صحراء النقب مسرح لجريمةٍ استعماريّة أخرى في فلسطين، جريمة تكشف عمق وعنجهية الأيديولوجية المحركة لممارسات الاحتلال. صراعٌ على عمرانيّة المكان وتخطيطه وعلى فرض واقعٍ آخر، طبيعة أخرى على سكّانه اللاجئين منذ النكبة.
مساحات صحراويّة شاسعة من المفترض أن تتسع لحياة المجتمع البدوي المتأصّل فيها منذ مئات السنوات. عشيّة النكبة، عاش على هذه الرقعة التي تساوي مساحتها نصف مساحة فلسطين 92 ألف إنسان في قراهم ومدنهم. كانت الصحراء مساحة التطوّر الطبيعي لمجتمعها، لأنماط المعيشة المتّبعة وللمنطق الإنساني البسيط... «للحياة العاديّة».
هُجّر أهالي النقب إلى غزة والأردن، ولم يبق منهم غير 11,000 إنسان تقريبا، ركّزتهم العصابات الصهيونية في تجمّعات ضيّقة، مخيمات لاجئين داخل الوطن، أشهرها منطقة «السياج» التي لا تزال حتى اليوم شاهدة على المأساة. في هذه النقطة تنقطع «الحياة العاديّة»، تتراجع ويختنق المنطق الإنساني أمام منطق الاستعمار. ينقطع التطوّر الطبيعي أمام الاقتلاع والتغيير القسري وينقطع الارتباط بالمكان لصالح الصناعة العدوانيّة للمعالم الجديدة... هكذا تُخنق المساحات الإنسانيّة، فتصبح النقب أضيق صحارى العالم.
عشرات القرى والمدن، واحدة منها، «رهط»، هي ثاني أكبر مدينة فلسطينية في الداخل. القانون الإسرائيلي لا يعترف بعشرات القرى التي يسكنها نحو ثلث البدو. بالنسبة للإسرائيليين، هذه مناطق «شتات بدويّ». قصص هذه القرى لوحة تراجيدية تجمع عشرات المشاهد والفصول: «العراقيب» التي هُدمت أكثر من أربعين مرّة، «أم بطين» التي يقطعها نهر مياه عادمة، «قصر السر» التي وصلت الى العام 2012 من دون شبكة مياه أو كهرباء، «وادي النعم» المتاخمة لمزبلة نفايات كيماويّة، «عتير» التي ستُهدم لتغرس الأحراج الإسرائيلية على أنقاضها، و«أم الحيران» التي ستهدم لأجل بناء مستوطنةٍ للمتدينين اليهود - هذه كلها أسماء النكبة المستمرّة، فأهلاً بكم في النقب.
لم يستطع الصهاينة، شأنهم في ذلك شأن أي مستعمر آخر، أن يتخلّصوا من الصور النمطيّة العقيمة التي يحملونها حول البدو باعتبارهم رحّلا ولا يقيمون في مكانٍ ثابت. قبل أسابيع قليلة، قال ممثل سلطات الاحتلال في جلسة للمحكمة ان «البدو لا يحتاجون بيوتاً، إنهم ينامون تحت النجوم». بالحقيقة، لقد تميّز بدو النقب باستقرارهم وتمركزهم على بقعة أرضٍ واحدة، وعليه فإن اعتمادهم كان على الزراعة والرعاية، ناهيك بتشييد مبانٍ حجريّة للسكن منذ عشرات السنوات.
علاقة الصهيوني بابن النقب علاقة هيمنة خالصة، علاقة سيّد وعبد يفقد فيها البدوي كيانه وصفاته وذاته لأجل الحفاظ على نفسه حيا. رفض الاحتلال الاعتراف بأي قرية بدوية كانت قائمة قبل النكبة، التجمعات السكّانية التي اعترف القانون الإسرائيلي بها هي تجمعات جديدة أقامها المعماريّون الصهاينة - مخططات مدن تركيز لا تمت بأي صلة لطبيعة الحياة البدوية، لأنماط المعيشة ولثقافة المكان وأهله. المخطط الصهيوني «لا يرى» الناس ولا يسمع صوتهم، «أنا غير مرئي» كان عنوان الحملة التي أطلقها مركز «عدالة» القانوني ضد مخططات تهجير البدو. في يومنا هذا، يركّز الاحتلال كل البلدات والمدن البدوية التي أقامها على رقعة أرضٍ صغيرة. كم هي صغيرة؟ 31 في المئة من مجمل سكّان النقب يعيشون على 1 في المئة من أراضي النقب.
حكاية وادي النعَم
بحسب المنطق الاستعماري إيّاه، أين يمكن أن نزرع 14 مصنعا للمواد الكيماويّة والغازات السّامة، ومحطة توليد كهرباء ومزبلة نفايات كيماويّة من دون أن تشكّل خطرا على حياة البشر؟ على بعد كيلومتر واحد من قرية تضم 8000 نسمة، اسمها وادي النعم.
لم تر إسرائيل، ببساطة، أطفال ونساء ورجال وادي النعم حين افتتحت في العام 1975 أكبر المناطق الصناعيّة وأخطرها في إسرائيل على مقربة من القريّة. احتجّ الأهالي، طالبوا بإلغاء المشروع، وطالبوا بإغلاق المنطقة الصناعية، ثم بعد أن رأوا حجم المشروع الذي تم رغما عنهم، راح جزء منهم يطالب السلطات بتوفير بديل ملائم ينتقل الناس إليه خوفا على حياتهم وحياة أبنائهم. ارتفاع نسب الإجهاض وولادة الأطفال مع إعاقات، ارتفاع نسبة الأمراض السرطانية وانتشار ظاهرة إجهاض المواشي - هذه ليست قصصا في القرية، بل استنتاجات توصل إليها ونشرها باحثون إسرائيليون بأنفسهم. لم تقبل السلطات، في تلك المرحلة أن توفر للأهالي أي بديل سكّاني. تجدر الإشارة إلى أنه رغم بناء محطة توليد كهرباء على مقربة من القرية، ورغم مرور خطوط كهرباء التوتر العالي، إلا أن القرية حتى اليوم غير موصولة بشبكة الكهرباء.
في العام 2004 حددت الحكومة الإسرائيلية العام 2010 كحد أقصى للعلاج الجذري للتلوث البيئي في المنطقة والحد من الأخطار الكامنة فيها. وهذا ما تم فعلاً، لكن ليس للأمر أي علاقة بأهالي وادي النعَم! في العام 2003، وضع الصهاينة االحجر الأساس لمدينة عسكريّة تضم 10 معسكرات تدريب وإرشاد لتستقبل في العام 2015 نحو 90,000 جندي صهيوني. كانت هذه المدينة على بعد 9 كيلومترات من المنطقة الصناعية الكيماويّة، ما أثار حفيظة الإسرائيليين وجعلهم يهمّون فورا للحد من الأخطار البيئية.
عشرات الحوادث الخطيرة التي كان يمكن أن تتحول الى كوارث. في العام 1988 انفجرت 100 حاوية كيماويّات سامّة، وفي 1977 احترقت كميات كبيرة من المبيدات نُقل على اثرها عدد كبير من أهالي القريّة للعلاج المكثّف، في ذات العام تسربت مواد سامة مرتين متتاليتين ما رفع نسب التلوث في الهواء بشكلٍ حاد، في العامين 1998 و 2000 كاد احتراق مادة الليثيوم في مكب النفايات الكيماوية يحل مصيبةً. انفجار آخر في العام 2001 وبعده آخر تسرّبت على اثرهما كميات كبيرة من المبيدات الفوسفوريّة... كل هذه الحوادث الخطيرة التي وقعت على بعد كيلومتر واحد من القرية لم تثر انتباه أي جهة حكوميّة.
ثم، بعد أن تقلصت نسب التلوّث بشكلٍ جديّ، بدأت إسرائيل مساعيها لنقل السكّان إلى مناطق أخرى بحجّة الحفاظ على صحّتهم. جمعية استيطانية صهيونية بقناع الحمل الوديع تقدمت امام المحكمة بالتماس يطلب إغلاق مدرسة القرية حرصا على سلامة الطلاب! وها يقفز أمامنا المنطق الاستعماري مرّةً أخرى: إسرائيل تنوي تهجير أهالي وادي النعم جنوب بلدة «شقيب السلام» وغربها، التي بحسب تقارير وزارة الصحة، هي أيضا في منطقة الخطر والتلوث الناتجة عن المنطقة الصناعيّة. لكن الأمر لم ينته هنا.. الأراضي التي تريد إسرائيل نقل أهالي وادي النعم إليها هي أراضٍ يناضل أهالي «شقيب السلام» ضد السلطة لاسترداد ملكيّتها، أي أنهم يريدون نقلهم إلى أراضٍ صودرت من أبناء جلدتهم! إذا ما تمّ هذا الأمر، فقد تنشب صراعات تلحقها سنوات دمويّة طويلة بين العائلات.
هذه قصّة واحدة من قصص كثيرة، قريةٌ واحدة من قرى كثيرة، وتناقضٌ في بحر من التناقضات. والأسئلة تُطرح بقوّة: ما معنى أن تطالب الاحتلال بالاعتراف بوجودك؟ ما معنى أن تلجأ إلى محكمة إسرائيلية لتوقف هدم بيتك؟ لكن ما معنى أن تخاطر بحياة أولادك بجوار نفايات سامّة لأجل أن تبقى في أرضك؟
في النقطة التي يحاصر فيها الاستعمار وجدان المجتمع وإنسانيته، يدفع الخوف والقلق أهالي النقب إلى الالتصاق بانتماءات أبويّة تغذيها سلطة الاحتلال، كما يدفعهم إلى تنازلات مبدئية جذريّة بهدف حلولٍ تضمن ولو سنة أخرى دون جرافةٍ تدق باب البيت.
أمام هذه المأساة كلها، لم تهرع الفصائل الفلسطينية، وجامعة الدول العربية، وجهات رسمية كثيرة منها الخارجية التركيّة، إلا للاعتراض على مهرجانٍ للخمور تقيمه بلدية بئر السبع في باحة المسجد الكبير. «انتهاك الحرمات» تبقى دائما ورقة نرفعها لنثبت حضورنا، لنخبئ عجزنا في القضايا الحقيقية التي تدمّر حياة أطفالنا... قصص النقب لم تنته هنا، وفي هذا الوقت الذي نكرسه لحكايتها، تشق البلدوزرات طريقها إلى قرية أخرى هناك.