دردشات عن كتب الأرصفة

عندما يَحكي نهب الكتب والمكتبات عن تاريخ طويل من اخفاق اليمنيين بالسياسة.
2019-05-12

صفوان عبد الله التميمي

كاتب ومؤرخ، من اليمن


شارك
بشير أمل - المغرب

كان خريف العام 2018، وكنت أقف مع شقيقي الأصغر أمام بسطة في رصيف شارع التحرير، بالعاصمة اليمنية صنعاء، تعرض مجموعة روايات وكتب فكرية مجلدة بالقماش، لطبعة "دار التقدم" بموسكو.

سألني شقيقي بصوته الخفيض، سؤالاً مجازياً:

- هل تعرف لمن هذه الكتب؟

فكرت في كل اشتراكيي اليمن، ولم يخطر ببالي الاسم الذي نطقه:

- نجيب قحطان الشعبي! نعم، لقد همس لي البائع بهذا الاسم، عندما سألته بالأمس عن الشخص الذي باعه هذه الدزينة من الكتب.

نجيب، هو نجل قحطان محمد الشعبي، القيادي البارز في حركة القوميين العرب، وأول رئيس لجنوب اليمن بعد الاستقلال.

لعب الشعبي الابن عام 1999 دور الكومبارس بترشحه للرئاسة، منافساً علي عبد الله صالح لانتخابات قاطعها اليسار، وجسدت نموذجاً هازلاً لمرحلة هازلة.. مرشح بلا دعاية، ولولا نشرة الأخبار المحلية، ما نطق أحدٌ اسمه.

بالرغم ومن أن معظم الكتب المعروضة على الرصيف لم تعد تُقرأ، ويحتفظ بها الكثيرون كذكرى جميلة لزمن حالم، وملمح متبقي ليوتيوبيا أحقية الجماهير بالحكم، إلا أنها تعكس ظاهرة تخلي الناس عن مقتنياتهم من الكتب بفعل الحرب، على إنها من الأشياء التي يصعب على المرء التخلي عنها بهكذا بساطة.

ديكتاتورية الكتب

تسنم الحزب الاشتراكي السلطة جنوب اليمن عام 1978، ونُظر - حينها - لهذه التجربة بإعجاب وصدمة، وقد انغرست كالخنجر في الخاصرة الجنوبية الشرقية لمعقل الايديولوجيا الاسلامية: السعودية.

يتذكر المواطنون الجنوبيون كيف شرعت الأسلحة الناعمة للاتحاد السوفيتي بتسييس البدو والقبائل وإشراكهم في الحياة العامة، بالكتب فقط.

والجيل الذي فاته هذا الإغواء يمكنه أن يرى على بسطات الكتب في الشوارع روايات سلسلة "أدب الشعوب" وكتب "دليل المناضل" ودار "الفارابي" و"ابن سيناء"، ومجلدات "دار التقدم" التي تتصدرها توجيهات إلى القراء ("الأعزاء")، بارسال أي ملاحظات يرونها على التراجم والمؤلفين.. و"دار الهمداني" في عدن.

افتتحت كتب دور النشر التقدمية المتداولة في اليمن الجنوبي عصر "الجماهير"، وأفرزت جيل المصطلحات الكبيرة: الأممية، الميكانيكا، الديالكتيك الأتمتة، مناهضة المتافيزيقيا، الدغماتية، الديماغوجيا.. وديكتاتورية البروليتاريا.

والأخيرة كانت من أكبر دور النشر في المنطقة العربية، ولعبت دوراً تنويراً بترجمتها لروائع من الأدبين الأفريقي والعالمي.

وفي حين كانت "عدن اليسار" وجهة جذب للمثقفين العرب، رأينا ترجمات سعدي يوسف وغالب هلسا.

وهذا الأخير كان قد نشر في "الهمداني" الترجمة الوحيدة المتداولة لرواية ج. د. سالينجر "الحارس في حقل الشوفان".

افتتحت هذه الكتب عصر "الجماهير"، وأفرزت جيل المصطلحات الكبيرة: الأممية، الميكانيكا، الديالكتيك الأتمتة، مناهضة المتافيزيقيا، الدغماتية، الديماغوجيا.. وديكتاتورية البروليتاريا.

ونُظّر لهذا الجيل باعتباره الأكثر صدقاً في التجربة الاشتراكية اليمنية، لتجرده إلا من إيديولوجيا النضال من أجل الناس.. وكان من شأنهم أن دفعوا الجنوب، بعاطفة متعجلة، للوحدة مع الشمال.

التشاؤم أفيون الشعوب.. ليسقط تروتسكي!

كنت بداية العام 2016، في قاع اليهود بصنعاء، أتسكع عاطلا عن العمل بعد توقف المؤسسة التي أعمل بها بسبب الحرب.

وفي مطعم للعصيدة، التقيت يساري خمسيني. كان يعيش لحظات خدر، مسنداً ذراعيه إلى طاولة خشبية، وساهماً في برميل قمامة على مرمى بصره. لا بد أنه ينتظر "رفيقاً" يقرضه قيمة وجبة غداء.

حييته، وجلست بمحاذاته. قال وعينينه مقرورتين:

- هل ترى كومة الكتب تلك المبعثرة في أطراف برميل القمامة؟ لقد أعادتني إلى السبعينات، أيام العمل السري. كنا نقوم بمهام تسييس الناس في الشمال بطرق مبتكرة، ومن ذلك رمي الكتب بجانب براميل القمامة، لتقع عفوياً في أيدي من يصادفها.

وبحسب هذا الحزبي، لم يكن طموحهم ينحصر بتنظيم الناس في اليمن فقط:

- أرسلنا كتبنا إلى الخليج، مستغلين صفحات القراء والتعارف في المجلات الخليجية التي حوت بيانات وعناوين بريدية، فنقوم بإرسال الكتب عشوائياً إلى تلك العناوين.

وفي آذار/ مارس من العام 2016 جازفتُ بالدخول إلى مدينة تعز المدمرة للبحث بين الخرائب عن عمل، فالتقيت آخر.

خمسيني أيضا، يقضي قيلولته في مقر فرع الحزب الاشتراكي، وتحيط به ثلة من الشباب المتحمس. عرف أنني سأكون ضيفاً طويلاً على المكان، نهض بصعوبة إلى غرفة جانبية وعاد بكتاب "المادية الجدلية"، وحثني على قراءته:

- إقرأ هذا الكتاب، لا تقل إنه قديم، لا تتعالى على المعرفة.

تصفحت الكتاب بسرعة. سألني ليستشف ثقافتي:

- ما رأيك بقادة الاشتراكي الحاليين؟

أجبته:

- يتقنون التنظير ويفشلون في التطبيق.

قال دون مواربة:

- أنت مخطئ، من يمتلك النظرية يرى الأمور بنظرة ثاقبة. وصلنا إلى هذه الحرب لأننا سلمنا رقابنا لقادة متشائمين.

وأردف وشفتيه تعلوهما ابتسامة:

- التشاؤم أفيون الشعوب، ليسقط تروتسكي!

تحسس أرضية المشمع الباردة، والتقط كتاباً كان خلف ظهره، وأشار لبورتوريه الرجل المشعث على الغلاف، ووجه سؤالاً آخر:

- هل تعرف هذا؟ أجبته، نعم. لدي صديق حضّر دراسته العليا في فلسفة الرجل.

أبدى امتعاضه:

- من الجرم أن يتم تدجين غرامشي في الدراسات الاكاديمية والأبحاث الطلابية.. غرامشي ثورة.

وبالجوار منا، كانت مجموعة من الشباب يتداولون كتاب "لماذا كان ماركس على حق"، لتيري ايغيلتون، ويقرقع حولنا رصاص الجبهات المشتعلة، وبين حين وآخر تمرق طلقات بموازاة النوافذ الجنوبية للمقر، نعلّق على صفيرها ونواصل الحياة.

"هل ترى كومة الكتب تلك المبعثرة في أطراف برميل القمامة؟ لقد أعادتني إلى السبعينات، أيام العمل السري. كنا نقوم بمهام تسييس الناس في الشمال بطرق مبتكرة، ومن ذلك رمي الكتب بجانب براميل القمامة، لتقع عفوياً في أيدي من يصادفها".

وهناك، بجانب الشرفة المغلقة يقيل أحد القائمين على الحزب.. يمضغ قاته مستمتعاً. لقد غامر الأسبوع الماضي لتخليص مكتبة الحزب من المقر القديم، بعد تمركز مجاهدين سلفيين داخله.

قال الاشتراكي المخلص:

- أوهمتهم بأن المكتبة اسلامية، وأشرت إلى الملتحي المعلقة صورته على الحائط: تشي جيفارا.

إلتفت المسلح الملثم الذي يقف مصوباً بندقيته على أفق المدينة، وغمز مثل فتيان الشوارع، محركاً رأسه، وقال سريعاً:

- اكذب على شخص آخر، أعرف ما تحويه كتبك من زندقة. أسرع، فهناك قناص في العمارة المقابلة.

كتب البردوني المخطوفة

صيف العام 1994، اجتاحت جحافل قوات الرئيس صالح محافظات الجنوب على اثر خلافات اعترضت مسار شركاء الوحدة، فتحولت عدن (عاصمة دولة الجنوب سابقاً) لغنيمة مفتوحة لسلب ونهب المنتصرين.

بعد ذلك بأشهر، باع جنود ونهّابة كتباً تحمل ختوماً وإهداءات شخصية، لأرصفة عواصم المحافظات التي ينتمون إليها.

وإذا جئنا لمقارنتها فهي من نوعية التي عرضها للبيع نجيب الشعبي في العام 2018 لصاحب بسطة الكتب في رصيف شارع التحرير.. وهذه السابقة ليست الأولى ولا الأخيرة لنظام صالح الذي ساد بالتجهيل.

توفى الشاعر اليمني المعروف عبد الله البردوني، في 30 آب/ أغسطس 1999. وبينما كان أقاربه وأصدقاءه منشغلين بموارة جثمانه الثرى في مقبرة خزيمة، انتهز عسس الرئيس صالح خلو الجو لهم، فتسللوا إلى منزل الشاعر بالعاصمة صنعاء، واستولوا على كامل مكتبته، ومسودات أعماله التي لم تُنشر ونقلوها إلى مكان مجهول.. ثم تاهت الحقيقة حتى يومنا هذا بشأن هذا الأرث العظيم.

تمر هذا الذكرى سنوياً، فتمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بالمطالبات والتساؤلات عن التركة المغيّبة. لطالما حرص البردوني في حياته، على دعم كتبه، من معيشته، لتصل إلى بيت كل يمني.

تعاقبت السنون، وأتت على صالح الذي لقى حتفه نهاية 2017 على يد حلفائه، فحافظت الطغمة التي نهبت أوراق الشاعر على عارها بالصمت. لقد قالوا كل شيء، وضربهم الخرس عندما تعلق الأمر بحق الناس في الوصول إلى الحقيقة.

مسؤولو المرحلة الانتقالية الذين صعدوا على كتف ثورة 2011 الشبابية، هم الآخرون، تلبّسوا جرم تخاذلهم، وقد سلكوا مسلكاً سهلاً، يجنبهم عناء التقصي والبحث عن كتب البردوني. ففي الذكرى الثالثة عشرة لوفاته التي صادفت العام 2012، التقى أدباء شباب بوزير الثقافة في حكومة الوفاق، عبدا لله عوبل، لسؤاله عن مساعي وزارته، في ذلك الخصوص. فرد وهو منسدح على أريكة، ويحدق بملامح باردة:

- كتب ومسودات البردوني تبقى قضية شخصية مع ورثته.

وهكذا انتهى المسعى البائس. أشباح مفترضين أخفوا أعمال قريبهم الشاعر طمعاً بعائد مادي كبير.. نعم، تمّ حل المسألة هكذا: المشكلة في المال الذي عاش البردوني على التحقير من قيمته عندما تعلق الأمر بنشر الكلمة.

"صالح" المنهوب

في أحدٍ مشرق من آحاد ما بعد كانون الاول/ ديسمبر 2017، كنت أتجول في شارع الدائري، بعد أن حبستنا حرب الأيام الثلاثة التي أودت بصالح في شققنا وسط العاصمة.

كان أثر الحرب مرئياً في الجدران المجدورة بالرصاص، وفي الحركة الكئيبة للأوجه الشاحبة.

انعطفت إلى مجمع "الثنيات"، وهو السكن الذي قتل فيه الرئيس السابق قبل جولتي هذه بأيام، وعلى نحو أثار العبرة في النفوس.

صيف العام 1994، اجتاحت جحافل قوات الرئيس صالح محافظات الجنوب على إثر خلافات اعترضت مسار شركاء الوحدة، فتحولت عدن (عاصمة دولة الجنوب سابقاً) لغنيمة مفتوحة لسلب ونهب المنتصرين. بعد ذلك بأشهر، باع جنود ونهّابة كتباً تحمل ختوماً وإهداءات شخصية لأرصفة عواصم المحافظات التي ينتمون إليها.

وقفت على أحد الأرصفة القريبة من المجمع لتصفح كتب معروضة، فشدتني المجموعة المجلدة الكاملة لأعمال الصحافي الانجليزي روبرت فيسك، جديدة ومغلفة.

سألت بائع الكتب من أين أتى بها، قال خالطاً الجد بالهزل:

- مسلحين حوثيين باعوها لي بعد نهبها من مكتبة صالح.

سألته عما إذا كان يمزح، رد أن لديه دليل على صدق كلامه. أردت الدليل فأحضره ببداهة المقهور:

- إلا تراها؟ إنها مغلّفة ولم يقرأها أحد.

سيطر المتمردون الحوثيون على العاصمة صنعاء في 21 أيلول/ سبتمبر 2014، وبتسهيل من قوات نظامية تابعة لصالح، وداهموا مقار ومؤسسات خصومهم الراديكاليين، ومن ذلك جامعة الايمان التي يديرها رجل الدين السلفي عبد المجيد الزنداني.

في آتون الصدمة، كتب ناشط شبابي على الفيسبوك:

وجدت مسلحين اثنين، يعرضان كتبا دينية مجلدة في أرصفة ميدان التحرير وعلى صفحاتها الداخلية ختم جامعة الايمان. سألتهم لماذا يعرضونها للبيع، وهي ملكية عامة وتخص جهة معينة. ردوا: إنها كتب داعشية، ويجب التخلص منها.

يحدث هذا بينما كانت كتائب مسلحة حوثية قد طارت جنوباً، محاولة السيطرة بالقوة على مدينة تعز التي كانت لا تزال ترفل بثوب إعلانها عاصمة للثقافة اليمنية.

واجه المسلحون "مقاومة شعبية"، وتفجرت حرب شوارع، انهار على إثرها النظام العام في منطقة تصنف الثانية من حيث الكثافة السكانية.

اقتحمت جماعة سلفية مقاومة مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة، وهي تضم أكبر مكتبة في وسط المدينة، وتمركزت في أروقتها.

وبعد أيام شهد الجميع كيف أحرقت القذائف قاعة المؤتمرات في الطابق الثالث، بينما صار مصير الكتب في أرفف القاعات المجاورة في حكم المجهول.

أحد العاملين لدى هذه القوات قال أنهم حرصوا على إدخال الكتب إلى مصعد الزوار، وإغلاقه باللحام.
ومع تواتر الحديث، تحمس العامل لفكرة بدت وكأنها طارئة على معرفته، فوعظني:

- لقد تجنينا كثيراً على الاحتلال العثماني بتصويره إنه شيطان رجيم. وعلى غير ما يشاع كانوا حملة لواء الأمة لدولة الخلافة.

فطنت لوجهه المستعار، فسألته:

-من حدثك بهذا؟

قال، وقد تناسى فرية المصعد:

- كتاب قرأته بالأمس. وقعت في يدي مجموعة من كتب المكتبة، فاخترت ما هو مفيد منها.

بعد هذا اللقاء السريع بعامين، مررت على رصيف بائع كتب أسفل القوس الحجري للباب الكبير، ولفتني كتاب يحمل عنوان "الأصول الماركسية للتربية"، أخذته وفتحت الصفحة الأولى، وراعني أن أرى ختم مدرسة ثانوية تعز الكبرى التي تلقيت فيها تعليمي الثانوي.

وقتها، كان الناشطون في صنعاء يتداولون خبر اعتقال مالك مكتبة خالد بن الوليد أحمد الحزمي من قبل الحوثيين، بجريرة أنهم وجدوا في مكتبته كتباً لا تتفق مع توجهاتهم: أي "كتباً داعشية"!

غونتر العنيد

عدت، في هذا الشتاء المنصرم، إلى بائع الكتب في الرصيف القريب لمجمّع صالح السكني. كانت الطرقات المغلقة من سنوات طويلة قد فتحت على شارع عام فسيح أغلقه صالح لتوسيع دائرة أمانه الشخصي. وعلى سور المجمع فتحة بسبب اقتحام دبابة للمكان، وآثار طفيفة لاشتباكات يمكن من خلالها قراءة لحظات الخذلان التي تعرض لها الرئيس السابق من رفاقه، وجعلته يواجه، وحيداً الفرانكشتاين الذي رباه لسنوات.

سألت البائع المزيد من "كتب صالح"، فهزأ بي:

- تأخرت كثيراً... لقد انتقلنا إلى مرحلة نهب مكاتب المصالح الحكومية. فتش في هذه الأكوام، لعلك تجد ما يثير انتباهك.

لكن لا شيء. أكوام كتب رخيصة، درج مؤلفون رديئون على كتابتها، مستغلين لائحة المكاتب الحكومية التي توصي بشراء الكتب بسعر تشجيعي لتنمية الإبداع.

ثم وكمن استعاد ذاكرته بعد أن فقدها، فز البائع:

- أوه، تذكرت. لدي كتاب لك عليه إهداء مؤلفه. هل تحب غونتر غراس؟

زار الأديب الألماني الحائز على نوبل، غونتر غراس، اليمن في عام 2002. تهيأت رئاسة الجمهورية للتكسب من هذه الزيارة، فجهزت بروتوكولاً باذخاً لمنح غراس أعلى وسام في الدولة: وسام الوحدة.

لكنه وقبل أن يتوجه للقصر، جرفت "طبول الصفيح" غراس للقاء أدباء ومعارضين سياسيين، ومن بينهم الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني، جار الله عمر.

دارت محاورات أدبية وسياسية غير مرتب لها، وقبل أن يغادرهم، سأل غراس مضيفيه:

- ما الرسالة التي تريدون مني ايصالها لصالح؟

حار الجميع، فنطق جار الله عمر:

- اذا استطعت، اطلب منه إعادة وجدي الأهدل من منفاه بسوريا إلى اليمن، وأن يسقط المحاكمة القائمة بحقه.

ووجدي الأهدل أبرز روائي يمني شاب، وكان قد أصدر قبل زيارة غراس إلى اليمن بأسابيع قليلة روايته الأولى "قوارب جبلية". وعلى غير المعتاد، وقعت الرواية في يد رئيس الوزراء حينها، عبد القادر باجمال، فأصدر فتوى تداولتها وسائل الاعلام بشكل واسع:

- "قوارب جبلية" ليست أدباً، إنها قلة أدب.

ترتب على هذا الرأي النقدي إغلاق دار عبادي التي طبعت العمل بالشمع الأحمر، ورفع النيابة العامة قضية "حسبة" على الكاتب. وبظرف أيام، وجد الروائي الأعزل نفسه محاصراً بالمجتمع المحافظ، بعد صب رجال الدين الزيت على النار التي اشعلها رئيس الوزراء، فقرر طلب اللجوء الانساني.

بعد أسابيع من زيارة غونتر غراس لليمن في 2002، إغتال متطرف شاب تلقى تعليماً دينياً في جامعة الايمان، السياسي جارالله عمر، على مرأى من وسائل الاعلام العربية والاجنبية، أثناء حضوره مؤتمراً لحزب "الاصلاح" المحافظ. كشفت التحقيقات مع الجاني عن قائمة طويلة من الأهداف كان يرتّب لها، تضم كل كتّاب البلد المعارضين المهتمين بالشأن الثقافي

في كانون الاول/ ديسمبر، الذي يصادف الذكرى السادسة عشرة لاغتيال جار الله عمر، تذكر وجدي الأهدل الفقيد ببالغ الامتنان، وأفصح أنه كان على شفاً الانتحار، لو لم يقوم جارالله بهذا المسعى: ففي الوقت الذي اختار فيه الانتقال لسوريا، لم تكن قدمه قد وطأت سلم الطائرة عندما بلغه نبأ وفاة زوجته الحامل بإحدى مستشفيات العاصمة.

وبالعودة إلى غراس، الذي استقبله صالح بدار الرئاسة وسأله انطباعه الأول عن البلد، رد غراس، مخيباً أمله:

- أريدك أن تعيد وجدي الأهدل وتسقط محاكمته.

تجاهل صالح الطلب، ومضى بإظهار البهجة وروح الترحاب أمام وميض كاميرات الصحافة، ثم جاءت فقرة وسام الوحدة.

أحضر الطاقم المساعد السلسلة الذهبية في صندوقها المغلف بالقطيفة.. استئذن الرئيس الضيف للشروع بفقرة تقليده الوسام. أصر غراس بعناد:

- لن أتقلده إن لم توجه بعودة الأهدل وإسقاط محاكمته.

اسوّد وجه صالح، وساد الهرج بين المساعدين. إنهم لم يشهدوا تمرداً في حضرة حاكم لا يخوض نزالاته إلا بالبندقية.

نهض صالح وقد أخذته الحمية، وقرر ترك المكان ومعاقبة الرجل على تغطرسه. لكنه، وقد عبر الباحة الداخلية حيث يتجمع مستشاروه كماشية حاصرتها السيول، فكر بالنتائج العكسية التي قد تترتب على إهانة رجل يعرفه العالم.

وبالإمكان تخيل كمشة الألفاظ البذيئة التي نفّس بها صالح عن كربه قبل أن يطلب من مستشاريه إخراجه من ورطته:

- ما رأيكم. ماذا نفعل؟

ملأت الحيرة مستشاريه الذين لم يتعاطوا مع مسائل المعارضة على إنها اجندات محتملة في البروتوكول. أكمل صالح بازار الشتائم، وعاد إلى كرسيه المنجّد، وضع رجلاً على رجل، ومال باتجاه غراس وخاطبه:

- لقد أصدرت مرسوماً بالعفو عنه.

مسّد غراس شاربه المتدلي، وأظهر امتناناً بتحريك رأسه حركة مثقلة وقورة عكست بهجته بإعتاق نفس من عذاباتها، وليس بسلسلة الذهب التي سوف تعلق بعد قليل في عنقه.

بعد أسابيع من زيارة غراس، إغتال متطرف شاب تلقى تعليماً دينياً في جامعة الايمان، السياسي جارالله عمر، على مرأى من وسائل الاعلام العربية والاجنبية، أثناء حضوره مؤتمراً لحزب "الاصلاح" المحافظ. كشفت التحقيقات مع الجاني عن قائمة طويلة من الأهداف كان يرتّب لها، تضم كل كتّاب البلد المعارضين المهتمين بالشأن الثقافي.

محارق التاريخ

انعقد "مؤتمر الحوار الوطني" في آذار /مارس 2012، فتضمنت مطالب العدالة الانتقالية إعادة مكتبة تابعة للطائفة الاسماعلية، أخفاها الإمام أحمد حميد الدين (حكم في الفترة من 1948- 1962 ) بعد حرب ضروس شنها على الطائفة، بذريعة الابتداع في الدين.

وفي التاريخ المعتم يتذكر الجميع الإمام عبد الله بن حمزة الذي حكم جزء من اليمن في القرن الثاني عشر الميلادي. ففي حين حرص هذا الحاكم على جمع التراث الزيدي من كل انحاء الوطن العربي، أباد الطائفة "المطرفية"، برجالها ونسائها ومساجدها وكتبها. وهي جماعة زيدية إصلاحية كسرت قاعدة "اشتراط البطنين في الإمامة" لتقول بالحكم لمن توفرت فيه الشروط من العامة.

مقالات من اليمن

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...