اللاجئون إلى فلسطين

شبحٌ ينتاب تل أبيب. شبح اللاجئين الأفارقة، الأعداء الجدد للمجتمع الإسرائيلي المستعمِر في فلسطين. دخولهم إلى الأرض المحتلّة أبقى النظام الصهيوني من دون «حلول للمشكلة». هذه قضيّة صفعت الإسرائيليين بقوة، عشرات آلاف اللاجئين في غضون سنوات قليلة، ومن دون علاقة لهم بالصراع التاريخي، والأهم من كل هذا هو الموقع الجغرافي الذي حازوا عليه: لم يتشتتوا في الضواحي، لا في الصحراء ولا في القرى،
2014-01-15

مجد كيّال

كاتب فلسطيني من حيفا


شارك

شبحٌ ينتاب تل أبيب. شبح اللاجئين الأفارقة، الأعداء الجدد للمجتمع الإسرائيلي المستعمِر في فلسطين. دخولهم إلى الأرض المحتلّة أبقى النظام الصهيوني من دون «حلول للمشكلة». هذه قضيّة صفعت الإسرائيليين بقوة، عشرات آلاف اللاجئين في غضون سنوات قليلة، ومن دون علاقة لهم بالصراع التاريخي، والأهم من كل هذا هو الموقع الجغرافي الذي حازوا عليه: لم يتشتتوا في الضواحي، لا في الصحراء ولا في القرى، إنما في تل أبيب مباشرة، في الشريان الأبهر للدولة والمجتمع والرواية الصهيونيّة... تلك الرواية/الكذبة التي تعرض إسرائيل بيتاً وملجأ للمضطهدين. 
أحصت السلطات الإسرائيلية 60 ألف لاجئ إفريقي حتى العام 2012، نحو 40 ألف منهم من أصل اريتري، و15 ألفاً من أصل سوداني. بعض الإحصائيات تقول إن اللاجئين (الذين تطلق عليهم إسرائيل اسم «المتسللين») أصبحوا 15 في المئة من سكّان تل أبيب.
يتركّزون جنوبي المدينة، أيّ في مركزها «التاريخي» الذي بقيت فيه الطبقة الفقيرة من اليهود، في حين توسّعت البورجوازيّة اليهوديّة الأوروبيّة نحو شمال المدينة.تصريحات القيادات السياسيّة الإسرائيليّة بهذا الشأن لم تخيّب التوقّعات: «سرطان في جسدنا» قالوا، «دولة عدو في داخلنا»، «لن نكون أفريقيا»، «يغتصبون نساءنا»، وشعار: «أطفال المتسللين خارج مدارسنا».
جزء من هذه العبارات أطلقتها قيادات إسرائيليّة في مظاهرة ـ هي الأشهر ـ نُظمت في العام 2012، وانتهت باعتداء وحشيّ على اللاجئين، وتميّزت بتكسير واجهات محالهم التجاريّة البائسة. «شعور جميل أن تتناول الطعام في مكانٍ تنتمي إليه، أن تلتقي بأصدقاء ينظرون إليك كإنسان، ولا ينظرون إليك باستهجانٍ كأنك فيل يدخل إلى مطعم.
كنّا في مطعم فيه رائحة البيت، نتناول أطباقاً سودانيّة دارفوريّة، متعبين من يوم عملٍ شاق في أفخم المطاعم والفنادق في شمال تل أبيب». هكذا كتب علاء الدين، وهو لاجئ سوداني وصل تلّ أبيب عبر الحدود المصريّة - الإسرائيليّة هرباً من بلاده المُنهَكة.
باللغة العبريّة، تابع علاء الدين شهادته التي نشرتها جمعيّات حقوق الإنسان الإسرائيليّة، وحكى فيها كيف اقتحم موظّفون من وزارة الصحّة الإسرائيليّة مطعماً شعبياً للاجئين السودانيين، سكبوا الكلور ومواد كيماويّة أخرى في الحساء والطعام». القمع والإذلال يتواصلان يومياً في محاولة لإجبار اللاجئين على العودة «بإرادتهم الحرّة» إلى بلادهم، أو إلى أي مكانٍ آخر خارج البيت اليهوديّ الدافئ.

المشعوذ الإسرائيلي يستحضر قانوناً ميتاً
برزت قضيّة اللاجئين الإفريقيين بقوّة حين سنّ البرلمان الإسرائيلي في العام 2012 ما سُمي «قانون المتسللين»، وهو يقضي بإمكانيّة سجن «المتسلل» لفترة تصل إلى ثلاث سنوات بموجب أمر إداري، ومن دون أي مثول أمام القضاء.
المحكمة الإسرائيليّة العُليا ألغت القانون واعتبرته «غير دستوري». وقبل أسابيع قليلة عاد البرلمان وسنّ القانون من جديد بعد أن أدرج فيه بعض التغييرات: قلّص فترة السجن من دون محاكمة إلى سنة واحدة وتنازل عن احتجاز اللاجئين في سجون عاديّة وإنما في ما سمّوه «موقعاً مفتوحاً»، وهو عبارة عن مبنى فيه كل خصائص السجن، إلا أنه يمكن للاجئين الخروج منه في ساعات النهار شرط العودة إليه حتى العاشرة مساء (هل هذا التدبير غريب عن الرغبة بأن يستمر هؤلاء العبيد في العمل الشاق وبلا ضمانات ولا اعتراف؟)، ومن لا يعود يصبح هارباً من «العدالة».
أما عن ظروف العيش القاسية، البرد الصحراويّ القارس والأقفاص التي تُسمّى غرفاً، فحدّث ولا حرج. بعد نقلهم الى هذا السجن الغريب، خرج العشرات منهم في قوافل تقطع عشرات الكيلومترات تظاهراً من أجل اعتبارهم لاجئين.
المظاهرات، طبعاً، قُمعت، وكانت صور الشرطيّ الأبيض يلوي ويخنق رجلاً أسود كافية لتحكي القصّة المعهودة. هذه كانت مرحلة جديدة في نضال عنيد يخوضه اللاجئون، وصل ذروته حين أعلنت قيادات اللاجئين عبر وسائل الإعلام: «نحن مستعدّون للموت لأجل حقوقنا»، وأطلقت إضراباً عن العمل رافقته مظاهرات كبيرة شارك بها عشرات الآلاف. رؤوس الأموال الإسرائيليّة التي لم تجد أيدي عاملة بديلة اضطرت للوقوف إلى جانب العمّال، رغم أنهم الحلقة الأولى والأكثر مباشرة في الاستغلال اليومي للاجئين. لكن ما لا تلتفت إليه أي من الصحف الإسرائيليّة ولا منظّمات حقوق الإنسان التي تحلّق في فلك المجتمع الصهيوني، هو أن ما سنّه البرلمان لم يكن قانوناً جديداً، بل تعديلاً على قانون كانت إسرائيل قد سنّته في العام 1953 لقمع تسلل الفلسطينيين عبر الحدود، عائدين إلى بيوتهم بعد النكبة، وكذلك استخدمته لطرد أكبر قدر ممكن من اللاجئين الفلسطينيين داخل الوطن. هذا الالتقاء الذي يريد الإسرائيليّون تجاهله بين القضيّتين هو الأساسي: الهاجس الإسرائيلي بتأمين أغلبيّة عرقيّة (يعني عنصريّة) في فلسطين المحتلّة.
لذا نجد رفض الاعتراف بمأساة الآخر: اللجوء. في حالتنا هو رفض للاعتراف بحقّ اللاجئ في العودة إلى وطنه، وفي حالة أبناء جلدتنا الأفارقة هو رفض الاعتراف بحقّهم في الملجأ. وفي الحالتين نجد إنكار السيّد المُنتصر لمأساة غيره. بين الفلسطينيين والأفارقة فرق كبير في الانتماء إلى المكان، وفي الاتصال بعمق الصراع على الأرض، والحقّ التاريخي، وحقّ تقرير المصير، إنما لا بد للمضطهَدين أن يجدوا دائماً القواسم المشتركة فيما بينهم.

لاجئ: الغاية تبرر التعريف
ما نوع الموت الذي يتربّص بعائلتك؟ الموت في الحرب أم الموت من الجوع؟ هذا السؤال العاري هو أصل ما يشغل أطراف النقاش الإسرائيليّة: لاجئون أم مهاجرو عمل؟ سؤال قانوني في خطاب حقوقي خاضع للمنظومة الفكرية الحداثيّة الغربيّة، حيث أن ما يحدّد العدالة هو الالتزامات تجاه المواثيق الدوليّة، والأخيرة تمنع الدول الموقّعة أن تعيد لاجئين إلى حيث يتشكّل خطر على حياتهم.
هناك اختلاف بين طرح السؤال والبتّ فيه. والحقيقة أن الإسرائيليّين لا يبتّون. يسار الخارطة السياسيّة يتناطح مع يمينها، لكن ذلك لا يغيّر شيئاً. السلطات الإسرائيليّة ترفض أصلاً أن تنظر في طلبات اللجوء التي يقدّمها الإفريقيّون. حتى اليوم لم تعتبر إسرائيل ولو واحداً منهم لاجئاً بشكل رسميّ.
لأجل المقارنة، نذكر أن نسبة قبول طلبات لجوء الارتريين في العالم هي 84 في المئة، ونسبتها للاجئي السودان 64 في المئة. في اسرائيل صفر.
اليوم، تتبنى السلطات الإسرائيليّة خطاب الدكتاتوريّة الارتريّة: لا خطر على حياة الناس، هؤلاء مهاجرو عمل. السفير الارتري في إسرائيل قال في مقابلة قبل أكثر من عام: «عندما بدأت المشكلة، طرقتُ أبواب جميع المسؤولين الإسرائيليين، قلت لهم أعيدوا لنا المهاجرين الارتريين، لا يوجد خطر، قالوا لا. كانوا يدعون الناس، فعلياً، ويعطونهم تصاريح عمل لسنة ونصف مجاناً. والآن بعد أن صار العدد غير قابل للسيطرة، يريدوننا أن نستعيد كل المهاجرين إلى بلادنا».كيف تقرر إسرائيل إن كانوا لاجئين أم مهاجري عمل؟
ببساطة، بحسب حاجتها للأيدي العاملة. في العقليّة الإسرائيليّة التي تحاول دائماً ألّا تسمح بنشوء جاليات كبيرة مجتمِعة للمهاجرين غير اليهود، كان من الضروري الحدّ من وجود العمّال الآسيويين الذين كانوا قد استبدَلوا العمّال الروس (والذين بدورهم كانوا قد استبدَلوا العمال الفلسطينيين) في بعض مجالات العمل. واجهت رؤوس الأموال نقصاً حاداً في القوى العاملة وخاصةً في الفنادق والمطاعم. الجيش الإسرائيلي بدوره كان يعتقل المتسللين عند الحدود وينقلهم إلى مواقع قريبة من هذه الفنادق لتستفيد منهم شركات الموارد البشريّة وغيرها من المصالح.
ما فعله الإسرائيليّون طيلة هذه السنوات على أرض الواقع هو أنهم لم يعترفوا بهم لا كلاجئين ولا كمهاجري عمل. سمحوا لهم بالبقاء فقط، وأصدروا لهم تصاريح تمنعهم من العمل، وفي الوقت ذاته أعلنت وزارة القضاء لرؤوس الأموال أنها لن تطبّق هذا المنع ولن تلاحقه. الآلاف يعملون في المنطقة الرماديّة بين القانوني وغير القانوني. والنتيجة؟ سلطة القانون لن تمنعك من العمل، لكنها لن تضمن لك حقوقك. وهذا يخلّف، بشكل مباشر، آلاف العمّال الذين يخضعون للاستغلال اليومي من قبل مشغّليهم.

الإرادة الحرّة غصباً
إحدى القضايا المطروحة بقوّة الآن هي مشاريع «إقناع» اللاجئين بالعودة إلى بلادهم. هم لا يُطرَدون، بل يعودون بإرادتهم الحرّة إلى بلادهم أو أي مكان آخر. المئات من قصص الملاحقة والقمع والاعتداء، وحملات واسعة لسد كل منافذ المعيشة، وإجبارهم على العودة إلى حتفهم: قبل عام تقريباً، في واحدة من دفعات إعادة اللاجئين إلى بلادهم، أُرسل 1000 لاجئ إلى السودان. بعد أشهر قليلة رُصدت معلومات عن وفاة 22 منهم. واحد من شواهد كثيرة على ما تمارسه إسرائيل بحق اللاجئين هو بحث نُشر نهاية 2012 يرصد الصحّة النفسيّة لأطفال اللاجئين الذين تعتقلهم إسرائيل. 83 في المئة منهم أظهروا عوارض ما بعد الصدمة. أما ذووهم، كما يُفيد البحث، فبين 43 في المئة و50 في المئة منهم أظهروا عوارض هلع، اكتئاب، وتفكير بالانتحار. تهجير اللاجئين الأفريقيين لن يكون بالضرورة إلى موطنهم الأصلي، بل يُمكن أن يكون إلى «دولةٍ ثالثة» توقّع معها إسرائيل اتفاقيّة. قبل أشهر نشرت الصحافة الإسرائيليّة عن أن واحدة من الدول التي اتفقت معها إسرائيل لتهجّر اللاجئين إليها كانت أوغندا. الطرف الأوغندي نفى ذلك جملةً وتفصيلا. واحد من المواقع العبريّة أطلق على الصفقة اسم «أوغندا 2»، محاكاة للاقتراح البريطاني في الثلاثينيّات لبناء دولة يهوديّة في أوغندا بدلاً من فلسطين.

قصّة ليست للنشر
هذا التاريخ الذي يدور ويعود ليلتقي برموزه وصوره ومخلّفاته كل مرة من جديد، يُمكن أن نقرأه كقصّة توحّد بؤساء الأرض، كلٌ في مكانه وهمّه، ورطته ومأساته.
ولكن الفلسطينيّين في الداخل لم يلتفتوا لمأساة أخوتهم وبقوا يراقبونهم من بعيد، في حين استفردت إسرائيل بهم، امتصت عرقهم ودمهم وداست أقدارهم. تحولت المعركة بين مؤسسات حقوقيّة إسرائيليّة من جهة، والحكومة الإسرائيلية من جهة أخرى. ولم نُحسن التضامن والتكاتف مع وجعٍ شبيه بوجعنا، ربما لأننا لم نذق ما مرّ به أخوتنا (أخوتنا حرفياً) في الشتات بعد النكبة.
لكن الحقيقة أننا لم نقف على الحياد فقط: في واحدة من القرى الفلسطينيّة في الجليل، اعتدت مجموعة من الشبّان على اللاجئين السودانيين حتى أصيب 15 منهم، وقد «نجحوا» بطرد 120 لاجئاً من القرية. الكبار استنكروا. لم يغيّر ذلك شيئاً، لكن والله استنكروا. فلا تحكوا هذه القصّة لأحد.

مقالات من فلسطين

فلسطين في أربع جداريات دائمة في "المتحف الفلسطيني"

2024-12-19

"جاءت انتفاضة الحجارة في 8 كانون الاول/ديسمبر 1987، وجلبت معها فلسفة الاعتماد على الذات، وبدأ الناس يزرعون أرضهم ويشترون من المنتوجات المحليّة، ويحتجّون على الاحتلال بأساليب ومواد وأدوات محليّة. وشعرت...

ما الذي تسعى له السلطة في مخيم جنين؟

2024-12-19

بعد أيام من تحذيرات إسرائيلية من احتمال تدهور الأوضاع في الضفة الغربية تحت تأثير التطورات الحاصلة في سوريا، وفي أعقاب اجتياح اسرائيلي لمخيم جنين أسفر عن تدمير واسع للبنى التحتية...

البحث عن فلسطين في "مونستر": عن تطوّر حركات التضامن مع فلسطين وقمعها في مدينةٍ ألمانية

صباح جلّول 2024-12-11

يتفق الناشطون على فكرة ضرورة إجراء تقييم مستمر لهذه الحركات، خاصة في ظل محدودية قدرتها عالمياً على تحقيق الضغط الكافي لإيقاف الإبادة، هدفها الأول من بين عدة أهداف أخرى طويلة...

للكاتب نفسه

فلسطين: حقوقيّون في ظلال الـ"درونز"

مجد كيّال 2022-01-06

تلعب إسرائيل دوراً محورياً في تشكيل رؤية الحروب في عصر "الدرونز". فهي اعتمدت في حروبها السريعة بعد حرب 1967، على الارتكاز لسلاح الجو، وقدرات المراقبة والسيطرة عن بعد، وتجنب التوغّل...

لحظة كل الممكنات وكل المخاطر

مجد كيّال 2021-05-26

الحرب العميقة تنطلق على مستويين. الأوّل هو المستوى الأمني، وقد بدأت إسرائيل تسعى إلى ترميم صورة "الوحش" التي كسرناها. ولكن هناك مستوى أخطر: حين تهدأ الأخبار، تبدأ المؤسسة الأمنيّة ببسط...