هل تصدّقون وجود مثليين فلسطينيين ومثليات فلسطينيّات خارج الأفلام الأوروبيّة والإسرائيلية التي لا تكفّ عن مضغ القصة السطحية ذاتها حول فلسطيني مثلي الجنس يعشق مثلي إسرائيلي، فيهربان من غابة «الهوموفوبيا» (رهاب المثليين) العربيّة إلى مملكة التحرر في تل أبيب؟ مثابرة حثيثة يقودها مثليّون ومثليّات من فلسطين ضد الاستخدام الغربي والصهيوني لقضايا التحرر الجنسيّ والاجتماعي من أجل تكريس العداء للمجتمعات العربيّة باعتبارها مجتمعات قامعة، تصادر حقوق النساء كما تصادر التعددية الجنسيّة. توازت هذه المثابرة في أساسها مع حاجة المثليات والمثليين للائتلاف من خلال تنظيمات أهليّة. حاجة غذاها نمو الجمعيّات الأهليّة في نهاية العقد الماضي، وتصاعد قوة الحركة النسوية الفلسطينية في الفترة نفسها.
ارتباط الشأن المثلي بالقضية الفلسطينية فرض على الحركة المثليّة أسئلة أوسع وأعقد، وبالتالي حتّم عليها نقاشاً جدياً على المستوى الفكري، يتركّز حول حدود عمل التنظيمات المثليّة، والمرجعيّات الفكريّة التي تعتد بها، وحول السؤال الأكثر هيمنة: سؤال اللغة والخشية الدائمة من «استيراد» الخطاب والمفردات.
الخلاف مع العادي والشرعي والمهيمن
بدأت الحركات المثليّة والجنسانيّة في فلسطين قبل 10 سنوات تقريباً. ظهرت من رحم الحركات النسويّة وانفصلت عن هامش الحركة المثليّة الإسرائيلية، خاصةً بعد أن عاشت تحت ظلّها في مراحل الوهم «الأوسلوي». أهم هذه الحركات هي حركة «القوس» للتعددية الجنسية والجندريّة في المجتمع الفلسطيني، وحركة «أصوات - نساء فلسطينيات مثليّات»، إلى جانب منتدى الجنسانيّة ومؤسسات أخرى، حيث تعمل هذه الحركة على رفع قضايا الحريّات الجنسية والجندريّة في فلسطين، وعلى التوعية الاجتماعيّة عبر نشاطاتها وإصداراتها. وهي تشكّل بيئة داعمة للمثليات والمثليين، إلى جانب الدور السياسي الذي تمارسه في الحفاظ على الهوية الفلسطينية. بين هذه الحركات، تتميز «القوس» بأنها تتبنى «الكويريّة» في خطابها. والنظرية الكويريّة هي، كما تعرّفها حنين معيكي، واحدة من مؤسسات الحركة، «إسم شامل لمجموعة من النظريات النقديّة التي تركز على قضايا الجنسانية والنوع الاجتماعي والميول الجنسية على أنها مصنَّف مركزي يمكن من خلاله فهم ظواهر اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة». تعرف معيكي «الكويريّة» على أنها «مصطلح يأتي لنقد الهويّة الجنسية والجندريّة المقولبة والمحددة في خلق الهويّات والحفاظ عليها (...) كوير، يعني كل ما هو على خلاف مع العادي والشرعي والمهيمن، هوية إنسيابية لا تعترف بجوهر واحد ولا بدور اجتماعي جاهز».
جزء من الجدل حول الاستعمار
عوامل موضوعيّة كثيرة تغذّي الجدل الثقافي داخل الحركة. أوّلها تناول الاتجاه الأكاديمي الأميركي للنظرية الكويريّة بشكلٍ جدّي منذ تسعينيات القرن الماضي. وفي السياق ذاته، تناول الاتجاه الأكاديمي الأوروبيّ للاستعمار في أطر نظريّة ما بعد بنيويّة وما بعد حداثيّة. وهذا السياق الأخير ينعكس فيه حال المجتمع الفلسطيني بشكلٍ عام، حيث الاختلافات الأيديولوجيّة لم تعد تهيمن على أي نقاش، خاصةً ذاك السياسي. النقاشات في الشأن المثلي توفر بالأساس مساهمة فكرية لها علاقة مباشرة بتعريف أهداف العمل على الأرض، وهو ما فقدته الحركات السياسية في فلسطين لحظة موت «الحزب» وتقاسم وراثته بين السلطة من جهة، وبين «المنظمات غير الحكوميّة» من جهة أخرى. هذا العام، قطعت الحركتان المركزيّتان، «أصوات» و«القوس»، عشر سنوات من النشاط توّجتها «أصوات» في مؤتمرٍ عام واحتفالي حضره أكثر من 200 ناشط وناشطة، عُرضت خلاله تجارب ناشطين ومداخلات نقديّة لتجربة ومستقبل الحركة، في مجتمع يزداد فيه التديّن، ومحيط يشتد فيه عود الحركات الإسلامية يوماً بعد يوم. ويمكن القول أن مثل هذا المؤتمر يخرج عن المألوف. فحين عقد مؤتمر النساء المثليّات الأوّل في العام 2007، تظاهرت نساء الحركة الإسلاميّة عند مدخل قاعة الاجتماع. في حينه، تحدّث ممثل الحركة الإسلاميّة عن «فتح مراكز خاصة لفطام هؤلاء النساء ومعالجة اللواط مثلما تتم معالجة المدمنين على المخدرات».
الهوية الجنسية في السياق الثقافي العربي
أحد الملامح الأساسية لتطوّر هذه الحركة هو مواجهة الحصار اللغوي بشأن الميول الجنسيّة والمحرّمات. تبخل اللغة بدلالاتها، وتدفع البنية الأجتماعية التي ترفض المثليين إلى سلخ الخطاب عن لغته الطبيعية. يصبح استخدام المصطلحات الغربية أكثر شرعية وراحة وقبولاً في الجدل. الهروب من الهويّة العربيّة، يصبح طريقة للتخلص من الشعور «بالخزي». وقد كان محرّك الحركات المثلية الفلسطينية منذ انطلاقها هو الحفاظ على تماسك الهويتين، جَسْر الهوّة من أجل طرح الهويّة الجنسية في السياق الثقافي العربي. هذا ينطبق مثلاً على مشروع «أصوات» لتوثيق وإحياء التراث الأدبي والثقافي المتعلق بالجنسانيّة، مشروع ارتبط بنقاش عام حول المفردات والمصطلحات المستخدمة، ودلالاتها اللغويّة. جزء من القياديّات المثليّات، يعتبرن تثبيت كلمة «مثليين» ونبذ مصطلحات مثل اللواط أو الشذوذ أو السحاق في الخطاب الثقافي والصحافي والسياسي (العلماني على الأقل)، إنجازاً يجدر الحفاظ عليه.
التعاطي اللغوي والثقافي مع القضايا الجنسانية يرتبط ارتبطًا قوياً بمناهضة الحركة المثلية للاستعمار بمقوّماته الاستشراقيّة التي تشيّئ المجتمعات الشرقيّة، وتسطّح أبعادها في بعدٍ واحد يرفض رؤية التعدديات والاختلافات داخل المجتمع، ويفضّل قراءة المجتمع على أنه وحدة واحدة من الغيريين جنسياً. يصبح هذا شأناً أساسياً في محاولة الغرب فرض خطاب مثلي ذي بعد واحد، يعتمد على سياقات تاريخية وثقافية غربيّة، تتخذ من «الاعتراف بالغريزة» عاملاً مركزياً تؤسس عليه معرفتها الجنسانيّة (ولعلّ ميشيل فوكو من أهم المؤرّخين لهذه العوامل)، وتؤسس عليه ثنائيّات جامدة، تقع قضية اعتراف الإنسان بميوله الجنسية في مركزها. وتظهر مصطلحات «الخزي» مقابل الـ«فخر» (pride) وهو التعبير المستخدم عالمياً لـ«الخروج للعلن» (انظر المظاهرات السنوية العملاقة في أكثر من عاصمة أوروبية... وفي تل أبيب)، وغيرها من معايير غير مؤسِسَة بالنسبة للثقافة الشرقيّة، في حين أن عولمة الخطابات تُحوِّلها لمصيريّة.
تل أبيب جنة التحرر الجنسي؟
هذا التناول الاستشراقي يحوّل تل أبيب في العالم الغربي إلى «عاصمة الفخر». إنها، كما تعرضها إسرائيل، المكان الوحيد في الشرق الأوسط الذي يمكن أن تمارس فيه إعلانك عن هويتك الجنسيّة بحريّة. «تفتخر» في تل أبيب مقابل أن تكون «مَخزياً» في القاهرة. هذه الدعاية الإسرائيلية يطلق عليها الناشطون الفلسطينيون تعبير «الغسيل الورديّ» Pink washing، وهو مصطلح تعود جذوره إلى أوروبا النازيّة، حيث عَلّم النازيّون مثليي الجنس بمثلثات ورديّة في معسكرات الإبادة. وأن يسوَّق لتل أبيب على هذه الصورة التي لا ترى من الامر سوى الحرية الفردية، والتي تصبح والحال أقرب الى استعارة بطاقة سياحية (ودعائية) جذابة، هي واحدة من مفارقات إسرائيل الكثيرة، بينما يطغى تزمت ديني صارم على سائر أرجاء هذه الاخيرة.
في مواجهة هذه الدعاية الإسرائيليّة، أسست مجموعة من المثليين والمثليات حركة مقاطعة لإسرائيل تحمل اسم «كويريون فلسطينيون لمقاطعة إسرائيل»، تنشط في مدن أوروبيّة وأميركية، وتهدف لمقاومة الدعاية الإسرائيلية وتدعو لمقاطعتها. الحركة الكويرية في فلسطين، كذلك ترفض أي تعاون مع جمعيات إسرائيلية، حتى تلك التي تدّعي بأنها «يساريّة».
لا هويات جوهرية ونمطية، وهوية فلسطينية مع ذلك
طرح الحركة الكويرية مركّب، حيث أنه من جهة يعارض الهويّات التي تدَّعي بأنها هويّات جوهرية، ويرفض الهويات النمطيّة، لكنه من ناحية أخرى يرفض التنازل عن الهوية الفلسطينية لصالح هوية مثليّة مجردة من سياقها الجغرافي والثقافي والوطني. معارضو الحركة الكويرية يقعون في تناقضات أكثر جديّة. فالأطراف التي تدّعي أن النظرية الكويرية هي نظرية غربيّة لا يمكن استيرادها، وأنها غريبة على الثقافة العربيّة، وأن الحركة المثليّة يجب أن تعتمد على تجربتها وصيرورتها في المرجعيات الفكريّة بدلاً من استجداء خطاب غربي، هم ذاتهم الذين يتهمون الحركة الكويرية براديكاليتها لرفضها التعامل مع الإسرائيليين والغرب.
يبقى الخلاف الأساسي في الحركة المثليّة هو بين من يطالبون بعدم التمييز ضد مثليي الجنس وعدم تهميشهم عن مركز المجتمع، مقابل كويريين لا يطالبون باقتراب المثليين من المركز، بل يناهضون «المركزيّة» من أساسها، ويُعْلون من شأن «الهامشية» كواحد من شروط الموقف الثوري.
نخبة ثقافية
النظر من الخارج إلى كل الجدل القائم كوحدة واحدة، يحيله نقاشًا داخل النخبة الثقافية. أكثر من هذا، فإن شريحة من المثقفين يوجهون هجوماً لاذعاً ضد هذا التيّار بأكمله. قبل عامين، أفتُتح موقع ثقافي، أدبي وسياسي فلسطيني في الداخل، حمل إسم «قدّيتا»، قريةً مهجّرة شمال فلسطين. وفي خطوةٍ جريئة غير مسبوقة، تضمّن الموقع زاوية للكتابة المثليّة تحت إسم «مثليون ونَصْ»، (على أثر الجدل، تغيّر إسم الزاوية وأصبح «كويريّات»). زاويةً تحوي نصوصاً أدبية مثلية إلى جانب مقالات فكريّة وعلميّة تعنى بالقضية الفلسطينية. في أسبوع انطلاقته، واجه الموقع هجوماً عنيفاً من قبل مؤسسات ثقافية وأفراد يناهضون «الزجّ بإسم قرية فلسطينية مهجرة، وقضيّة النكبة، في مسألة من هذا النوع»، خطاب اعتمد بالأساس على الاعتراف بحريّة الفرد في ممارسة معتقداته وميوله، وإنما ضمن حيّزه الخاص، دون إدخاله في الحيّز العام.
بغض النظر عن اختلاف البعض أو اتفاقهم مع مضمون الخطاب المثلي أو الكويري في فلسطين، إلا أن ما لا يمكن تجاهله هو أن هذا الخطاب يؤسس لنقاشٍ فكري وسياسي ناضج وعميق، يحوي أبعاداً اجتماعيّة وسياسيّة أوسع بكثير من التكتيكات والإستراتيجية السياسيّة والعسكريّة السائدة. انه يقدّم قراءة سياسيّة تعتمد على أدوات سوسيولوجية واقتصاديّة، وتنظّر لنشاط سياسي ملتزم فكريا، وإن ضاقت مساحته، في خضم «مهننة» العمل السياسي وغياب المثقّف العضوي.