السيسي يخترع في السياسة والاقتصاد

البناء هجين، وهو ليس بالتأكيد قطاعاً عاماً، ولا تحركه مصلحة السكان بل الربحية الرأسمالية القصوى التي تتوفر هنا بشكل قسري، بالمصادرة والاحتكار. وهذا تناقض عجيب غريب، إذ يتم توليد الحالة الاحتكارية والسلطوية معاً من قلب النيوليبرالية التي تناصب الاحتكار الاقتصادي والسلطة العداء! من يكذب وسط كل هذا؟
2019-07-11

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك

.. آخر الاختراعات ولن يكون أخيرها - طالما بقي مجال لأي استثمار في مصر - "دُبسي" التي تُعرِّف مهمتها بأنها "لخدمات النقل الذكي غير المحمول" (؟) بمقابل شركتي "أوبر" و"كريم" (وقد أصبحتا واحداً بعد شراء الاولى للثانية بمبلغ خيالي يتجاوز 3 مليار دولار، ولكن ذلك لا يعنينا).

ودُبسي هذه مصرية مئة في المئة بل "وطنية" يقوم عليها "غيورون على البلد واقتصاده" وتنفي عن نفسها في أول نطقها أي صلة بـ"جهاز الخدمة المدنية" (اسم الدلع لاستثمارات الجيش) وبالحكومة، وإن كان بيانها الاول ذاك منذ أيام يخوض بالسياسة ويتناول "قوى الشر" التي "تأبى لمصر أن تتقدم"، ويختتم خطابه بـ"حفظ الله مصر وشعبها".. وأما رئيس مجلس ادارتها الذي وقّع البيان فهو طه الحكيم، جنرال في الجيش، ولكنه هنا يضع د. بدلاً من الرتبة العسكرية.

ودُبسي هذه لا توفر السيارات فحسب بل تهتم بالنقل "من الطربوش للبابوج": موتورسيكل، باص، طائرة، يخت.. ما لم تباشره بعد "أوبر" (وهي في الواقع بدأت بالنقل الجوي بالهليكوبترات منذ فترة قصيرة في بعض الأماكن من العالم)، فسبقها الجدعان. ثم أنه يتوفر في كل هذه الوسائل "واي فاي" مجاني. وهناك كاميرات تسجِّل حركة القبطان/ السائق وكذلك حركة الزبون طوال الرحلة. ولو صح ان طموح دُبسي هو نقل مليون مسافر في الايام الاولى من بدئها العمل مطلع الشهر القادم، فسيكون هناك فرص شغل هائلة مرتبطة ليس بمئات آلاف السائقين المطلوبين للعمل، بل بآلاف الموظفين الذين سيهتمون بأرشفة وتخزين التسجيلات – ما رفضته "أوبر" واشتبكت بناء عليه مع الحكومة التي كانت تطالبها ببيانات الزبائن. سيكون هناك إذاً ملايين التسجيلات خلال فترة قصيرة، وهذا كنز ثمين لمزيد من إحكام الرقابة على حركة الناس، وأما الحجة فهي أن التسجيلات "تهذب" سلوك الطرفين إذ ثمة عين تراقبهما طوال الوقت، وأنه يمكن استثمارها اذا وقع أي حادث من أي نوع لا سمح الله.. وقد يكون المخطط هو تأهيل جنود لتنفيذ المهمة، بلا مقابل أو بأجر رمزي. وسيكون المكلفون بها محظوظون لأنهم سيعملون في أماكن مريحة بخلاف شقاء مصانع الاسمنت والحديد والرخام والجص وأحواض تربية الأسماك والزراعة والسياحة والبناء، علاوة بالطبع على الغاز.. وسيعملون كذلك في أماكن غير خطرة ولا تتعرض لهجمات الجماعات المسلحة على أنواعها، ولا للاشتباك مع الاهالي في مناطق ساخنة بعينها.

فلمن لا يعلم، رتّب السيسي بسرعة فائقة، أي خلال البضع سنوات السالفة من حكمه (الذي ابتدأ في مثل هذه الأيام من 2014)، مراسيم رئاسية تجعل شركات الجيش تسيطر على هذه القطاعات وتحتكرها فعلياً – بإشراف "مشروعات الخدمة المدنية" أحياناً - والجهاز العسكري التابع للجيش منشأ منذ 1979 ولكنه انفجر توسعياً خلال السنوات الخمس الماضية، أو عبر شركات خاصة تُنشأ بغاية العمل على مشاريع محددة، وتكون برئاسة ضباط كبار في الجيش، سواء ممن ما زالوا في الخدمة أو ممن تقاعدوا. وفي الحالتين هو الجيش، وفي الحالتين تلغي شركاته واستثماراته كل ما كان قائماً في القطاعين العام والخاص.

ويحدث ذلك بشكل قسري، وبواسطة آليات لا تتيح للآخرين البقاء: وقد نشر "السفير العربي" أربع دراسات (*) تخص مصر كجزء من ملفين واسعين، واحد في موضوع "مسألة الارض" وآخر في كيفية "إدارة الموارد"، بيّن فيها الباحثون علي الرجال وحسام ربيع وماجدة حسني كيف تحظى المشاريع التي تديرها "شركات الجيش" (بل أن السيسي منح أجهزة المخابرات والداخلية، من خلال قرار رئاسي، حق إنشاء شركات أمن خاصة بها) بامتيازات تتيح لها توفير سلعها بأسعار منخفضة للغاية، لأنها معفية من الرسوم الجمركية المفروضة على استيراد الآلات والمواد الاولية، ومن الضرائب ومن تكاليف الانشاءات (باعتبار الجيش يضع يده على الاراضي كما يشاء)، وكذلك وبفضل تعميم ظاهرة العمال – الجنود، فهي متخففة من أجور اليد العاملة وقرف مطالباتها بحقوق وتأمينات وزيادات الخ.. بل وتتوفر لها امكانات النقل والتوزيع بلا كلفة. وهكذا تتصدر منتجاتها المبيعات في جميع المحافظات، فيفلس منافسوها!

وقد بدأ انخراط الجيش المباشر في الانتاج الاقتصادي منذ عهد السادات ثم طفا على السطح تغوّل "الحزب الوطني" الذي حكم مبارك بواسطته فشهدنا ظواهر "أحمد عز" وسواه ممن تقلدوا مناصب في الحكم وكانوا قلب حزب السلطة النابض وفي الوقت نفسه "رجال أعمال" – في الواقع مافيات بكل ما للكلمة من معنى - فاقت ثرواتهم المليارات (بالدولار!) وأغلبها بالطبع ناتج عن النهب الصريح (بدأت ثورة يناير 2011 بفضحهم واعتقال من طالته منهم وانتهت الى اجراء "تسويات" مضحكة معهم).. وما يتبقى خارج النهب الصريح فهو يأتي من حصة.. استغلال امتيازات السلطة.

يقول أحد تلك النصوص البحثية: "باتت المواد التي تنتجها مصانع الجيش والتي تحظى بامتيازات على رأسها السعر المنخفض، تتصدر المبيعات في جميع المحافظات وتُفصح عن النفوذ الاقتصادي المتصاعد للجيش. غير أنها تُظهر جانباً آخر غير مرئي، وهو مدى التوسع الهائل لقبضة القوات المسلحة على الموارد في مصر، بضوء أخضر من الدولة بل وبقوانين مصممة لذلك".

وها "دُبسي" لو كان أفلت شيء! ويمكن لأصحاب الافكار اقتراح قطاعات لم تخطر بعد على بال السيسي وضباطه. يقول أحد نصوصنا المشار اليها: "وضع السيسي الموارد تحت سيطرة الجيش بذريعة ضعف وترهّل هياكل المؤسسات المدنية للدولة، وعدم كفاءتها مقارنة بالجيش وأجهزته المختلفة. ولكن الأمر لا يرتبط فقط بالكفاءة، وإنما بالسيطرة وبالولاء". وهو هنا يستعيد مقولة استعمارية بامتياز أطلقها الجنرال ليوطي على المغرب في مطلع القرن العشرين حين أقيم نظام "الحماية" الفرنسية عليه، تعتبر أن هناك "مغرب نافع" وآخر غير نافع يمكن اهماله. وللنكتة (السمجة) فقد أعادت جماعات النظام السوري استخدام التعبير نفسه تعليقا على تمزق البلاد وتشرد نصف أهلها، فاعتبروا أنه لا يهم، فقد رحل "غير النافعين"!

وكان مبارك وابنه جمال خصوصاً ولفيف "لجنة السياسات" التي كان يديرها يخططون لإنشاء "مصر النافعة" وهم قدّروا عدد من يمكن انقاذهم بـ5 ملايين من بين ال90 مليوناً (وقتها)، بل كانوا يفكرون بتجميعهم في مكان واحد، يعملون فيه ويعيشون برغد، تماماً كالسيسي اليوم ومدينته الفاضلة (أو "العاصمة الادارية الجديدة" لمصر المنشأة في قلب الصحراء بعيداً عن القاهرة التي لا تُعاش، وكبعض الواحات الاخرى ك"مدينة العلمين" المنشأة على الشاطئ الشمالي).

حار الباحثون في الظاهرة التي اخترعها السيسي، ومنهم من سأل مثلاً عن الجهة التي تراكم الارباح. وقد اعتبر عمرو عادلي الباحث بالاقتصاد السياسي، أننا أمام نمط من الاقتصاد يمكن تسميته بـ"رأسمالية الجيش، وهو فرع من رأسمالية الدولة، حيث تضطلع مؤسساتها وأجهزتها وشركاتها بالنشاط الاقتصادي تبعاً لمنطق السوق وبغية تحقيق أرباح كأي كيان سوقي". ولكن هذا لا يشبه حالات رأسمالية الدولة السابقة تاريخياً، كالقطاع العام في عهد عبد الناصر.

البناء هجين، وهو ليس بالتأكيد قطاعاً عاماً، ولا تحركه مصلحة السكان (التي كانت قائمة، أقله كنيّة او كخطاب حتى في أسوء تجارب القطاع العام في العالم) بل الربحية الرأسمالية القصوى التي لا يمكن توفيرها هنا إلا بالاحتكار. تناقضات عجيبة غربية على رأسها أن يتم توليد هذه الحالة الاحتكارية السلطوية من قلب النيوليبرالية التي تناصب الاحتكار الاقتصادي والسلطة العداء!

يستحق الامر الفحص وتلمس تحليلات وقراءات قد تكون فرصة لانطلاق نتاج فكري مثمر.. عزّ في بلادنا في الفترة الماضية، إذ بدا الحال محكوماً بجدب عقيم لا يستفز الخيال!

______________
علي الرجّال | السيسي وإدارة الموارد في مصر
علي الرجّال | الأرض في مصر: صراع النفوذ والثروة والبقاء
ماجدة حسني | موارد مصر ليست لشعبها.. من يُحكِم قبضته عليها؟
حسام ربيع | في مصر: سياسات تؤسس لإقطاعيات كبيرة، وتُنهك صغار المزارعين

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...