"المجتمع المدني" في تونس: قرن من الوجود والصراع

تتنوع مكونات المجتمع المدني في تونس والأدوار التي لعبها منذ نشأته إلى اليوم. فكما ساهم قسم منه في مقاومة الاستعمار والديكتاتورية والجهل والتطرف الديني، كان بعضه (وما زال) مجرد أدوات في أيادي هؤلاء. فالمجتمع المدني لم يكن يوماً منفصلاً تماماً عن السياسي، وإن اختلفت أشكال العلاقة بينهما.
2019-05-24

شارك
عارف الريس - لبنان

يعتبر العديد من الملاحظين ان الوضع في تونس أفضل و"أرحم" بكثير مما هو عليه الأمر في بقية دول "الربيع العربي". فعلى الرغم من خيبة الأمل العامة، وضعف مسار التغيير، وحتى الانتكاس الحاد في عدة مجالات، فإن المشهد التونسي يظل الأقل قتامة. أغلب التحليلات التي تحاول ان تفسر هذه "الخصوصية التونسية" تتمحور عادة حول أربعة عوامل رئيسية:

• تاريخي: "الوحدة" الدينية والمذهبية واللغوية للشعب التونسي.

• مؤسساتي - هيكلي: عدم ترادف سقوط الديكتاتور مع انهيار النظام والدولة، بالإضافة إلى ضعف الجيش التونسي وابعاده عن دائرة صنع القرار السياسي.

• جغرافي - سياسي: عدم توافر تونس على ثروات طبيعية كبيرة جداً وبعدها النسبي عن "مناطق التوتر" في الشرق الأوسط.

• ثقافي - اجتماعي: عدم ميل "الشخصية التونسية العامة" الى العنف والتطرف عموماً، وتفضيلها "التوافقات" بالإضافة إلى غياب ثقافة حمل السلاح.

لكن هناك عامل خامس مهم نادراً ما يتم التطرق اليه، ولا يعطيه المحللون المكانة التي يستحقها، حتى حين يذكرونه: "المجتمع المدني" ودوره في تشكيل تاريخ تونس الحديث. ونعتمد في تعريف"المجتمع المدني" ما تعتبر انه مجموعة الجمعيات والنقابات والمنظمات غير الحكومية والتي ليست لها اهداف ربحية، وتمثل تجمعات طوعية لمواطنين يدافعون عن قضايا معينة أو/ ويعملون على النهوض بشأن ما (ثقافي، حقوقي، مهني، بيئي، رياضي، الخ..).

ليس من السهل الحديث عن تاريخ "المجتمع المدني" التونسي والدور الذي لعبه طيلة أكثر من قرن، فالأمر يخص آلاف الجمعيات والمنظمات.. ولذا فالنص سيكتفي باعطاء فكرة عن الموضوع.

المجتمع المدني زمن الاستعمار الفرنسي: في البدء كانت الثقافة..

يعود تاريخ تأسيس أولى الجمعيات التونسية الى أواخر القرن التاسع عشر/ بدايات القرن العشرين. وقبل الحديث عن النشأة وظروفها، نشير الى الدور الكبير الذي لعبه الاتجاه الاصلاحي في تونس أواسط القرن التاسع عشر ومحاولته لتحديث الدولة ومؤسساتها عبر عصرنة التعليم والنظام السياسي (الغاء الرق، اصدار الدساتير، انشاء مدارس عسكرية ومدنية عصرية كالمدرسة الصادقية..). لم تكتمل حركة الإصلاح بسبب تراجع البايات وفساد حاشيتهم من جهة وبسبب قدوم الاستعمار الفرنسي من جهة اخرى.

لكن الاصلاحات وعلى محدوديتها ساهمت في ظهور طبقة من المثقفين، خصوصاً من سكان الحواضر الكبيرة، سيكون لهم شأن كبير في المستقبل. ويمكن تقسيم هذه المرحلة الى ثلاثة أطوار أساسية:

• قبل الحرب العالمية الأولى: الولادة

تأسست أول جمعية تونسية وهي "الجمعية الخلدونية"، سنة 1896 ثم تبعتها بعد بضعة سنوات جمعية "قدماء المدرسة الصادقية". كانت في الأساس جمعيات ثقافية، وكان موقف الفرنسيين منها متذبذباً: فمن جهة كانوا يعتبرونها محضنة لاستقطاب النخب التونسية نحو الثقافة الغربية ولخدمة المشروع الاستعماري، ومن جهة أخرى كانوا ينظرون اليها بريبة لأنها تمنح لمثقفين محليين هياكل تنظيمية يمكن ان يحولوها الى بؤر لمناهضة الوجود الفرنسي. أثبت التاريخ أن المرتابين كانوا على حق، فأغلب المشرفين على هذه الجمعيات سيصبحون قيادات أول حركة سياسية تونسية وهي "حركة الشباب التونسي" (سنة 1907). وهم مجموعة من طلبة جامعة الزيتونة وقدماء المدارس العصرية الذين أرادوا ان يكونوا صوت السكان المحليين لدى السلطات الاستعمارية، وأغلبهم إصلاحيون ليبراليون من عائلات ثرية وعريقة، درسوا بالخارج وتأثروا بأشكال التنظيم والعمل الحزبي والمدني الموجودة هناك. وكان هذا العمل المدني سابقاً للعمل الحزبي في تونس، وساهم بشكل كبير في تشكيل الوعي الوطني. كان شكلاً "جنينياً" من اشكال المقاومة المدنية التي ستمهد لاحقاً لتظهر المقاومة السياسية وحتى المسلحة.

• ما بين الحربين: مرحلة النمو

مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، كثفت النخب التونسية نضالاتها وسعت الى احداث جمعيات تونسية يكون منخرطوها ومسيّروها من التونسيين. لم يكن الأمر سهلاً خصوصاً مع تصلب موقف السلطات الفرنسية التي بدأت تتوجس خيفة من تنامي النشاط المهيكل للنخب التونسية وتأثيرها على الشعب عبر دورها التحريضي والتعبوي.

كانت البداية بالجمعيات الرياضية ك"الترجي الرياضي التونسي" (1919) و"النادي الاسلامي الافريقي" (1920، "النادي الافريقي" حالياً). ثم نشأت أول نقابة تونسية وعربية "جامعة عموم العملة التونسية" (1924) على يد محمد علي الحامي ومجموعة من قيادات الحزب الدستوري. بعدها بسنوات، ظهرت أيضاً الحركة الكشفية ("الكشاف المسلم التونسي" سنة 1933) والنسائية ("الاتحاد النسائي الاسلامي التونسي" سنة 1936).

شهد العمل السياسي هو الآخر نقلة نوعية تمثلت في تأسيس أول حزب سياسي تونسي عصري وهو "الحزب الدستوري الحر" (1920) الذي كان بمثابة تتويج للحراك الفكري والسياسي للنخب التونسية في فترة ما قبل الحرب.

تبرز ملاحظتين هامتين لهما علاقة بالمجتمع المدني خلال تلك الفترة:

1- الاصرار على صفة "التونسي" و/أو "الإسلامي" عند اختيار اسم للجمعية أو المنظمة، مما يكشف عن سعي على التأكيد على الهوية الوطنية وعلى التمايز عن المجتمع المدني "الاستعماري".

2- بداية تشابك العلاقات بين "السياسي الحزبي" و"المدني". فقد تمّ تأسيس اغلب الجمعيات والمنظمات التي نشأت خلال تلك الفترة من طرف مناضلين حزبيين أو بدعم منهم.

مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، شهدت المسيرة مرة أخرى نوعا من الجمود والتراجع الظرفي، لكن المجتمع المدني كان قد خرج من شرنقته وبدأ الطيران بجناحيه.

• ما بعد الحرب العالمية الثانية: "المدني" يذهب الى الحرب..

خلال الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الفائت، شهدت تونس ميلاد اغلب المنظمات الكبرى التي ما زالت موجودة وفاعلة الى اليوم: "الاتحاد العام التونسي للشغل" (1947)، "الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة" (1948)،" الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري" (1949)، "الاتحاد العام لطلبة تونس" (1952).

لم تلن مواقف السلطات الاستعمارية الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية، فاقتنعت القيادات السياسية التونسية بأن المقاومة المسلحة أصبحت ضرورية. ولذا فقد تكثف العمل التعبوي ليشمل مختلف الطبقات والقطاعات. كان "الحزب الحر الدستوري الجديد" هو المحرك الرئيسي للعمل الوطني واستطاع التغلغل في مختلف المدن والأرياف. علاقة الحزبي بالمدني توطدت بشكل كبير حتى أصبحت الجمعيات والمنظمات "أذرع" للحزب تتماهى في نشاطها مع تكتيكاته واستراتيجياته.

مكنت النضالات المشتركة الشعب التونسي من نيل الاستقلال (النسبي كما سيتبين فيما بعد) والشروع في بناء دولته الوطنية. لكن هذه الفترة التي وحّدت السياسي والمدني خلقت اشكالات في طبيعة العلاقة فيما بينهما بعد التحرير وتحول "المقاومة" الى "سلطة".

المجتمع المدني زمن الديكتاتورية: الصراع من أجل البقاء

في أول انتخابات عرفتها البلاد بعد الاستقلال سنة 1956 لاختيار أعضاء المجلس التأسيسي، دخل الحزب الحر الدستوري الجديد في قوائم موحدة مع أكبر ثلاثة منظمات مهنية تونسية: الاتحاد العالم التونسي للشغل (نقابة عمالية)، الاتحاد الوطني للصناعة والتجارة، والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري. حصدت القائمة الائتلافية كل المقاعد في مواجهة الحزب الشيوعي التونسي والمستقلين، وشكلت مجلساً من لون واحد. ومع إعلان الجمهورية وتولي الحبيب بورقيبة الرئاسة، دخلت تونس تدريجياً مرحلة الحزب الواحد والحكم التسلطي. وسيدخل المجتمع المدني ايضاً مرحلة من أحلك مراحل وجوده وسيضطر الى الصراع من اجل البقاء والتحرر طيلة أكثر من خمسة عقود.

• إبان حكم الحبيب بورقيبة: حضن الأب الخانق..

سعى النظام الجديد الى اقصاء أي نفَس معارض والى احتواء وتحييد أي هيكل يمكن أن يكون "سلطة مضادة"، فكان من الطبيعي أن يتم العمل على تدجين المجتمع المدني وتحويل هيئاته الى ملحقات للحزب الحاكم وأجهزة تابعة للدولة. كان شعار المرحلة، "بناء الدولة الوطنية والتخلص من إرث الاستعمار"، قد استعمل كتعويذة في وجه اي"مهرطق" يتجرأ على نقد الانحرافات السلطوية للحكام الجدد. بداية من الستينيات الفائتة أصبح من العبث الحديث عن "مجتمع مدني"، فالغالبية العظمى من المنظمات والجمعيات صارت أدوات تعبئة ودعاية لصالح الحزب الواحد والزعيم الأوحد.

مع إعلان الجمهورية وتولي الحبيب بورقيبة الرئاسة، دخلت تونس تدريجياً مرحلة الحزب الواحد والحكم التسلطي. ودخل المجتمع المدني ايضاً مرحلة من أحلك مراحل وجوده واضطر الى الصراع من اجل البقاء والتحرر طيلة أكثر من خمسة عقود.

شكل دخول تونس في أزمات سياسية واجتماعية عميقة في أواخر السبعينات الفائتة فرصة لعودة الحياة للمجتمع المدني، ولانتفاضه ضد هيمنة "الحزبي" وتسلطه. تأسست" الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان" سنة 1977، كما دخل الاتحاد العام التونسي للشغل في صدام عنيف (كانون الثاني/يناير 1978) مع السلطة انتهى بمقتل العشرات (وربما المئات، تتضارب الأرقام وليس هناك الى اليوم تحقيق رسمي في الأمر) من النقابيين، ثم أعقبت ذلك موجة من القمع والمحاكمات الصورية والأحكام القاسية. ولم يجد النظام التونسي في بداية الثمانينات الفائتة بداً من إحداث انفتاح سياسي محدود، سمح بالتعددية الحزبية ومنح بعض الحريات "المقيدة". لكن الأمر لم يدم طويلاً وسرعان ما عاد نظام بورقيبة الى نهجه القمعي وانغلاقه، الى ان وقع الانقلاب "الأبيض" الذي قاده الجنرال زين العابدين بن علي في 1987 والذي اعتبره الكثيرون وقتها بادرة أمل..

• إبان حكم بن علي: تجفيف المنابع

لئن كانت السنوات الأولى من حكم بن علي فترة انفراج سياسي نسبي، وتوسيع لمجال الحريات والتنظم، فإن الحاكم الجديد لم يتأخر كثيراً في التكشير عن أنيابه. ففي بداية التسعينات من القرن الفائت، شهدت تونس حملة اعتقالات وتعذيب ومحاكمات واسعة أسكنت الرعب في قلوب أغلب الناس. كان تعامل بن علي مع المجتمع المدني مختلفاً عن طريقة بورقيبة، فعوضاً عن الاحتواء اعتمد إستراتيجية تقوم على تكتيكين قد يبدوان متناقضين لكنهما يكْملان بعضهما البعض: الإغراق وتجفيف المنابع.

ففي عهده، تأسست آلاف الجمعيات بهدف تلميع صورة النظام مقابل تمويل سخي من خزينة الدولة ومن هبات رجال الأعمال الأوفياء للسلطة، وتركز نشاطها أساساً في مجالات الرياضة والترفيه. وبالنسبة للمنظمات والجمعيات التي تشبثت باستقلاليتها وناضلت للدفاع عن الحريات فإنها حوصرت من كل الجهات: كانت تُحرم من التمويل العمومي ومن تنظيم الاجتماعات وحتى من اكتراء مقرات لفروعها. ومنعت الكثير من المنظمات من عقد مؤتمراتها الانتخابية (الاتحاد العام لطلبة تونس، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان) وفي كثير من الاحيان كان النظام يتوخى سياسة الاختراق والانقلاب على الهيئات المنتخبة والمستقلة وتعويضها بأخرى معينة وموالية (كما حصل مثلاً بالنسبة لنقابة الصحافيين التونسيين سنة 2009). وقد برز خلال التسعينيات الفائتة دور المنظمات الحقوقية في توثيق حالات الإيقاف التعسفي والتعذيب والتنديد بها. نشأت في تلك الفترة ايضاً العديد من الجمعيات التونسية في المهجر (فرنسا أساساً) وساهمت في فضح الانتهاكات التي يقوم بها نظام بن علي وسعت الى حث الدول الأوروبية على الضغط على الحكومة التونسية من أجل إطلاق سراح المعتقلين وفتح مجال العمل السياسي والمدني المستقلان عن السلطة.

اعتمد بن علي استراتيجية تقوم على تكتيكيَن: الإغراق وتجفيف المنابع. ففي عهده تأسست آلاف الجمعيات لتلميع صورة النظام مقابل تمويل سخي من خزينة الدولة ومن هبات رجال الأعمال الأوفياء له، وتركّز نشاطها في الرياضة والترفيه. بالمقابل حوصرت الجمعيات المستقلة من كل الجهات، واخترِقت وتعرضت للقمع العنيف.

ومع تشديد القمع على العمل الحزبي المعارض، تحول "المجتمع المدني" المستقل الى بوابة للعمل السياسي خصوصا بالنسبة للتيارات اليسارية وبدرجة أقل للإسلاميين. بالطبع كان النظام واعياً بهذا الأمر وفعل كل ما يمكنه لمزيد من تشديد الخناق على هذه الجمعيات والمنظمات حتى لا تتحول الى "حصان طروادة" يستعمله معارضوه. وبفضل صموده وقدرته على المناورة استطاع هذا "المجتمع المدني" أن يُحدث بعض الثغرات، وساهم في تخفيف حدة القمع عن المعارضين.

المجتمع المدني زمن الثورة: "الفوضى الخلاقة"..

بعد عقود من الإقصاء، اكتشف التونسيون طعم الحرية وانفتحت شهيتهم للتعبير والمساهمة في الشأن العام. تحولت البلاد الى ورشة كبيرة وأصبحت تعيش حالة من الغليان المذهل. ارتفعت أسقف احلام الجميع من مواطنين عاديين وسياسيين ومثقفين وفنانين وبالطبع نشطاء مدنيين. من المبكر جدا ان نقيّم أداء "المجتمع المدني" في مرحلة ما زالت ملامحها تتشكل، ومن الصعب جداً ان يكون هذا التقييم موضوعيا لأنه لا تتوفر لنا المسافة الكافية لرؤية كل التفاصيل. لكن هنا بعض الانطباعات عن حالة المجتمع المدني في السنوات الأخيرة.

• الطفرة النوعية

إذا ما كان عدد الأحزاب التي تمّ تأسيسها بعد الثورة تجاوز المئتين، فإن مكونات المجتمع المدني الجديدة تعد بالآلاف. تنشط الجمعيات والمنظمات الجديدة في كل المجالات، لكن أغلبها في المجال الثقافي/الفكري/ الفني (بنفَس ايديولوجي واضح) والنقابي والخيري/الدعوي والحقوقي.

سمح مناخ الحريات بظهور جمعيات ومنظمات تُعنى بقضايا كان من شبه المستحيل الحديث عنها من قبل: جمعيات تعنى بمراقبة الانتخابات والحملات الانتخابية، مراصد لمحاربة الفساد، جمعيات تراقب العمل الحكومي والنيابي والرئاسي، جمعيات تدافع عن حقوق الأقليات "العرقية" كالسود والأمازيغ، وأخرى تدافع عن الحريات الجنسية وحقوق المثليين، جمعيات وتنسيقيات ذات بعد اجتماعي - اقتصادي نضالي تهتم بالحركات الاحتجاجية وظروف العمل والهجرة غير النظامية وحقوق المهاجرين وطالبي اللجوء في تونس.

بعد عقود من الإقصاء، اكتشف التونسيون مع ثورة 2011 طعم الحرية وانفتحت شهيتهم للتعبير والمساهمة في الشأن العام. تحولت البلاد الى ورشة كبيرة وأصبحت تعيش حالة من الغليان المذهل. ارتفعت أسقف احلام الجميع من مواطنين عاديين وسياسيين ومثقفين وفنانين وبالطبع نشطاء مدنيين.

وهكذا فالمجتمع المدني كان في الصفوف الأمامية لبناء نظام ديمقراطي تعددي. وعلى الرغم من جهود المكونات الجديدة، فإن الجمعيات والمنظمات "القديمة" بقيت هي الاكثر بروزاً وفعالية بحكم المراكمة التاريخية وقوة هياكلها، خصوصاً الاتحاد العام التونسي للشغل الذي أصبح الرقم الصعب في المعادلة التونسية. لكن "المنافسة" التي تمثلها المنظمات الجديدة جعلت الكثير من المنظمات القديمة تُدخِل اصلاحات على هياكلها وقوانينها الداخلية لكي تثبت ديمقراطيتها وانسجامها مع المرحلة الجديدة التي تعيشها تونس.

• المجتمع المدني والأحزاب: الحديقة الخلفية؟

بعد الثورة (2011) سعت أغلب التيارات السياسية (أساساً الاسلاميين واليسار) الى تأسيس جمعيات ومنظمات تدور في فلكها. فمثلاً قام الاسلاميون بتأسيس المئات من الجمعيات "الخيرية" والدعوية" و"التربوية" عهد اليها بالمهام "المحرجة" من استقطاب على اساس ديني واستدعاء دعاة "راديكاليين" من دول أخرى وتوزيع "المعونات"، وكل ما لا يستطيعون القيام به مباشرة وعلناً لأسباب قانونية أو إتصالية. أما اليسار فاعتمد أساساً على الجمعيات والمنظمات الفنية/ الثقافية والنقابية العمالية، وبدرجة أقل على الجمعيات الحقوقية و"المواطنية" لمواجهة ما اعتبره تغولاً للإسلاميين وسعياً لأسلمة المجتمع التونسي وتقويض أسس "الدولة المدنية".

أواخر 2013، ومع الازمة الحادة التي سادت حينذاك، برز المجتمع المدني كمنقذ. فقد اقترحت أربع منظمات كبرى "الحوار الوطني" وأدارته، ما هدّأ الأجواء عبر التوصل الى توافقات وصفقات جديدة سرّعت في انهاء "الفترة الانتقالية" وترسيخ معالم النظام "المتجدد".

مرة اخرى يجد "المدني" نفسه مجبراً على التموقع في مشهد ترسمه الاحزاب، وعلى الانحياز قليلاً أو كثيراً لأحدها. حافظت السلطة ايضاً على توجسها من "المدني" وسعيها الى احتوائه. فطيلة سنوات حكم "الترويكا" ("النهضة" الاسلامية وحليفيها "العلمانيَين") تعددت الاعتداءات على الناشطين المدنيين من سب و تشويه للسمعة وصولاً الى العنف الجسدي الشديد. وهذه المرة، لم تكن اجهزة القمع الرسمية وحدها المكلفة بتأديب المعارضين، فقد كان هناك أيضاً "روابط حماية الثورة" والتي كانت تتصرف كميليشيا لا كمكون من مكونات المجتمع المدني.

بلغ هذا التشابك أوجه اواخر 2013. فبعد موجة الاغتيالات السياسية وصلت البلاد الى أزمة سياسية حادة ما بين الاحزاب الحاكمة والمعارضة بشكل ينبئ بصدام عنيف. حينها برز المجتمع المدني كمنقذ. فقد اقترحت أربع منظمات كبرى "الحوار الوطني" وأدارته، ما هدّأ الأجواء عبر التوصل الى توافقات وصفقات جديدة سرّعت في انهاء "الفترة الانتقالية" وترسيخ معالم النظام "المتجدد". هذه المنظمات هي: الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والاتحاد العام التونسي للشغل (نقابة عمالية) والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (تجمع لأرباب العمل) والهيئة الوطنية للمحامين بتونس. وحصل الرباعي "المدني" الراعي للحوار "الحزبي" على جائزة نوبل للسلام 2015 تقديراً لجهوده التي اعتبر أنها انقذت البلاد من حرب أهلية وحافظت على "التجربة الديمقراطية".

ومن المفارقات انه بعد الثورة، أصبح هناك من يخاف من تغول "المجتمع المدني" وتحوله الى لاعب سياسي تحركه حسابات الربح والخسارة.

• المجتمع المدني: البديل عن السياسي؟

منذ الأيام الأولى التي تلت خروج بن علي من تونس، لعب "المجتمع المدني" دوراً مهماً في المجال السياسي، وأبرز مثال على ذلك دوره في تكوين وإدارة "لجان حماية الثورة" التي ظهرت في كانون الثاني/ يناير 2011 كتجمعات لها هدفان أساسيان: أولا تنظيم المواطنين لإدارة الحياة اليومية في ظل الانفلات الأمني واهتزاز أجهزة الدولة، وثانياً إيجاد قيادة سياسية شعبية تؤطر مسار التغيير وتحقيق أهداف الثورة. هذه اللجان المكونة أساساً من نقابيين ونشطاء في المجتمع المدني، وسياسيين من أحزاب المعارضة، كانت في البداية ذات طابع مواطِني و"ثوري" قبل ان يهجرها مؤسسوها، لينضموا ل"الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة" ومسارات أخرى، ويتركونها لتيارات شعبوية واسلاموية حولتها تدريجياً إلى ما يشبه الميليشيات الداعمة لحكومة "الترويكا" (2011 -2013 بقيادة "حركة النهضة" الإسلامية).

من الصعب التكهن اليوم بمستقبل العمل المدني في تونس، لكن هناك مؤشرات قوية الى كونه سيلعب دوماً أدواراً مهمة في صياغة المشهد العام. وهو ربما يساهم في بناء تونس ديمقراطية ومواطنية.. وربما يكون إحدى الأدوات التي تستعملها الاقطاعيات الحزبية والمافيات الاقتصادية في سبيل بسط نفوذها.

تضخم المجتمع المدني أكثر فأكثر بعد انتخابات 2011 وتوسع حضوره في المشهد العام على حساب الأحزاب. ولهذا التطور عدة أسباب. يتعلق السبب الأول بخيبة أمل جزء كبير من التونسيين - خاصة لدى فئة الشباب - من "المسار الثوري" ومن أداء الأحزاب. فالكثير منهم سئم من بيروقراطية وأبوية الأحزاب القديمة وعجزها عن تجديد خطابها واستراتيجياتها، لذا اتجهوا إلى هياكل يعتبرونها أكثر دينامية وديمقراطية وأفقية.

السبب الثاني يتعلق بالجانب المادي، فأغلب المتابعين لنشاط المجتمع المدني لا يستطيعون إخفاء دهشتهم من الإمكانيات المادية الضخمة لعدة جمعيات، بعضها لا يتجاوز عدد منخرطيها العشرات. تنفق عدة دول غربية وخليجية بسخاء على بعض مكونات المجتمع المدني لأهداف وغايات مختلفة. وهناك العديد من التحقيقات والتقارير التي تتحدث عن استعمال الجمعيات كأقنية لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب والحملات الانتخابية. هذا التمويل السخي للجمعيات والمنظمات يغري الكثير من الشباب، ومنهم من يهجر حزبه لضمان "مورد رزق" جديد والتمتع بامتيازات كالمنح الضخمة والدورات التكوينية في الخارج واتفاقيات الشراكة وغيرها.

أما السبب الثالث فيعود إلى هيمنة الخطاب القائل بنهاية زمن "الايديولوجيات" و"السرديات" الكبرى، وضرورة التحلي بالعقلانية والتخلي عن القضايا الكبرى والتركيز على قضايا "أصغر" يمكن حلها. فضلاً عما يشكله هذا التمويل والدعم الأجنبي من ضرب للعمل السياسي وتمييع للقضايا المصيرية لصالح مواضيع ثانوية وهامشية، فإنه يمثل أحياناً "حصان طروادة" لمسائل مثل التطبيع مع الكيان الصهيوني، وإعادة "هيكلة" الاقتصاد التونسي، وحلول "الخلاص الفردي"، وصنع جيل جديد من القيادات الشابة تقود البلدان كما تدار الشركات. طبعا لا يُقصد من هذا الكلام شيطنة المجتمع المدني أو الانتقاص من قيمة ما قدمه للبلاد طيلة أكثر من قرن، فهناك اليوم أيضاً منظمات وجمعيات تساند الحراك الاجتماعي وتتصدى لمختلف اشكال الحيف بإمكانيات مادية متواضعة وإرادة كبيرة والتزام مثير للإعجاب.

ختاما..

من الصعب التكهن بمستقبل العمل المدني في تونس، لكن هناك مؤشرات قوية الى كونه سيلعب دوماً أدواراً مهمة في صياغة المشهد العام. فبعد قرن أو أكثر من الوجود والصراع أصبح من الصعب إقصائه أو اخضاعه تماما للحزبي. ربما سيساهم في بناء تونس ديمقراطية ومواطنية وربما يكون إحدى الأدوات التي تستعملها الاقطاعيات الحزبية والمافيات الاقتصادية في سبيل بسط نفوذها. لا أحد يستطيع الجزم. هناك فقط حقيقة تاريخية: في أغلب مراحل تاريخ تونس الحديث والمعاصر لم يكن هناك "مجتمع مدني" واحد بل متعدد، وحتى في أكثر الفترات قتامة وجدت منظمات وجمعيات استطاعت أن تحدث ثقوباً يتسلل منها الضوء.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه