كان من المفترض أن تكون واحدة من ساعات الظهر العاديّة في مدينة الناصرة، أكبر المدن الفلسطينية التي ظلّت عربيّة داخل فلسطين الـ48، حين قطع عبد الكريم أبو صالح الطريق بسيّارته على ابن عمّه، أخرجه من سيارته وانهال عليه بضربات الهراوة القاتلة. هذا المشهد الذي التقطته كاميرات الحراسة للمحلات التجارية المجاورة، حصلت عليه وسيلة إعلام إسرائيلية ونقلته وسائل إعلام فلسطينية، ومن ثَّم الشبكات الاجتماعيّة. وهو لم ينتهِ عند هذا الحد: بعد أن أردى أبو صالح ابن عمّه، عاد إلى سيّارته وتناول منها فأساً، واصل فيه تهشيم الجثّة الملقاة، غادر لدقائق وعاد حاملاً سكيناً وواصل تسديد عشرات الطعنات للجثة الهامدة. الخلاف هو على قطعة أرض! سارع المارة الى الاختفاء من مكان الحدث «لئلا يتورّطوا».
ثم يأتي مقتل فتاة على يد أخيها في مدينة الطيرة، ثم العثور على جثة فتاة مقتولة طعناً وخطيبها مشنوقاً إلى جانبها في قلب جبال الكرمل، ومن بعدها قتل أمّ لأطفالها الثلاثة في مدينة رهط في صحراء النقب. ليس هذا إلا جزء من أحداث القتل والعنف التي شهدها الفلسطينيون في الداخل... في هذا الأسبوع الاخير فقط!
تتواصل قصص القتل والعنف من جميع الاتجاهات: مصادرة حريّة النساء، تصفية حسابات إجرامية، قتل خلال عمليات سطو، أو خلافات بين عائلات تمتد لسنوات طويلة من سفك الدماء والثأر المتواصل، خلافات تبدأ بصراعٍ على قطعة أرض، أو على دراجةٍ هوائيّة. تتصاعد القصص وتكشف وجوها جديدة من المأساة الإنسانية حينا، ومن العبث في أحيانٍ أخرى. قصص تنخر في عظام مجتمعٍ صغير عزلته النكبة عن امتداده الوطني والقومي. مليون وثلاثمئة ألف إنسان يعيشون على رقعة أرضٍ صغيرة، يهمَّشون فيها لصالح مجتمع استعماري يرفضهم. يصبح العنف المتفشّي تقويضاً للذات وهدماً للبنى الاجتماعية والملامح، وإنذاراً بولادة مسخ اجتماعي. أغلبية أحداث العنف تدور داخل الدوائر الاجتماعية المقلّصة، العائلة النواتية، العائلة الموسّعة، أو البلدة، ما يدلّ على تصدّعات في أصغر الحلقات الاجتماعيّة: أخ يقتل أخاه، زوج يقتل زوجته، أبن يقتل أباه وابن عم يقتل ابن عمّه.. هذه الحالات هي الأغلبية الساحقة.
الموت بالنسبة المئوية
تفقد المأساة الإنسانية حجمها في الأرقام والمعطيات، لكن الأخيرة ضروريّة لتثبت أن القضية ليست قضية قصة إنسانية قد تحدث في أي مكان بالعالم، بل جزء من وضع اجتماعي عام وشامل، له أسبابه الموضوعية، وله نتائجه الكارثية.
كما هو الأمر دائما، فإن المعطيات الحكومية، رغم فظاعتها، تبقى تعكس صورة ورديّة للحقيقة السوداء. في حالتنا، يقول المتعمقون بأن معطيات الجهات الرسمية لا ترصد أكثر من نصف الحوادث التي تقع على الأرض، بسبب النسب المنخفضة لتقديم الشكاوى أو التبليغ عن أحداث العنف، أو نسبة وصول الشرطة إلى التجمعات الفلسطينية. كل هذا لا يمنع من تقديم الأعداد الحقيقيّة. وعلى كل حال، فالأعداد الرسميّة وحدها كافية لإثارة الصدمة:
في العام 2011 سجّلت الجهات الرسميّة أكثر من 1100 حادثة إطلاق نار في القرى والمدن العربيّة، منها 62 جريمة قتل، وهي 41 في المئة من جرائم القتل التي حدثت داخل الخط الأخضر، أي تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي في الـ48. لكن الإحصائيات نفسها تشير إلى أن متهمين فلسطينيين لهم صلة بـ67 في المئة من جرائم القتل عامة، وبـ70 في المئة من محاولات القتل في البلاد.
تجدر الإشارة إلى أن هذه النسب تخصّ الفلسطينيين الذين يشكلون خُمس السكان في أراضي 48. شريحة 20 في المئة أنتجت في العام 2011، إلى جانب النسب المذكورة أعلاه، 38في المئة من الاعتداءات، 52 في المئة من جرائم الحرق المتعمّد (40 في المئة في العام 2009) و36 في المئة من جرائم السرقة. أما الكوميديا السوداء فتأتي عند معدلات العنف داخل العائلة، حيث تقديم البلاغ للشرطة يعتبر محرماً اجتماعياً، تابو يُمنع ارتكابه.. في العائلة، نسبة العنف لا تتعدى الـ11 في المئة!
خلّي السلاح صاحي...؟
في العام 2010، نشرت شرطة الاحتلال معطيات عن «إنجازاتها» في تنظيف البلدات الفلسطينيّة في الداخل من السلاح، حيث ألقت القبض على 500 مسدس و200 بندقيّة، و50 عبوة ناسفة و80,000 رصاصة. وهذه «نكتة الموسم» كما اعتبرها الكثيرون. عدد البنادق والمسدسات هذا هو قطرة في بحر يُغرق المجتمع، عدد العبوات الناسفة رقم صغير مقابل ما يُستخدم على أرض الواقع، وفق ما أعلنت القيادات الاجتماعيّة والسياسيّة. أما الـ80,000 رصاصة فيقول أحد الشبّان الذين تحدثنا معهم أنه «لا يكفي لإطلاق النار في الهواء في موسم الأعراس».
السلاح في كل مكان، في أي مدينة في الجليل أو المثلث أو النقب، ومصادره معروفة للجميع. رغم أن الحكومة الإسرائيلية تحاول تحميل المسؤولية لمهربي الأسلحة من الحدود مع مصر أو الأردن، إلا أن حصة الأسد من الأسلحة مصدرها سرقة مخازن أسلحة من الجيش الإسرائيلي، اختطاف أسلحة جنود، أو الوسيلة الأكثر انتشارا، أي بيع المخدرات للإسرائيليين مقابل الحصول على الأسلحة التي يمكن للإسرائيليين الحصول عليها بسهولة.
لا يقتصر السلاح على المسدسات والبنادق، فقد شهد العامان الأخيران مثلاً، حالتي استخدام لصاروخي LAW (قذائف خفيفة مضادة للدبابات)، واحدة في مدينة الطيبة وواحدة في قرية الرامة الجليليّة. في مقابلة تلفزيونيّة، يعرض الناطق بلسان الشرطة أسعار الأسلحة المنخفضة: 750 دولاراً أميركياً سعر المسدس، 1500 دولار أميركي سعر البندقيّة، و3000 دولار أميركي سعر السلاح الأوتوماتيكي. علق أحد الشبّان ساخراً من هذه الأسعار: «حسنًا هذه أسعار سائحين، العرب دائماً يشترون بأرخص منها»، شاب آخر قال: «عندنا في المدرسة يمكنك أن تشتري مسدساً مستعملاً بـ200 دولار».
حتى الأطفال في قرى ومدن كثيرة يفتخرون بحملهم للسلاح الذي تحوّل مع الوقت إلى علامة طبقيّة تعبّر عن النفوذ والهيبة والمرتبة. العائلات تتباهى بامتلاكها السلاح الأثقل، فالسلاح الخفيف لم يعد حكراً على العصابات ولا على العائلات الكبيرة.
"الخاصية الثقافية"؟
«تقاعس الشرطة»، كلمة سحريّة تستخدمها القيادات السياسيّة العربية للإشارة إلى أسباب العنف، وهو مسبب لا خلاف عليه. لم تتوصل الشرطة إلى كشف أي من التفاصيل لأكثر من 60 في المئة من جرائم القتل في المجتمع العربي ضمن أراضي 48. تجري التحقيقات بشكلٍ سطحي من دون أي نيّة جديّة باعتقال المجرمين، خاصةً حين يتعلق الأمر بقتل النساء. حينها، تتحول شرطة الاحتلال إلى راع ساهر لـ«الخاصية الثقافية» للمجتمع الفلسطيني. وهذا بالطبع محصور بهذا الجانب فقط من الخاصيات الثقافية. في قرية الرامة (قرية جليلية تسكنها 8000 نسمة فقط) لا تزال نحو 20 جريمة قتل تنتظر الكشف عن هوية مرتكبيها.
لا تقوم الجهات المسؤولة، وعلى رأسها الشرطة، بأي خطوات جديّة لوقف هذا الخطر الداهم. هذا الامتناع لا يترك الوضع على ما هو عليه فحسب، بل يزيده سوءاً. واحد من الادّعاءات الأساسية لكل من يمتلك سلاحاً أو من هو في محيط من يمتلك هذا السلاح، هو أن الشرطة والحكومة لا تُعيد الحق لأصحابه، «يُمكن أن تكون مظلوماً ويُطلق أحدهم النار على بيتك وزوجتك وأولادك، هل تظن أن الشرطة ستهتم بحمايتك؟ لا بد أن تكون قادراً على حماية نفسك وعائلتك».
انهيار التطور الاجتماعي الطبيعي
الاقتصاد عامل حرج في هذه القضيّة: نسبة البطالة تصل إلى 40 في المئة بين الرجال و80 في المئة بين النساء. 65 في المئة من الأطفال الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر بينما 50 في المئة من مجمل الفلسطينيين يعيشون تحته.
لكن الأوضاع الاقتصادية ليست كل شيء. أزمة الهويّة وانهيار التطور الاجتماعي الطبيعي للمجتمع الفلسطيني في النكبة وبعدها، أدى إلى أزمات اجتماعية لا يمكن علاجها مع بقاء الحالة الاستعماريّة بإسقاطاتها الاجتماعية. إن تفكك البنية الريفيّة التي اعتمدت على هرميّة الحمائل الأبويّة، إلى جانب التدمير التام للمدنية الفلسطينية لصالح هامش الاقتصاد وهامش الحياة، والارتباط بفتات المُستعمِر، كل هذا دمّر البُنية التي كانت قائمة لكنه لم يطوّرها او يستبدلها بأخرى. أي أن الفلسطينيين لم يتحوّلوا إلى جزء من الدولة الاسرائيلية أو من المواطَنة أو من الحياة المدنية القائمة. هُدمت البنية التقليدية نعم، لكنها لم تُستبدل ببنية أخرى تحمي الفرد وحقوقه الطبيعية. لا يشعر الإنسان الفلسطيني في الداخل بأن «الدولة» (كما يسميها الفلسطينيون في الداخل، بإطلاق غريب، هدفه تجنب لفظ «إسرائيل») مسؤولة عن حمايته، لا يشعر أن الشرطة التي تهدم البيوت وتقتل أو تذلّ الإنسان هي ذاتها التي بوسعها حماية بيته من اطلاق النار أو حماية كرامته الإنسانية، ولا يؤمن بعدالة محكمة حين يتعلق الامر بتقسيم الأرض بينه وبين أبن عمّه، لأنها هي ذاتها المحكمة التي بموجب قراراتها تُصادر الأرض كلها. أكبر شاهدٍ على هذا هي مستويات الجريمة المرتفعة جدا في المدن المختلطة، تلك التي لم تكن البنية الريفية جزءا منها أصلاً.
الأحزاب السياسيّة التي تتهم «تقاعس الشرطة» تتناسى أنها، وبحق، أول من يتهم المجندين للشرطة - باعتبارها شرطة للاحتلال - بالعمالة والتواطؤ. لكن توجيه أصابع الاتهام للاحتلال أسهل بكثير من مواجهة المسلّحين والمجرمين المعروفين في كل بلدة ومدينة فلسطينية بالاسم. في قرية «الجديدة» قضاء عكا، خرج الأهالي يحتجّون ضد العنف وضد السلاح بعد مقتل شاب في بداية العشرينيات من عمره... فأطلق المسلحون النار عليهم. ورغم أن السياسيين لا يجرؤون على الاقتراب من المجرمين، لا يتوانى المجرمون عن تهديد السياسيين، خاصة المنخرطين منهم في السياسة المحليّة. ولا يخفى على أحد استخدام السلاح من قبل عائلات كثيرة بهدف توسيع النفوذ في المجالس المحليّة والبلديات، نفوذ وصل الى قمته باستيلاء بعض عائلات الجريمة على رئاسة المجلس المحلي في بعض البلدات.
أمام كل هذا، وأمام فقدان مؤسسة فلسطينية جديّة تأخذ دورها وتحل التناقض بين مكافحة الإجرام والتواطؤ مع الاحتلال، لا تبقى إلا حملات التوعية التي تقودها الجمعيات الأهلية والمؤسسات والبلديّات أحيانا. فعاليّتها محدودة لا تصل إلى المواقع الحقيقية للجريمة، ولا تقدم حلولاً للمشاكل الجديّة التي تؤدي إلى المنسوب المرتفع للعنف. ومثل كل حملات المجتمع المدني في فلسطين، تبقى هذه أيضاً شعاراتيّة تتحدث للمقتنعين بها أصلاً. في واحدة من حالات القتل في مدينة أم الفحم، كان القاتل شيخاً من الحركة الإسلامية، وكّلته البلدية بتنظيم «خيمة مناهضة العنف» في مركز المدينة.
هذه صورة لما يحدث عندما يتصدع مجتمع فقير، يعيش تحت سطوة وعلى هامش مجتمع صهيوني مهووس بالعسكرة والتسلح وماكينات القتل، ويُطلق يد أفراده في استخدام السلاح وتداوله بكل حريّة.