في كل 15 أيار/ مايو من كل عام، يشج الخطيب على منصّة إحياء يوم النكبة رؤوسنا باقتباس من قيادات إسرائيلية مؤسِّسة تقول عنّا أن "الكبار سيموتون والصغار سينسون". نحتفي بأنفسنا ونصفّق ونحن نتذكّر نكبتنا، ونحن نفنّد هذه المقولة الصهيونيّة العابرة في هذه القرية المهجّرة أو تلك. هذا هو إنجازنا العظيم بعد 65 عاماً من الهزيمة: إننا نتذكّر.
"تذكُّرُ النكبة" نقطةً إشكاليّة، أولاً لأن تفنيد الاقتباس الإسرائيلي يبدأ من نقطةٍ تُسَلِّمُ بمنطقه الاستعماري، بأن الشعوب تنسى مع الوقت. هكذا، تنسى فحسب. وبالحقيقة، فإن الأجيال لا تنسى بفعل الزمن، بل تنسى بفعل طمس الرواية على يد الغزاة، وتنسى بفعل منعها بالحديد والنار من إحياء تراثها وتاريخها، لذا فإن التعاطي مع هذه المقولة بالذات، يضفي عليها شيئاً من البراءة الوهميّة.
من جانب آخر، فإن تذكّر النكبة يفترض ضمنياً بأنها غائبة، بأنها قطعةٌ على رفّ التاريخ يأكلها الغبار. لكنه غياب وهمي، لأن الوقائع تدل بأن كل عوامل النكبة لا تزال موجودة على الأرض، تُمارَس وتتجدد وتتواصل يومياً.
نحن لا نشهد تداعيات النكبة، نحن نشهد النكبة ذاتها. والتعامل مع النكبة على أنها حدث غائب في التاريخ، يعكس حقيقة وضع اجتماعي وسياسي يدير وجهه لمشروع النكبة المستمر يومياً على أرض فلسطين. نحن نشتغل بالتذكّر للهروب من العجز عن وقف الكارثة، عن صد مشروع النكبة. وهو بتعريفه مشروع محو الوجود العربي من فلسطين، ومحو فلسطين من الوجدان العربي.
على الأرض... مُستمرّة
لنضع جانباً قدرتنا العجيبة كبشر على تسطيح كل مقولة وتحويلها شعاراً أجوف. "النكبة مستمرّة"، واقع يُطبّق بالأرقام والمعطيات، بالجرافات ونصوص القوانين والتمويل وبالنار. معطيات مصادرة الأراضي في النقب، المثلث، والجليل، ناهيك عن القدس وقرى ومدن الضفة الغربيّة طبعاً. مئات مشاريع التوسع الإسرائيليّة التي تعمل عليها سلطات الإحتلال بأذرعها المختلفة من أجل مصادرة الأراضي، هدم البيوت والقرى واقتلاع الوجود العربي، وحصر الفلسطينيين داخل أقل مساحة ممكنة من الأرض. سكك حديديّة، متنزّهات، غابات، مزابل، مصانع، مستوطنات جديدة، مستوطنات قديمة تتوسّع، اوتوسترادات تشقّ فلسطين، معسكرات استخباراتية ومدن عسكريّة وحقول تدريبات، قُرى فنّانين ومواقع سياحيّة ومجمّعات تجاريّة وغيرها الكثير. مشاريع إسرائيلية لا تعد ولا تُحصى في كل زاوية من فلسطين، تُصادر لأجلها آلاف الدونمات من أراضي الفلسطينيين، تُهدم من أجلها عشرات القرى، ويُهجّر من أجلها عشرات الآلاف من الفلسطينيين. وهذا مذاك، منذ الإعلان الأول للنكبة، يجري بلا توقف.
يُعتبر "مخطط برافر" واحدا من أخطر المخططات التي تواجه فلسطين، ووظيفته واضحة ومباشرة وصاعقة: مخطط لتركيز الفلسطينيين الذين يشكلون 30 في المئة من سكّان منطقة النقب في (1) واحد في المئة من أراضي هذه المنطقة. مخطط بموجبه سيتم هدم 35 قرية فلسطينيّة ومصادرة كامل أراضيها، ثم تركيز أهاليها البدو في تجمّعات سكنيّة خططتها وبنتها إسرائيل حديثاً، تجمّعات لا تمت بصلة لطبيعة المجتمع البدوي في فلسطين، لا لطبيعة اقتصاده الزراعيّة ولا لطبيعة عِمارته أو أسلوب حياته.
لكن الديموقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط لا تهدم الـ 35 قرية مباشرةً، بل تواصل على مدى عشرات السنوات سياسات تضييق الخناق ضد السكّان لإجبارهم على ترك أراضيهم بأنفسهم. فهذه القرى تقبع في العام 2013 دون ماء وكهرباء، دون مدارس، ودون مراكز صحيّة، ودون بنى تحتيّة. وبعد أن فشلت مساعي التهجير البطيء، قررت إسرائيل أن تطهّر الأرض بقوة الحديد، فلبست قفّاز القانون. وهكذا، وإضافةً لعشرات القوانين والتشريعات السابقة، تضع اللمسات الأخيرة على تشريع قانون "برافر" الذي بموجبه ستنفذ المخطط.
ربما يجب أن نراجع أنفسنا؟ ربما النكبة انتهت فعلاً، ونحن في حالٍ مختلف الآن. ففي النكبة، كانت إسرائيل تهدم القرى، وبعد أن تهدمها تجد طرقاً لإخفاء معالمها وأنقاضها، فأخذت تزرع الأحراش والغابات فوق القرى المهدّمة. أما اليوم، فهي تعدّ المخططات الهيكليّة لغرس الغابات أولاً، ومن ثمَّ تهدم القرية. هذا ما يحصل في قرية "عتير" حيث تغرس غابة "يتير" على أراضي القرية. وقد غرست غابة "هشاجريريم" على أراضي قرية العراقيب. وفي النكبة، كانت القوى الإمبرياليّة تموّل هدم بيوتنا ومصادرة أراضينا، أما اليوم فبموجب القانون الإسرائيلي، تُلزم إسرائيل العائلات الفلسطينية التي تُهدم بيوتها بأن تدفع تكاليف جرافات الهدم، وتكاليف رجال الأمن الذين أتوا للاعتداء عليهم وإخراجهم من بيوتهم بالقوّة!
في المدينة... مُستمرّة
قبضة الاحتلال لا تخنق الأراضي والقرى والضواحي فقط، لكنها أيضاً تضرب عمق المدن. لدى النظام الصهيوني العنصري عشرات القوانين والتعليمات الإدارية التي تُصادر بموجبها أملاك الفلسطينيين، ويُمنع انتشارهم في المُدن التي يعيش فيها العرب واليهود. ففي مدن فلسطينية كثيرة مثل عكّا ويافا وحيفا، أغلبية البيوت الفلسطينية القائمة منذ ما قبل العام 1948، داخل الأسوار في عكّا أو في الأحياء الأصلية في حيفا ويافا، هي بيوت صادرها الإسرائيليّون بعد أن تركها سكّانها وقت المعارك. صادروها بموجب "قانون أملاك الغائبين"، وبموجبه تعتبر كل الأملاك التي وُجدت خالية وقت النكبة بأنها أملاك للدولة الإسرائيليّة ويحق لها التصرّف بها. ثم بدأ الفلسطينيّون الذين بقوا في مدنهم يعودون إلى بيوتهم الأصلية، ووجدوا أنفسهم مجبرين على استئجارها، أو استئجار بيوت جيرانهم المهجّرين من شركات الصهاينة.
معظم الفلسطينيين الذين يسكنون الأحياء الفلسطينيّة الأصليّة في المدن المختلطة، لا يملكون بيوتهم، لا يستطيعون إجراء تصليح صغير فيها دون العودة إلى المكاتب الحكوميّة، لا يستطيعون توريثها ولا يمكن بيعها. وفوق عملية الإفقار الممنهجة التي تعيشها هذه الأحياء، يموت الآباء المستأجِرون فيدخل الأبناء في مزادات لشراء البيوت التي ولدوا وكبروا فيها، مقابل من؟ مقابل مقاولين كبار وشركات كبيرة بوسعها دفع أضعاف الأضعاف. وحتّى في الحالات التي لا يتقدم فيها المقاولون لشراء البيت، فالسعر الذي تفرضه الحكومة باهظ. ومن جهتها وزارة الماليّة الإسرائيليّة، سنّت تعليمات تمنع منح القروض الإسكانيّة لشراء البيوت في هذه المناطق بالذات.
وفي بعض الحالات، لا تستطيع القوانين والتعليمات الحكوميّة ان تنجز تهجير الفلسطينيين من المدن، فتتكفل الجمعيّات الاستيطانيّة بالأمر. تشتري المعالم والبيوت والمباني بمبالغ خياليّة، وتستغل الفقر الكارثي للأهالي. أما خارج الحارات الأصليّة، فعنصرية المجتمع اليهودي كفيلة بطردنا: فتاوى دينيّة بمنع تأجير وبيع البيوت للعرب، إحراق ممتلكات واعتداءات وتهديد يومي للسكّان.
على الإنسان... مُستمرّة
النكبة مستمرة في قانون المواطنة الذي تفرضه إسرائيل. قانون يمنع الفلسطينيين داخل إسرائيل من العيش مع عائلتهم في الداخل، إذا ما كان أحد الزوجين من سكّان الضفة الغربيّة أو قطاع غزة، أو واحدة من الدول العربيّة التي يعرِّفها الإسرائيليّون كدولة عدو. وبأفضل الحالات الخاصة جداً والقليلة جداً، يمنح القانون إمكانيّة إقامة العائلة في الداخل بشروط مقيّدة تُحدد كل ظروف حياتها، وبتصريح موقت ومشروط يسمح بتهجيرها في أي لحظة وفق قواعد يتحكم الإسرائيلي بها. قانون يهجّر الفلسطينيين تدريجياً، أولاً بتقييد واشتراط وجودهم، ثم بإخراجهم عن القانون، ثم بطردهم من داخل فلسطين. نحن لا نتحدث عن عشرين وثلاثين حالة... نحن نتحدّث عن 150,000 عائلة فلسطينيّة مهددة بالتهجير بفعل "قانون المواطنة".
قد نقول إن إسرائيل تختلف عن الدول الفاشيّة، لأن الفاشيّات في العالم وصلت إلى الحكم ثم بدأت تسن القوانين العنصريّة تجهيزاً للتطهير العرقي. أما إسرائيل فقد بدأت طريقها بالتطهير العرقي، وها هي العصابة تفرّغت لتتسلى بسن القوانين لتهجير القليل الباقي.
ومثلما تنهش النكبة المستمرة العائلات في ما يتعلق بوجودها في البلد، فهي تخنق لقمة العيش والحياة الكريمة. الفقر سيّد مجتمعنا، الفلسطينيّون في الداخل يعيشون حالة إفقار ممنهجة تظهر في المعطيات الحكوميّة الإسرائيليّة: نسبة الفقر العامة لدى الفلسطينيين في الداخل 56.6 في المئة مقابل فقر اليهود الذي تبلغ نسبته 16.7 في المئة فقط، أما الأطفال العرب فمن بينهم 66 في المئة من الفقراء، بينما الأطفال اليهود منهم 21 في المئة فقراء. الإحصائيّات تقدّر بأن نسبة البطالة العامة عند الفلسطينيين في الداخل تصل الى 30 في المئة، بينما نسبة البطالة بين النساء الفلسطينيات فتصل إلى 75 في المئة، وبين النساء الحاصلات على شهادات أكاديميّة إلى 30 في المئة، أما في النقب فتصل النسبة في جزء من القرى إلى 40 في المئة، أما بطالة النساء هناك فتصل إلى 90 في المئة. لا يُمكن لحقيقة بهذا الوضوح أن تخفيها الإحصائيات الحكوميّة الكاذبة: القرى والمدن الفلسطينيّة تحتل الأماكن العشرة الأولى في أعلى نسب بطالة في إسرائيل.
في أزماتنا الداخليّة... مستمرّة
الانقسامات الفلسطينيّة، وبمركزها انقسام الحسيني - نشاشيبي مركّب أساسي من تدهور الأوضاع الاجتماعيّة الفلسطينية والسياسية في ظل الانتداب البريطاني. فهل "نتذكّر" انقسامنا عشيّة أيّار/مايو 1948، ونحن لا زلنا نعيش الانقسام الفلسطيني ذاته حتّى اليوم، أمام وجوهنا وفوق أكتافنا؟ وهل نذكر قرار التقسيم عشيّة النكبة (رفض العرب في حينه دولة على 45 في المئة من فلسطين) ونحن نشاهد اليوم على شاشة التلفزيون من يتوسّل دولة على 22 في المئة من الأرض؟ عوامل الهزيمة قائمة في الضفة الغربية وقطاع غزّة أيضاً، أو لعلنا نقول إن إخوتنا في الضفة وغزة يعيشون نكبتين: واحدة نيوليبراليّة في الضفة، والأخرى تبيع الجنّة وتشتريها في غزّة.
ونحن مستمرّون... لكن إلى أين؟
نعود للخطيب فوق منصّة إحياء ذكرى النكبة. نحن، يا سيّدي الخطيب، بالفعل لم ننسَ. نحن وأهالينا اجتزنا الكثير، وأنت أدرى. وإن كنّا تحدثنا عن النكبة من جانب محو الوجود العربي من فلسطين - أي التهجير - فقد عانينا ونعاني من النكبة المستمرة لمحو فلسطين من وجداننا.
ونحن لم ننسَ، اجتزنا الحُكم العسكري الذي فُرض علينا حتى العام 1966 بعد أن قُطعت علاقتنا بامتدادنا الثقافي، أٌلقي القبض على مدارسنا وتربيتنا وتعليمنا وعلى كل مسامات حياتنا. المخابرات عيّنت المعلمين والمدراء، والمخابرات أجبرت أجيالاً من الطلاب أن يقفوا في يوم "استقلال إسرائيل" لينشدوا: "بعيد استقلال بلادي غرّد الطير الشادي".
بقينا مجتمعاً صغيراً نتطبّع سعيا إلى لقمة العيش، ونخضع للضرورات الماديّة (بدرجات تتفاوت بحسب انتهازيّة الفرد) من جهة، لكننا أيضاً نمارس ارتباطنا بتاريخنا ووطننا وقضيتنا (بدرجات متفاوتة بحسب إنسانيّة الفرد)، إضافة إلى علقتنا بين من يعمم جهلاً بأننا عملاء لإسرائيل، ومن يعمم وهماً بأننا أساطير صمود.
لكن يا سيّدي يا ذا الصوت الجهوري، ربّما نتنياهو ورفاقه تنازلوا عن فكرة بن غوريون؟ ربّما يقولون الآن بسرّهم: حسناً، فليتذكّروا، لكن ليفعلوا هذا بصوتٍ منخفض مسلّمين بأن الواقع الجديد لن يتغيّر؟ فليتذكروا فقط، من دون مشروع سياسي، من دون نهضة ثقافيّة، من دون مؤسسات وطنيّة تحمل الهم الجماعي والهم الاستراتيجي والهم اليومي. من دون مشروع مضاد للنكبة، دون مشروع يرى بالعودة إمكانيّة من الوارد تحقيقها. الطريق طويل؟ نعرف. لا يمكننا أن نمشي فيه وحدنا؟ نعرف. ولهذا فنحن نراقب ما يجري في أقطارنا العربيّة بعينٍ من قلق وعينٍ من فخر.
النكبة مشروع صهيوني مستمر. يمكن الصمود أمامها بالحد الأدنى، لكن لا يمكن تحدّيها ونفيها من دون مشروعٍ نهضوي واضح الملامح. فلا يكفي أن نصفق لأنفسنا في المهرجان، لأننا نتذكر. الشعوب تتذكر تاريخها لتستفيد منه في ميدان العمل، ونحن لا نزال نتذكّر تاريخنا لنهرب من وجه واقعنا المأساوي.