شاءت الأقدار أن يستشهد الأسير عرفات جرادات في ذروة التضامن مع الأسير سامر العيساوي المضرب عن الطعام منذ أكثر من 250 يوماً. كان ذلك يوم جمعة خصص للاحتجاج الرسميّ في جميع أنحاء العالم، وفي الضفة وغزة أيضاً. مع انتشار خبر استشهاد عرفات جرادات اشتدت الاشتباكات في نقاط التماس، وحبسنا أنفاسنا ننتظر التطوّرات التي لم تأتِ. في تلك الساعات علّقنا آمالنا على الجنازة، حتى أن أحد الصحافيين حبس مقالته اليوميّة حتى انتهاء الدفن.
فمن تراث الانتفاضة الأولى أن تشتعل الاشتباكات الأعنف مع الجنود بعد دفن الشهيد، أما في تراث ما بعد الانتفاضة الثانية، فإن الجنازة تعلن نهاية مراسم الغضب. قالت السلطة إنها ستودّع الشهيد بجنازة عسكرية في بلدٍ ليس فيه من العساكر إلا من درّبهم الجنرال الاميركي دايتون لقمع المقاومة. ثم اكتشفنا أنهم يقصدون حمل النعش بمركبة عسكريّة تصلح ظروفها وشكلها بأفضل الأحوال لتكديس المعتقلين فيها بظروف قاسية. كما سمحوا لبعض عناصر كتائب الأقصى بإطلاق النار في الهواء، ربما دون أن يتم الحسم من رواتبهم. عرفات جرادات آخر شهيد للحركة الأسيرة حتّى الآن، لم تُسجّل انتفاضة على اسمه، ولا تتوقعوا أن يدخل مناهج التعليم. لكن بوسع ملابسات استشهاده وما تلاها من تكهنات وأحداث أن تفتح أسئلة كثيرة عميقة حول المجتمع الفلسطيني وقيمه الاجتماعية والتراثية المتعلقة بالنضال، وأسئلة أخرى حول طبيعة العدو الذي أمامنا، وأسئلة أخرى حول الواقع السياسيّ.
الأسير: نموذج المحرمات النضاليّة
رد الفعل التلقائي لكل مؤتمر صحافي يتحدث فيه وزير شؤون الأسرى عيسى قراقع هو الشك بكل كلمة. لأن هذه الوزارة، إلى جانب كونها لا تملك أي مصادر معلومات جديّة غير المحامين، ساهمت بالحفاظ على الوضع القائم داخل السجون الإسرائيليّة. فقد كشفت جهات صحافيّة في السابق تعتيمها على مجريات نضالات الحركة الأسيرة واضراباتها بهدف إسكات التضامن، وفصلت موظّفيها الذين نادوا بالإضراب عن الطعام تضامناً مع الأسرى، كما حاولت الضغط على الأسرى (أفراداً ومجموعات) لإنهاء الإضراب عن الطعام وقبول اتفاقيّات مُذلّة مع مصلحة السجون الإسرائيلية.
أدْلت وزارة الأسرى بتفصيل الكسور والجراح في جسد الشهيد، لكنها لم تعرض تقريراً طبّياً كاملاً، لم نعرف سبب الموت ولا ساعة الموت ولا نتائج فحوصات قادرة على أن تدل على الكثير وتفصح عن القصة التي قتلت عرفات جرادات. استشهد وكفى. يجب ألا نسأل، لكن تكفي دقائق قليلة من مراجعة المعطيات لنفهم أن المخفي أكبر من المعلوم بكثير. هناك أسئلة كثيرة، تدور بعض أجوبتها في أروقة الموظفين الخائفين من كشف الحقيقة. وتبقى أجوبة أخرى في أدراج محامي جرادات ووزير الأسرى. ولكننا كما لا نعرف السبب المباشر لموت جرادات، لا نعرف أيضاً لماذا يتم التستر على محاضر جلسة المحكمة العسكريّة لتمديد اعتقال الأسير، التي يتحدث فيها المحامي عن حالة جرادات النفسيّة، وعن ضرورة ابقائه تحت الرقابة، وعن أمر المحكمة الذي تجاهلته مصلحة السجون، بنقل جرادات إلى المستشفى. لا نعرف لماذا نُقل الأسير جرادات إلى سجن «مجدو» في اليوم ذاته الذي أستشهد فيه. ولماذا يمارس هذا الحجم من العنف والوحشيّة بحق سجين متهم بإلقاء الحجارة، وهي من التهم العاديّة والخفيفة.
لكن شيئاً ما دفع الشارع الفلسطيني لتصديق ما قيل في المؤتمر الصحافي الذي عقدته وزارة الأسرى لكشف نتائج تشريح جثّة الشهيد جرادات، حيث أحصيت الجروح وعُددت الكسور. استمعنا برضى للمؤتمر الصحافي، راغبين بتصديق المعطيات السطحيّة والمستخفّة بعقولنا. وكأننا كفلسطينيين أطلقنا زفير ارتياح بعد أن ثبت كذب الرواية الإسرائيليّة بأن جرادات قد توفي بنوبةٍ قلبيّة (وهي رواية تراجعت عنها إسرائيل قبل التشريح)، كأننا وجدنا ما يرضينا في آثار التعذيب الوحشي على جسد شهيدنا، وجدنا ما يحفظ الصورة البطوليّة والملحميّة لـ«كيف يجب أن يصمد الأسير، وكيف يجب أن يموت الفلسطيني». حافظنا على محرّم اسمه «الأسر».
وراء صورةٍ ذكوريّة تربط البطولة بالصمود تحت التعذيب الجسدي بالضرورة، تُمارس أبشع وسائل التعذيب وأكثرها وحشيّة وساديّة بنعومة وصمت: العزل، الإهانة، التعذيب النفسيّ، البرد، منع النوم لساعات طويلة، وغيرها وغيرها من وسائل التعذيب التي تدفع المعتقلين إلى حالات نفسيّة وانهيارات صحيّة عديدة، ولا تقل فعاليّة في انتزاع الاعترافات منهم. لكن في مخيّلتنا ستبقى الزنزانة دائماً سوداء اللون، رغم أن الزنزانة البيضاء المرتبة ذات المكيّف الهوائيّ الهادئ بدرجة حرارة تقترب من الصفر، أكثر وحشيّة وألماً. وراء هذه الصورة يعاني مئات الأسرى من الأمراض التي لا يتلقون لها أي علاج، تتردى حالتهم الصحيّة ويخرجون قبل موتهم بأسابيع قليلة، حين لا تعود أي فائدة من علاجهم. وكم من الأسرى يعانون من أمراض وحالات نفسيّة خطيرة نتيجة الكوارث التي يتعرضون لها خلال التحقيق دون أن يُفصح عنها أمام مجتمعٍ سيعتبرهم من «المجانين»؟
تعذيب روتيني...
«عادي» هكذا يكون ردّ مئات الأسرى الفلسطينيين حين يُسألون من قبل المحامين عن تفاصيل ظروف الاعتقال والتحقيق معهم. فما معنى هذا الـ«عادي»؟ تقول المحاميّة بانة شغري بدارنة من «اللجنة العامة لمناهضة التعذيب» في مداخلتها في ورشة عمل للخبراء الدوليين جرت في العام 2011 ، إن المحامي إذا ما أصرّ على تفصيل الظروف سيجد أن هذا «العادي» معناه الاعتداء بالصفع والركل أثناء الاعتقال في ساعات الليل المتأخرة، التهديد، التكبيل المؤلم والبصق، إلى جانب رحلة نقل بين المعتقل ومراكز التحقيق تستغرق من ثمانية ساعات حتى ثلاثة أيّام، في ظروف نقلٍ قاسية، ثم إلى غرف الزنازين التي لا تملك الحد الأدنى من الشروط الإنسانيّة. ثم العزل عن العالم الخارجي ومنع لقاء المحامين والصفع والتكبيل لمدة قد تصل إلى 22 ساعة متواصلة.
في العام 1999، أصدرت المحكمة العليا في إسرائيل قراراً تاريخياً يحد من التعذيب الجسدي في السجون، وقد تغيّرت بشكلٍ جذري أنماط التعذيب. التعذيب الجسدي الوحشي لا يزال موجوداً بحجّة «الضرورة»، ولكن تم تقييد إمكانيّاته. في مقابلةٍ مع قيادي في المخابرات الإسرائيليّة، قال عن ذلك القرار: «أصبنا بصدمة من قرار المحكمة، وفكّرنا أن الأمور لن تعود أبداً إلى ما كانت عليه... لكننا وجدنا طرقاً جديدة».
التعذيب في إسرائيل علم دقيق
نَقَلَ قرارُ المحكمة التعذيبَ في إسرائيل إلى مرحلةٍ جديدة، مرحلة يتم فيها التعذيب بحسب القانون. المحاميّة الشهيرة بالدفاع عن حقوق الأسرى الفلسطينيين، ليئا تسيميل، تقول: «بحوزة المحققين كراس تعليمي وعلمي دقيق للتعذيب بحسب القانون». يعرفون كم من الوقت يمكن أن يُمنع الأسير من النوم دون أن يموت، أو يتعرض لضرر لا رجعة عنه، كم من الوقت يمكنك شبحه، بأي زاوية يجب أن تلوي يديه. وليس هذا فقط، إنهم يدوّنون التعذيب بحسب القانون. بيروقراطيّة إسرائيلية حتى في التعذيب. يعبئون نموذجا فيه اسم المتهم وكيف تم تعليقه (مثلا) وكم من الوقت ابقي هكذا. يتحوّل التعذيب إلى ميكانيكية فاشيّة، لا تعبّر عن نفسيّة محققين في غرفة التحقيق بل عن عقليّة دولة كاملة، وهي مكيانيكية فاشيّة تذكّر بـ«آلة» فرانز كافكا في روايته «مستعمرة العقاب». وإن كنّا قد بدأنا في الحديث عن الأدب، فنذكر مسرحيّة «العذراء والموت» للكاتب آرييل دورفمان، وكان قد أخرجها في فلسطين المسرحي جوليانو مير ـ خميس الذي اغتالته أيادٍ فلسطينية في مخيّم جنين، وهي مسرحية تروي قصة طبيبٍ شارك باغتصاب أسيرة في سجون أميركا اللاتينيّة. يشارك الأطباء الإسرائيليون في مسلسل تعذيب الأسرى بشكل فعال، يشير إليه الباحثون والحقوقيون. فالطبيب الإسرائيلي متورط بتجاهل شكاوى الأسرى حول التعذيب، ويعيدهم مرات ومرّات إلى الأماكن التي عذبوا فيها، والأطباء لا يوثقون الأسباب الحقيقية للإصابات، ويدلون بنصائح للمحققين في كيفية التعذيب دون التعرض لخطر المسائلة، وكذلك يعطونهم معطيات طبيّة سريّة عن الأسرى المرضى لاستخدامها بالضغط عليهم. ليس من باب المصادفة، أن عُرضت «مستعمرة العقاب» و«العذراء والموت» على خشبات المسارح في فلسطين في العامين الأخيرين.
تطلب المحاميّة بانة شغري - بدارنة في حديثها مع «السفير العربي» أن نتخيّل وجودنا «في جهاز عملاق يعمل كله بهدف كسر روحك، كسر إرادتك وإفقادك أي معنى لإنسانيّتك، من أجل تحصيل اعتراف. هذه ليست عملية تحقيق، لا يتم استدراج المتهم لمعرفة الحقيقة ولا يتم عرض التناقضات بين الوقائع ورواية المتهم، ما لدينا هو إلغاء وحشي لإنسانية الأسير من أجل انتزاع تصريح من فمه، بغض النظر إن كان صحيحاً أم غير صحيح». يُعزل الأسير عن رفاقه، عن المحامي، وعن أي مصدر آخر للتعامل الإنساني، يُنفَى وجودُه. في أحيان كثير يُدخلون الأسير إلى أصدقاء لطفاء، يسقونه الماء ويضمدون جراحه، يتحدثون معه ويشعرونه بالأمان. وبعد أيامٍ قليلة، يكتشف الأسير أن هؤلاء كانوا «العصافير»، وهو الأسم الذي يُطلق على العملاء الذين يؤدون دور رفاق أسر ويتحايلون على الأسير لانتزاع اعترافه وتسجيله.
حرفياً ومجازاً: الأسرى يبحثون عن مخرج
تتبدل صور التعذيب في إسرائيل، لكن وحشيّتها لا تنخفض وإن قلّت نسبة الدم فيها. ونحن بدورنا نظلم الأسرى حين نحوّل معاناتهم إلى صور نمطيّة تحصر النضال بالصمود الجسدي تحت التحقيق. ونخدع أنفسنا حين نتوقف عن الأسئلة بخصوص الحركة الأسيرة: إلى أين وجهة هذه الحركة الأسيرة؟ ما الذي تغيّر في بُنيتها؟ أين ذهبت روحها النضالية التي كانت تُربك مصلحة السجون في وقتٍ مضى؟ وما الذي فعلته سلطة أوسلو وسلطة حماس بنضال الحركة الأسيرة؟ هي اليوم تعاني من انقسامات وفجوات كثيرة ، تأتي بالأساس لارتباط الأسرى بالفصائل، ما يحول دون توحيد قيادتهم في السجون، ويوجد تباينات كثيرة بالمواقف وبالعلاقة مع السجّان. من هذه الأوضاع بزغت ظاهرة الإضرابات الفرديّة للأسرى، وهي إضرابات لا تطالب بتحسين ظروف الحركة الأسيرة بل بتحرير الاسير من السجن. القصص الفرديّة وصورة الأسير التي يخوض الإضراب ورسائله إلى ابنته وزوجته هي الآن النجم اللامع في ليل قضية الأسرى. وليست أزمة الحركة الأسيرة هي السبب الوحيد لظاهرة الإضرابات الفرديّة، بل أيضاً وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الجائعة للقصص الإنسانيّة المؤثّرة، في زمنٍ سيطرت فيه البنية الإعلامية على المجتمع واستبدلت قواعد العمل السياسي الشعبي.