أثبتت التجارب التي عاشتها اقطار عربية عديدة أن "الانقلاب العسكري" الاول يتم – غالباً - من دون طلقة رصاص واحدة... حتى أن الرئيس الراحل حافظ الاسد نجح في القيام بانقلابه بواسطة الشرطة العسكرية، بعدما كان قد انجز تفاصيله بهدوء مطلق، فلم يشعر به رجال الحكم (والسياسة) آنذاك وظلوا يسهرون وهم يتسامرون حول "العهد الجديد". وهناك طبعاً انقلابات دموية، أو هي سمحت بفلتان أمني مريع..
أما السودان، حيث الشعب مسالم بطبيعته، فقد توالت فيه انقلابات عسكرية عدة اطاحت الحكم المدني الراقي الذي كان يتمتع به، في ظل تفاهم بين مختلف الاحزاب، سواء ذات الجذور الدينية (حزب الامة مثلاً) او ذات المبادئ اليسارية (الحزب الشيوعي) فضلاً عن احزاب محلية وجمعيات صوفية الخ..
وبالتأكيد فان الشعب العربي في مختلف اقطاره عاش فرحاً عارماً وهو يشهد هذا السيل من التظاهرات الشعبية الحاشدة في الجزائر (العاصمة) كما في مختلف مدن المحافظات الجزائرية مطالِبة بإسقاط النظام العسكري الذي يحاول - بالحيل جميعاً - وراثة عهد بوتفليقة الذي تسبب في سلسلة لا تنتهي من الأزمات، اقتصادياً واجتماعياً، في بلاد المليون شهيد، دافعاً ابناءها إلى طلب فيزا للمغادرة إلى بلاد مستعمرهم "الأبدي" فرنسا التي فرضت عليهم مع جنسيتها لغتها.
في السودان كما في الجزائر، طلائع ثورة شعبية حقيقية قوامها الشباب والصبايا الذين يعانون من العسف وضيق أبواب الرزق، ويواجهون خياراً صعباً : بقاء واحدهم في وطنه ومعه وله مع البطالة والجوع، أو الهجرة إلى حيث يبيع علمه وخبراته بثلاثين من الفضة يرسلها إلى اهله في الوطن الذي لا يوفر له الخبز مع الكرامة. لكن بعض الانظمة الملكية والاماراتية العربية تكره الثورات لأنها ترى فيها نهاية عصر تحكم بضعة امراء او مشايخ بثروات اسطورية في بلاد بلا شعوب..
وهكذا فان السعودية ومعها الامارات قد اوفدتا إلى الخرطوم من يعرض عليها "بيع الثورة" بثلاثين من الفضة... بنما تتربص قطر بالخرطوم حتى إذا فشلت السعودية والامارات تقدمت الدوحة لتعرض ستين من الفضة.
ويبدو أن القاهرة التي تراقب الموقف في السودان بدقة، ولا تريد أن تتورط في تدخل يرتد عليها سلباً، قد اكتفت - حتى الآن - بلعب دور "الوسيط" بحيث لا تخسر خرطوم الغد فتتعبها، ولا تخسر خرطوم اليوم فتخسر العسكر والمدنيين معاً.
ولقد مرت، حتى اليوم، ثلاثة شهور الا قليلاً على الجزائريين في الشارع ،وخمسة شهور على السودانيين، وهم يرفضون أنصاف الحلول وبقاء العسكر في السلطة، ولو في موقع "الشريك"، ويريدون اقامة نظام حكم يحمي "الدولة" ويحقق مطالب الشعب في حكم ديمقراطي.
ليست الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا، خارج الصورة.. لكن كلاً من هذه لدول الكبرى تحاذر أن يستفز تدخلها وطنية الجزائريين والسودانيين فيذهبون بثورتهم إلى حدها الاقصى... وصولاً إلى الصين (التي بات لها وجود مؤثر جداً في افريقيا عموماً، ولها "جيوش" من العمال في مختلف انحائها..). أن الجزائر والسودان يقدمان نموذجاً جديداً من الثورة الشعبية: فلا سلاح في ايدي الجماهير، ولا حتى حجارة، وهي تواجه بالصدور العارية قوى الجيش والأمن الداخلي المسلحة حتى اسنانها..
وأمس، حين وقع اشتباك بين الجيش والمتظاهرين في الخرطوم، سقط فيه عدد من القتلى والجرحى، بادرت قيادة الانقلاب العسكري (الذي سرعان ما طوقه الشعب فأفشل خطته للسيطرة الكاملة) إلى الاعتذار واظهار الاسف متعهدة بمحاكمة العسكريين الذين أطلقوا النار.
مع ذلك فان المواطنين العرب يضعون ايديهم على قلوبهم خوفاً من أن تنجح مؤامرات "الخارج" بالتواطؤ مع قوى في الداخل، باغتيال مشروع التغيير الثوري في كل من جزائر الميلون شهيد وسودان الخير..
فقوى التآمر الخارجي، بالتواطؤ مع القوى المعادية للتغيير في الداخل، تعرف أن ازاحة أي حجر في الدومينو العربي، المركّب بالإشراف الاميركي- الاسرائيلي المباشر سيستتبع سلسلة أحداث قد تغير خريطة الوطن العربي، متجاوزة "صفقة القرن" التي بشر بها الرئيس الاميركي دونالد ترامب وهلل لها رئيس حكومة العدو الاسرائيلي نتنياهو، واستعد حكام النفط والغاز العرب لتمويلها ومواكبة تنفيذها، باعتبارها الضمانة الاعظم والأفعل لبقاء عروشهم واستمرار سيطرتهم على شعوبهم.
انه الصراع المفتوح بين ارادة التغيير التي تراها الشعوب شرط حياة، والتي تراها قوى الهيمنة الاجنبية (واحدث تجلياتها "صفقة القرن") أشبه بعملية انتحارية تقدم عليها مجموعة من الغوغاء الانتحاريين.. لكن التاريخ يقول: إذا الشعبُ، يوماً، أراد الحياة.. فلا بدّ أن يستجيب القدر.