عائدون من الهزيمة

سيّارة مُسرعة تضرب نوافذها ريح ساخنة، تبشّر بالصيف القريب وتصفع وجهينا، أنا وأبي ابن ستينيّات القرن الماضي. هذه طريقنا عائدين إلى حيفا بعد انتهاء مراسيم دفن أبو فهيم. كان المرحوم مسناً تهجّر من قريته البروة - خلال النكبة، وقد عُرف بتعلّقه الوثيق بالقرية حتّى بات رمزاً لها ولنكبتها.خارج سور المقبرة كان أبي يقف، هو وأصدقاؤه القدامى، يتحدّثون في حال البلد. أحدهم كان يقول ما يقوله الكثيرون: إن
2014-06-04

مجد كيّال

كاتب فلسطيني من حيفا


شارك

سيّارة مُسرعة تضرب نوافذها ريح ساخنة، تبشّر بالصيف القريب وتصفع وجهينا، أنا وأبي ابن ستينيّات القرن الماضي. هذه طريقنا عائدين إلى حيفا بعد انتهاء مراسيم دفن أبو فهيم. كان المرحوم مسناً تهجّر من قريته البروة - خلال النكبة، وقد عُرف بتعلّقه الوثيق بالقرية حتّى بات رمزاً لها ولنكبتها.خارج سور المقبرة كان أبي يقف، هو وأصدقاؤه القدامى، يتحدّثون في حال البلد. أحدهم كان يقول ما يقوله الكثيرون: إن المعنويّات كانت قد «وصلت السماء» عندما انطلقت الثورات العربيّة، أما اليوم فها هي «البلدان العربيّة كلها تمزّقت وتدمّرت. أنظر مصر، أنظر سوريا». عند واحدة من الإشارات المروريّة اقتربت من سيّارتنا امرأة من إحدى قرى الضفة الغربية تتسوّل مالاً. تدحرج حديثنا عن الأحوال الماديّة، تحدثنا عن رمضان الذي يقترب والناس بأوضاع ماليّة مزرية، ثم عرج أبي على سؤال: «هل سيمنح الإسرائيليّون تصاريح دخول لعشرات الآلاف من أهالي الضفة الغربيّة ليأتوا الى الأراضي المحتلّة ويزوروا شواطئ عكّا... وهرتسيليّا؟».عُدت الى عملي في قراءة شهادات أطفال أسرى عن مجريات التحقيق معهم في سجون الصهاينة خلال العام 2013. أما الآن، في هذا المساء الهادئ، فيدور على شاشة الحاسوب فيلم وثائقي إسرائيلي عن هزيمة 1967. مخرج الفيلم يقرأ أمام المدعي العسكري الإسرائيلي المتقاعد شهادةً لمعتقل فلسطيني بداية السبعينيّات. أستطيع أن أطابقها حرفاً بحرف مع شهادات الأطفال التي كنت أقرأها ظهراً، وهي عائدة الى العام المنصرم. يظهر مشهد بالأبيض والأسود من بروبغاندا التلفزيون الإسرائيلي نهاية الستينيّات. فيه وزير الحرب الإسرائيلي موشيه دايان ينزل إلى شاطئ مستعمرة نتانيا ليلتقي بفلسطينيين من الضفة الغربية صار باستطاعتهم، بعد 1967 الدخول إلى أراضي 1948، والاستجمام في شواطئها.
 الآن، مشهد يظهر فيه شاب من الضفة بعقالٍ وكوفيّة يتحدّث لصحافي إسرائيلي تعليقاً على توجّه فلسطيني (في السبعينيّات) للمحكمة الإسرائيليّة العليا ضد بناء المستوطنات في الضفة الغربيّة. في المشهد كان يقول الشاب: «وسنتوجّه لمحكمة العدل الدوليّة».هذه مصادفات كثيرة في يوم واحد تربطنا بهزيمة 1967. التفكير في المقارنة بين حاضرنا وبين تلك الفترة التي عاشت فيها الشعوب العربيّة على حسّ عبد الناصر بعد الثورة، بمعنويّات «وصلت السماء»، ثم «تدمّرت وتمزّقت الدول العربيّة، أنظر سوريا، أنظر مصر»... الرابط مرّة أخرى يشتد حول عنق المشاهد. أخرج من البيت لقليل من الهواء الطلق. وصلت إلى مقهى «المحطة» في شارع يافا، كانوا يعرضون وثائقياً عنوانه «تبكي الصخور» حول تهجير قرية برعم خلال النكبة، وفيه امرأة تتحدّث عن الفقر المدقع الذي عاشوه بعد التهجير: «كنّا سنموت من الجوع، ولم يكن أمامنا إلا أن نتسوّل في الضفة الغربيّة، وبالفعل ذهبنا للتسوّل في نابلس».

الحكم العسكري... من وإلى

هزيمة 1967 مرحلة فارقة في حياتنا لعوامل كثيرة، منها ما تعنيه الهزيمة بالنسبة لجذر القضيّة الفلسطينية: تهجير العرب وتطهير «أرض إسرائيل» منهم. يُنكِر الإسرائيليّون وجودا مُسبقا لمخطط عسكري لاحتلال الضفّة الغربيّة وغزة وسائر الأراضي العربيّة التي اغتصبت في ذلك العام. من جهةٍ أخرى، اعترف رجال القضاء الإسرائيلي، والقضاء العسكري خاصةً، أن «المنشور رقم 1» الذي وزعه الجيش الإسرائيلي عند احتلال الضفة الغربيّة وقطاع غزّة، والذي يُعلن فيه فرض الحكم العسكري على هذه المناطق، كان جاهزاً في الأدراج بمئات الرُزم والصناديق سنوات طويلة قبل حرب الأيام الستّة. لم يكن المنشور وحده جاهزاً، بل سلسلة طويلة جداً وشاملة من القوانين العسكريّة التي تغطّي جميع تفاصيل الحياة اليوميّة لأهالي الضفة وغزة، من نظام التأمينات حتّى بيع التبغ حتّى نظام التعليم.ما يغيب عنّا في الكثير من الأحيان هو أن فرض الحكم العسكري على الضفة الغربية وقطاع غزّة أتى بعد عام واحد من إعلان معاكس: رفع الحكم العسكري عن الفلسطينيين في الداخل، وذلك في العام 1966. والأهم من ذلك هو المرحلة الانتقاليّة، من العام 1966 حتى 1968، التي رُفع فيها الحكم العسكري عن فلسطينيي الداخل دون أن تُلغى قوانين الطوارئ المفروضة عليهم، أيّ أن ما تغيّر بالواقع كان انتقال صلاحيّة تطبيق قوانين الطوارئ من يد الجيش الإسرائيلي إلى يد «الأمن الداخلي الإسرائيلي». هذه إذاً مرحلة تغييرات مفصليّة على فلسطين كلّها: احتلال الضفة وغزّة جزء من الصورة، لا كلها.
يسأل المحاوِر في الفيلم الوثائقي: «إذا أردتم بسط سيطرتكم على الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، فلماذا لم تطبّقوا القانون الإسرائيليّ على المنطقة؟ لماذا اضطررتم لتجهيز منظومة قانونيّة كاملة؟». يوجه سؤاله لأحد المستشارين القضائيين العسكريين في الستينيّات. يبتسم المجرم الواثق ويُجيب: «لأننا لم نكن نريد أن نمنحهم مواطَنة إسرائيليّة، لا يمكن أن نطبق القانون المدني دون أن نمنحهم المواطنة».كانت السنوات الأولى بعد النكبة عبارة عن تخبّط إسرائيليّ طويل حول كيفيّة التخلّص من الفلسطينيين في إسرائيل، أو على الأقل تجريدهم من كلّ مقوّمات الائتلاف القومي.
في العام 1952 دخل قانون المواطنة إلى حيّز التنفيذ، وبموجبه أعطى الصهاينة مواطَنة إسرائيليّة لـ 40 في المئة من أصل 160 ألف فلسطيني بقوا في الداخل بعد النكبة. باقي الـ 60 في المئة منهم، تحوّلت المواطنة بالنسبة لهم إلى مطلب يُمكّنهم من العيش والتصرّف بالحد الأدنى من ظروف العيش الإنسانيّ، خاصةً وأن التصريحات الإسرائيليّة كانت تُعلن أن الهدف من منع المواطنة الإسرائيليّة عنهم كان إجبارهم على الخروج إلى الدول العربيّة وترك أراضيهم. في العام 1967، كان قد بدأت تُنجز عمليّة طويلة تحوّل فيها الفلسطينيّون في أراضي 1948 إلى حاملي مواطَنة إسرائيليّة، يُضاف إلى ذلك بداية إنهاء الحكم العسكري، وسلسلة طويلة جداً من التغييرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي قضت بشكل كامل على الحياة الزراعيّة لفلسطينيي الداخل، وحوّلتهم إلى الصناعات والعمل في المدن الإسرائيليّة، وخاصةً في قطاع البناء الذي نما بهستيريا ليستقبل المستعمرين اليهود الجدد، ولاحقاً لبناء المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة.

المقموع الذي استيقظ «سيداً»

هذا هو المشهد عشيّة هزيمة 1967: فلسطينيّون داخل الأراضي المحتلة معلّقون بين احتمالين، حلم التحرير الذي يسمعونه بصوت عبد الناصر والذي يبثّ عبر الراديو من جهة، ومن جهةٍ ثانية المواطنة الإسرائيليّة والمساواة المدنيّة مع المستعمِر التي ستوفر (هكذا توهّمنا) لمجتمع مهزوم مسلوب مصلوب ظروف حياة كريمة بعد حكم عسكريّ قاهر مسرف في قمعه. وفي تلك اللحظة، حزيران/يونيو 1967، لحظة الهزيمة، تحطم الاحتمال ـ الحلم.
تحطّم المذياع في ساحة القرية. هُزم الوطن العربيّ وانتصر الاحتمال الثاني- أن نكون مواطنين في إسرائيل.وفي ليلةٍ غبراء، استيقظ المقموع سيّداً: من كانوا أمس تحت الحكم العسكري صاروا اليوم مواطنين كاملين، يعرفون الإسرائيلي، يفقهون لغته ويعيشون تحت منظومة المستعمرين القانونيّة. مقابل من؟ مقابل أخوتهم الذين أصابهم الاحتلال بالأمس، يقبعون تحت الحكم العسكري، ومفتاحهم للتأقلم مع الواقع الجديد، جسرهم الوحيد لفهم الظروف الجديدة، هم فلسطينيّو الداخل.هذا الالتقاء كان بالحقيقة اصطداماً. كان إضفاء منظومتين قانونيّتين مختلفتين في الداخل والضفة الغربيّة عاملاً أساسياً في تأصيل وتعريف الشرذمة وانقسام الهويّة الفلسطينيّة. لهذا السبب مثلاً، ولأسباب كثيرة أخرى، مثل العدد والفائدة الاقتصاديّة، قررت إسرائيل توطين أهالي الجولان السوريّ (وهم من الدروز) لمحاولة ربطهم بالدروز الفلسطينيين الذين سُلخوا عن مجتمعهم منذ الخمسينيّات. ومع قسوة المشهد وما أثاره من هوّة بين أبناء الشعب الواحد، إلا أنه أنتج بالوقت ذاته مراحل تاريخيّة هامّة في تاريخ فلسطين.فقد أنجبت الحقبة نخبة مالية فلسطينيّة جديدة اعتمدت على المقاولين الذين شكلوا جسراً ربحياً بين مسحوقي الضفّة وغزّة وبين الإسرائيليين، وحققوا أرباحاً طائلة أنشأت طبقة غنيّة امتدت فيما بعد لتفتتح مصالحها وتُنتج (دون نوايا) طبقة وسطى فلسطينية في الداخل، استطاعت دخول الجامعات وتعزيز العمل السياسي الذي كان أحد أهم محطّاته «يوم الأرض» الخالد في العام 1976.

عودة إلى العودة

هنا نحن نُمسك بتشكيلات تاريخيّة أسست واقعنا اليوم، ولكننا نستطيع أن نراها معكوسة في يومنا هذا أيضاً: هيمنة الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر تحاول الاختباء وتحميل المسؤولية لقيادة سلطة فلسطينيّة تنادي بحلّ الدولتين في «المحافل الدوليّة»،على الرغم من أن أحداً غيرها لم يعد يؤمن بكذبة أن أراضي 1967 يمكنها أن تحلّ القضيّة. أما في الداخل، فالفلسطينيّون، بعمليّة عكسيّة، بدأوا يتحققون من أن المواطنة الإسرائيليّة هي عبء تاريخي سلخهم عن حياتهم وبيئتهم، وأن المشكلة ليست في مواطنتهم المتساوية، إنما هي جوهريّة في عمق وجود هذا النوع من المواطنة في هذا النوع من النظام. في الوطن العربي يلوح مخاض التحرر من العسكر والهزيمة - سياسياً وفكرياً ونفسياً. الصورة الآن عكسيّة: المرأة المسنّة التي خرجت من برعم الجليليّة تتسوّل في نابلس، عادت من نابلس لتتسوّل في الجليل، وطريقها لا زال طويلاً نحو حياة كريمة، عودةً إلى الجليل.نحن نمسك بتشكيلات تاريخيّة مرادفة لواقعنا اليوم. ونحن نحمل الأمل. الأمل في أننا نلتقي مع مشاهد تاريخ الهزيمة في طريق العودة منها. نحن نعود، والهواء الحار يضرب وجهنا بقوّة. نعود من الهزيمة حين ننطلق من المُسنّ الذي توفي وعاد إلى التراب متأملاً عودته إلى قريته. نعود من الهزيمة حين ننطلق من النكبة، من أصل الكارثة، من جوهر تأسيس كيان مغتصب. من هنا نعود في طريقنا إلى حيفا...

مقالات من فلسطين

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

للكاتب نفسه

فلسطين: حقوقيّون في ظلال الـ"درونز"

مجد كيّال 2022-01-06

تلعب إسرائيل دوراً محورياً في تشكيل رؤية الحروب في عصر "الدرونز". فهي اعتمدت في حروبها السريعة بعد حرب 1967، على الارتكاز لسلاح الجو، وقدرات المراقبة والسيطرة عن بعد، وتجنب التوغّل...

لحظة كل الممكنات وكل المخاطر

مجد كيّال 2021-05-26

الحرب العميقة تنطلق على مستويين. الأوّل هو المستوى الأمني، وقد بدأت إسرائيل تسعى إلى ترميم صورة "الوحش" التي كسرناها. ولكن هناك مستوى أخطر: حين تهدأ الأخبار، تبدأ المؤسسة الأمنيّة ببسط...