديدة. وهي بطبيعتها تنبت نحو الأعلى، وأكواز الصنوبر عند احتراقها تتطاير لأمتار بعيدة. وهذه كلّها عوامل تزيد من سرعة انتشار النار، كما أنها تمنع نمو أشجار كالسنديان والغار المعروفة بمقاومتها للنيران. وهي غير قادرة على إصلاح نفسها بعد الحريق. وهذه كلّها عوامل كارثيّة عصرتنا ألماً عند احتراق الكرمل.
زعتر جنائيّ
احتكرت الزراعة مجموعتين من الإسرائيليين: الأولى مجموعات الإنتاج الزراعي التجاري الذي يُصدّر للعالم (وللدول العربيّة أيضاً، فأشغالنا لا تترك لنا وقتاً للزراعة!)، ومجموعة أخرى من مزارعي الـ«بوتيك»، ينتجون النبيذ الفاخر، والأجبان الفاخرة، وما إلى ذلك من ترف المهاجرين الأوروبيين الذين سئموا اختراع الصواريخ والدبّابات وعادوا إلى الطبيعة الأم. أما نحن، فعلاقتنا بالأرض محظورة وملاحقة. لم يعد الجبل محيطاً طبيعياً حراً يحتضن القرية، بل صار «محميّة طبيعيّة» مسيّجة، تحاصرها وتحدد مساحتها وتخنق أهلها. ولم يعد السهل مراحاً بل حددته الزراعة التجاريّة وقطعته عن القرى التي تعيش حوله. لم تعد الطبيعة مجالاً حيويّاً، صارت متحفاً. لقد اعتمدت السياسات الإسرائيليّة على تحويل الجبال والأحراش وغيرها إلى «شركة حماية الطبيعة»، وأعلنت معظم المناطق الطبيعيّة التي عشنا فيها لما يسمّونه «محميّات طبيعيّة». فرضت قوانين كثيرة مشابهة لقانون العنزة السوداء، وهي قوانين خنقت الحركة الزراعيّة في هذه المناطق، ضمن نهج قطعي لتحويلها إلى «محميّات» للسياحة والترفيه: زيارتها والمشي فيها والاستمتاع بمناظرها في نهاية الأسبوع. فقوّضت ارتباط القرى وأهلها بهذه الجبال والوديان. صار حبّنا الطفولي لقطف الزعتر وجمعه بغطاء الوسادة، مخالفةً نُحاكم جرّاءها... وقطف ضمّة الصفّير بين حبيبين جريمة لا تُغتفر.
(اعتقلته اسرائيل الأسبوع الفائت، أطلق سراحه الخميس 17 نيسان 2014)