غزّة بلسان أبنائها

يكثّف القصف ليلاً وتخفّ وطأته في ساعات النهار التي ينشغل خلالها الغزّيون بتجهيز أنفسهم لحربٍ لا يعرفون كم ستطول. يمر الوقت في محاولة التفريق بين الشائعات والحقائق. وبعدّ الضربات الموجّهة لتلّ أبيب، وبينما كان الحديث يدور عن دخول برّي، هيمنت الهُدنة في ساعات الليل المتأخرة، وبعد ذلك بساعات بدأ الحديث عن قطع شمال غزّة عن جنوبها، ثم شاع أن الإسرائيليين يتجهون لتأجيل انتخاباتهم، ما يُخطِر بقدوم أشهر
2012-11-21

مجد كيّال

كاتب فلسطيني من حيفا


شارك

يكثّف القصف ليلاً وتخفّ وطأته في ساعات النهار التي ينشغل خلالها الغزّيون بتجهيز أنفسهم لحربٍ لا يعرفون كم ستطول. يمر الوقت في محاولة التفريق بين الشائعات والحقائق. وبعدّ الضربات الموجّهة لتلّ أبيب، وبينما كان الحديث يدور عن دخول برّي، هيمنت الهُدنة في ساعات الليل المتأخرة، وبعد ذلك بساعات بدأ الحديث عن قطع شمال غزّة عن جنوبها، ثم شاع أن الإسرائيليين يتجهون لتأجيل انتخاباتهم، ما يُخطِر بقدوم أشهر قتالٍ طويلة. وفي القاهرة انعقدت اجتماعات قمة من طراز خاص، بدا معها كأن محوراً يجمع مصر بقطر بتركيا، وقد التقى رؤساء هذه الدول بقادة حماس، بينما كان مبعوث اسرائيلي سري يزور في الوقت عينه العاصمة المصرية. وبينما القصف الاسرائيلي يشتد وترتفع معه اعداد الضحايا، يكرر باراك أوباما ايمانه بـ"حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها". هذه التحركات "الجادة" جميعها، والتصريحات المعلنة أو المسربة، تصادر مساحة القول والتأويل، تماماً كما هي عادة الاطراف المهيمنة. هي تريد أن تقول ان القوي وحده هو من يمتلك الحق في الكلام وتعيين ما هو صح وما هو غلط. وقد وصل الامر باسرائيل في أول أيام العدوان الحالي على غزة أن طمعت بمصادرة مساحة تويتر، وانشأت لهذا الغرض "هاشتاغ" لمتابعة افعالها أولا بأول، وصورت عملية اغتيال القائد الجعبري وبثتها على يوتوب، "لايف".
ثمة فرضيات لا حصر لها تحيط بكل هذا، لعل أسخفها هي تلك التي تفسر العدوان برغبة نتنياهو بتعزيز حظوظه في الانتخابات المقبلة، كأن ثمة ما يهدده أو يقلقه، وهذا ليس قائماً، أو برغبة باراك في التقدم انتخابياً... كأن قتل الفلسطينيين من أجل ذلك مشروع، أو قابل للفهم والتفهم كسبب يجعل العدوان "منطقيا"ً. وهناك من يعتقد أن اسرائيل تريد اختبار القبة الحديدية، وهذا يشبه سلوك من يرتدي سترة واقية ثم يطلق النار على نفسه لتفحص فعالية سترته. كما اعتبرت السلطة أن الامر برمته تخريب على جهودها في الامم المتحدة لإكساب فلسطين صفة الدولة غير العضو، ولذا اغتاظت من العدوان... وقمعت المظاهرات المنددة به في الضفة. وبمقابل هذه "الحروب الصغيرة"، لعل إسرائيل تحتاج لإجراء اختبار فاضح للقوى المحيطة بها، لتبيان حدود التغيير في مصر مثلاً، التي وإن سحبت سفيرها من تل أبيب، وارسلت رئيس وزرائها في زيارة خاطفة لغزة، (ما يختلف كثيراً عما كان يمكن أن يقوم به مبارك)، إلا أنها بعد ذلك تصب جهدها على التوسط من أجل تسوية تلفلف الموضوع بالتي هي أحسن، مجسدة برغمائيتها الراسخة... وفي هذا المجال، فقد تهدف إسرائيل في ما تهدف الى تظهير معنى تلك البرغمائية وحدودها.
لكن، وعلى ذلك كله، فثمة معطى لا تتحمله اسرائيل أبداً، ويقع على رأس الأسباب العميقة لانفلات إجرامها، وهو امتلاك المُخْضَع (موضوعياً)، الضحية، للطاقة على رد الصفعات. لذا قصفت مصنع الاسلحة في السودان منذ أسابيع. لذا قصفت أول ما قصفت منصات الصواريخ في غزة. أن يكون بحوزة حماس صواريخ، وأن تطلقها، فتستهدف تل أبيب والقدس يصيبها بالجنون، والادق، بالاختلال. وهذا الاستعداد للمقاومة هو بنظر القوى المهيمنة إجمالاً أمر لا يطاق، وينبغي له أن يتوقف فوراً، وأن تُجرَد حماس من تلك الادوات. وإلا فذلك يبرر سحق غزة وأهلها كلهم لو لزم الامر.
ولهذا، وبالضد من منطق المهيمِنين، فأنْ يعاد الكلام الى الفلسطينيين أنفسهم، هو التضامن والمساندة اللذان نقوى عليهما. اليكم ما يقوله شباب وشابات من غزة بعمر الورود.

("السفير العربي")

*********************

هذه ليست حرب 2008
يُجمع المتحدثون من غزّة على أن الكثير تغير عما كانت عليه الحال عند اندلاع الهجوم الاسرائيلي في نهاية عام 2008. تقول رنا ( 25 سنة، موظّفة، حيّ الزيتون) بأن اهتمام الحكومة بتدعيم صمود الناس، بالتموين والاحتياجات الطبيّة، في تحسّن ملحوظ. البعض يتحدّث عن صعوبة في توزيع المواد وإيصالها لجميع الأحياء والبلدات تحت القصف، وفي الوقت ذاته، يتفقون على تحسّن أداء موظفي الحكومة والجهود المبذولة لضبط الأسعار، وفتح خطوط الطوارئ وتقديم المساعدات اللازمة. "هذه التغييرات مهمة، فهي ترفع معنويّات الأهالي، لكنها أيضا تنعكس بإنجازات قتاليّة أرفع في الميدان". نستغرب كيف يربط محمود (23 سنة، مزارع، قرية خزاعة) بين ضبط الأسعار والقدرات القتاليّة، لكنه يفسّر: "بيتي في أقرب نقطة للحدود مع إسرائيل، وبطبيعة الحال تقصف المقاومة من مناطق قريبة جدا. في العام 2008 لم يثق الأهالي بالمقاومة مثل اليوم، حينها كنت شاهدا على عائلات تغلق أبوابها أمام شباب المقاومة، أو تمنعهم من إطلاق الصواريخ من مزارعها. اليوم نلمس تلاحما وثقة أعلى بين المقاومة والناس". ويضيف محمود: "في حرب 2008 كان الدم بين فتح وحماس لم يجف بعد. وفي ظل الاقتتال الداخلي، أعاقت هذه العصبيّات القتال ضد إسرائيل، ضربت التنسيق بين الفصائل وشكّلت شرخا بين عائلات تابعة لفصائل معينة ومقاتلي الفصائل الأخرى". لا يتوقّف محمود عند هذا ويذكر ما ذكرته رنا أيضا: في الحرب السابقة كانت حماس لا تزال جديدة على الحكم، كانت خائفة من فقدان السيطرة، فتعاملت مع الناس بشدة، وقد ولد ذلك عداء بينها وبين شرائح كبيرة من الشعب". حماس، بحسب ما يُذكر "غيّرت توجهها بعد العام 2010، وأخذت تتعامل بهدوء وباكتراث لهموم الناس، وهذا ما تجني المقاومة ثماره اليوم". وأما عن الاستعدادات للاجتياح براً، أجابت إباء (22 سنة، صحافيّة، حي النصر) بأنّ الطوابير طويلة على أبواب المخابز ومحطّات الطاقة ومتاجر التموين، الناس تشعر بالضغوطات. "التوقّعات هنا بأن يطول الاجتياح هذه المرّة، في حال تمّ، كما أنه سيكون اجتياحاً أعمق". أما عن الاستعدادات العسكريّة، فلم تكن إباء تعرف الكثير، فتركنا الأمر لأيمن (28 سنة، عاطل عن العمل، مخيم جباليا): "انسوا ما تعرفونه عن الحرب الشعبيّة، جرّبنا ذلك في بداية الانتفاضة الثانية وتورّطنا، أنْ توزّع الأسلحة على الشبّان وتقول لهم اخرجوا وقاتلوا، هذه مراهقة. الأساليب القتالية التي تنتهجها المقاومة اليوم تتطلب مستوى من الخبرات والتدريب والمعرفة". حديث أيمن يستحضر اعتراف الإسرائيليين بأن الصاروخ بعيد المدى الذي ضرب القدس كان صاروخًا محليّ الصنع. "لسنا في مقام دولة، ولا جيش نظاميّ، لكننا أيضاً لدينا قدرة على تطوير أنفسنا وتطوير التسليح. وعلى مستوى الاستخبارات، المقاومة استخلصت بعض العبر. وعلى المستوى التقني تعلمنا من أخطائنا في اختيار الأفراد".
يتجاهل أيمن، في حديثه المجنّد حتى النخاع، الفشل المخابراتي المؤلم الذي أدى إلى استشهاد رئيس أركان المقاومة أحمد الجعبري. أما محمود، فيقول من بيته أمام الحدود انه "من الواضح أن شباب المقاومة صاروا أكثر حذراً، ويتكبدون خسائر أقل، يتوقّعون أساليب الإسرائيليين فيكون الكرّ والفرّ محسوبين". من جهتها ترى رنا " أن تضخيم إنجازات المقاومة يحدث ضمن الحرب النفسية على العدو، وقد نصدق نحن كل شيء فيخيب أملنا حين نكتشف أن هناك مبالغة. تعلمنا الا نصدق كل شيء".

ألم نمت بما يكفي؟
تختلف هذه الحرب عن السابقة بعدد الشهداء الذين سقطوا جرّاء القصف الإسرائيلي، ما يكشف مفارقات جنونيّة يعيشها الفلسطينيّون: نستغرب ونحلل ونناقش كيف أن عدد القتلى "أقل من المتوقع". أعتدنا أن يسقط الشهداء بالمئات، فنتفاجأ أن عدد الشهداء في خامس أيام الحرب "لم يتجاوز الخمسين...". هكذا يفكر الكثيرون، لكننا نخجل أن نقول هذا، نخجل من مدى تعايشنا مع موتنا. تقول إباء من موقعها في حيّ النصر، شمال غرب غزّة بأن "الصمود تحت الحصار لسنوات طويلة إضافةً لصمود المقاومة رغم فظاعة المجازر في العام 2008، لقّنت الإسرائيليين درسا بأن القتل لا يجعل الناس تقف ضد المقاومة، القتل لا ينفع معنا". يرى محمود أن الأسباب ليست متعلقة بإسرائيل بقدر ما هي مرتبطة بتغيرات موضوعيّة في تعامل الغزيين مع الظروف: "نحن على وعي أكبر لكيفية التصرف في هكذا وضع، نعرف أكثر من الماضي عن احتياطات الأمان، ونفهم ضرورة الابتعاد، قدر الإمكان، عن المناطق المستهدفة أكثر من غيرها. نعرف أن إسرائيل تقصف المكان ذاته أكثر من مرّة، لذا فإن مئات الشهداء سقطوا في السابق عندما هرعوا إلى مكان القصف بعد الغارة الاولى، فقصفوهم بعد دقائق. هناك تحسّن في هذا الجانب، وهناك تفهّم لضرورة إفساح المجال لطواقم الإنقاذ والطواقم الطبية المختصة للقيام بعملها". يتحدث إلينا محمود من بلدته خزاعة، شرقيّ خان يونس، بيته يبعد عن الحدود أقل من كيلومتر واحد. في الأيام العاديّة تدخل الآليات العسكرية الإسرائيلية إلى عمقٍ 500 متر لتمشيط الحدود، الآن لا يرد ذلك بالحسبان. لا تعاني خزاعة من القصف، لأنها الأقرب إلى الحدود. إنها لا تقصف إلا أربع أو خمس غارات في اليوم، "عدد بسيط، خمس غارات يومياً، عدد بسيط..." يقول محمود. الشائعات حول دخول برّي محتمل دفع بالكثير من أهالي البلدة إلى مغادرتها نحو عمق القطاع.

نطال تل أبيب!
خزاعة، هذه البلدة الصغيرة التي أحرقها الإسرائيليّون بالفوسفور الأبيض فسقط الشهداء احتراقا، ستكون أول البلدات التي سيصادفها الإسرائيليون في حال الاجتياح البريّ. محمود يصف لنا خزاعة بأنها صامتة ومعتمة في ليالي الشتاء، كأنها قرية أشباح. صمتٌ وعتمة لم يبددهما إلا احتفال الأهالي، بإطلاق الألعاب النارية وتكبيرات المساجد ابتهاجا بقصف تل أبيب. وقصف تل أبيب هذا حكاية طويلة تغمر الفلسطينيين فرحا رغم الرعب والمأساة. كانت إباء عبر الهاتف تتحدث بانطلاق وضحكة، عندما اتصلنا بها لنسألها عن ردود الفعل بعد ضرب تل أبيب. بدّلنا الأدوار وانهالت هي بالأسئلة والمزاح حول ردود الفعل في الداخل: "كيف؟ مبسوطين؟ كيف هلمفاجأة؟ فكرْكم إحنا أيّ كلام؟".
في اليوم التالي اتصلتُ لأسأل إباء عن قصف برج شوّا وحصري، حيث تتمركز مكاتب الصحافة، بدا صوتها أكثر جديّة وهي تحدّثني عن صديقها حمزة العطّار الذي عمل في وكالة الأنباء "رمتان" وأصيب في العام 2006 بجروحٍ بالغة في صدره أثناء تغطيته لاجتياح بيت حانون، إصابة عاد منها للحياة بأعجوبة. فارق حمزة غزة لمدة ست سنوات، وعندما اشتعلت الحرب قبل أيام قليلة، أصرّ أن يغطي الحرب فعاد إلى غزّة، وبعد أقل من يوم على دخوله، أصيب حمزة مرة أخرى. هذه المفارقة تذكّر إباء بقصةٍ أخرى: "وصلتني معلومات قبل قليل حول عائلة في تل الهوى دُمّر بيتها في الحرب السابقة، بعد سنوات طويلة من الإجراءات والمتاعب والجهود، أنهت العائلة قبل أسبوعين ترميم منزلها، وفي الأمس دمرته الطائرات مرةً أخرى". وقبل أن ننهي المكالمة مع إباء قالت: "كل شيء يختلط هنا، الحزن يخنقنا مع كل شهيد يسقط، لكن الفرحة تتسع عندما نعرف أن لدمنا ثمنا ما يدفع في تل أبيب". ولسبب لم أفهمه، طلبت منّا نحن المقيمين في حيفا أن ننتبه إلى أنفسنا.

مقالات من فلسطين

أيرلندا تتبرّأ من عار بايدن

2024-03-21

ليس التماهي الصادق والعميق الذي يعبر عنه عموم الأيرلنديين تجاه الفلسطينيين وقضيتهم جديداً في أيّ حال من الأحوال. الآن، خلال الإبادة التي تتعرض لها غزة، وقبلها، وعند كل منعطف وحدث،...

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...

للكاتب نفسه

فلسطين: حقوقيّون في ظلال الـ"درونز"

مجد كيّال 2022-01-06

تلعب إسرائيل دوراً محورياً في تشكيل رؤية الحروب في عصر "الدرونز". فهي اعتمدت في حروبها السريعة بعد حرب 1967، على الارتكاز لسلاح الجو، وقدرات المراقبة والسيطرة عن بعد، وتجنب التوغّل...

لحظة كل الممكنات وكل المخاطر

مجد كيّال 2021-05-26

الحرب العميقة تنطلق على مستويين. الأوّل هو المستوى الأمني، وقد بدأت إسرائيل تسعى إلى ترميم صورة "الوحش" التي كسرناها. ولكن هناك مستوى أخطر: حين تهدأ الأخبار، تبدأ المؤسسة الأمنيّة ببسط...