بمجرد سماعي إرشادات سائق النقل البري في محطة انطلاق رحلته من صنعاء إلى عدن الساعة السابعة من صباح 18 آب / أغسطس 2017 حتى أصبت بتوتر واختفت الابتسامة التي رسمتها لأطفالي وهم يغادرون المحطة عائدين للمنزل، وتلاشى اشتياقي لعدن أمام اكتساح عبارات السائق، التحذيرية أكثر من كونها إرشادية.
الإرشادات التي أصبحت تلقى على مسامع المسافرين مختلفة كليا عن السابق: "كل واحد يتأكد من وجود بطاقته الشخصية، والمسافرين إلى عدن للمغادرة منها إلى الخارج عليهم طباعة خمس نسخ من تذكرة السفر وجواز السفر، وإلا يتحملون مسؤولية إعادتهم من نقطة الضالع وعدم السماح لهم بدخول عدن. رجاء، لا تتسببوا في عرقلة الرحلة هناك".
البند الأول من التعليمات المتعلق باصطحاب البطاقة الشخصية ليس أمنياً كما يعتقد للوهلة الأولى، بل لغرض تحديد المسافرين الشماليين والجنوبيين من قبل نقاط التفتيش على امتداد الطريق الواقعة في إطار الأراضي الجنوبية قبل نشوء الوحدة بين شطري اليمن في أيار/ مايو 1990. أما البند المتعلق بطباعة نسخ من تذكرة السفر والجواز، فهو للتأكد من أن المسافر الشمالي إلى عدن لن يبقى فيها وإنما يعبر منها إلى خارج اليمن عبر مطار عدن، أحد مطارين اثنين يمكن مغادرة اليمن منهما، ويقع الآخر في الجنوب أيضا (وهو مطار سيئون)، بعد إغلاق مطار صنعاء منذ آب / أغسطس 2016 من قبل "دول التحالف". وبلا هذه الحجة، فلا يمكن للشمالي دخول عدن.. إلا عن طريق التحايل.
هذه المقدمة غير الودية اشعرتني بأني شمالي لأول مرة، وتذكرت قصيدة شهيرة للراحل عبد الله البردوني وصف بها وضع اليمنيين قبل الوحدة:
جنوبيون في صنعاء / شماليون في عدن
ترقى العار من بيعٍ / إلى بيعٍ بلا ثمن
ومن مستعمر غاز / إلى مستعمر وطني.
فكلما زرت عدن في الماضي، أدركت أكثر خصوصيتها كمدينة تعرضت لممارسات القمع والفساد من قوى النفوذ في صنعاء بعد حرب صيف 1994. ولكن هذه المرة، أصبح علي أن أثبت أنني لا اقصد عدن كوجهة إلا باعتبارها مطاراً تنتقل منه إلى الخارج وليس كمدينة يمنية أحبها بإفراط.
نقاط التفتيش بين قعطبة (آخر مدينة شمالية حسب حدود الشطرين ما قبل الوحدة) وعدن تمارس عملها وكأنها تقف على الخط الفاصل بين المكسيك والولايات المتحدة، أو هكذا تبادر إلى ذهني في تلك اللحظة وأنا أراقب تعامل جنود كل نقطة وهم يسألون تحديداً عن المسافرين المنحدرين من مناطق شمالية.
تسعى الإمارات إلى تصفية الجنوب من مواطني الشمال لهدف غير معلوم، قد يأتي كما يعتقد اليمنيون في إطار العمل على إعادة فصل جنوب اليمن عن شماله. لكن هذه الإجراءات الصارمة للحد من دخول الشماليين إلى الجنوب لا تتمتع بقبول الشارع الجنوبي.
أصبح وجود مواطنين شماليين في الجنوب نادراً بعد حملات ترحيل مكثفة لهم العام الماضي. وهي سياسة اعترضت عليها سلطات الرئيس هادي دون أن يغيّر اعتراضها أي إجراء على الأرض لأنها مفروضة إماراتياً. بل أن طائرة الرئيس هادي نفسها منعت من الهبوط في مطار عدن من قبل قوات الإمارات قبل أشهر، مع العلم أن الرجل جنوبي من محافظة أبين نزح إلى الشمال عقب أحداث كانون الثاني / يناير 1986 أي قبل وحدة الشطرين بأربع سنوات، وكانت تلك آخر موجة نزوح جماعي بين الشطرين نتيجة الصراعات المتعددة .
بعكس رحلة قمت بها قبل أشهر بين صنعاء وسيئون (في حضرموت) مرورا بمأرب، لم أتعرض هذه المرة للمساءلة عن وجهتي وهدفي من قبل النقاط الواقعة في مناطق سيطرة الحوثيين – صالح، فاعتبار مأرب مقرا لحشد المقاتلين من قبل "التحالف" و"الشرعية" ومركزاً تحت هيمنة حزب الإصلاح (إخوان مسلمون) يثير مخاوف الحوثيين من احتمال كونك مستقطباً ذاهباً للقتال في صف خصومهم. أما اتجاهك إلى عدن فلا يثير مخاوفهم، ولا تهتم نقاط التفتيش الحوثية كثيرا لأمرك.
أما على الجانب الآخر من النقاط الواقعة تحت سيطرة "الشرعية" (وهو توصيف هلامي يشمل قوات الشرعية نفسها، و"قوات الحزام الأمني"، و"قوات النخبة" التي توالي الإمارات ولا تلتزم بتوجيهات هادي) فما يحدث أن نقاط الشرعية باتجاه مأرب - حضرموت تتعامل بأقل قدر من التدقيق في هويات المسافرين، ولا يدخل ضمن تصنيفها للمسافر أن يكون شمالياً أو جنوبياً. أما النقاط الواقعة باتجاه عدن عبر الضالع ولحج، فإن منطقتك المدونة على وثيقة هويتك هي المحك الأول, فأن تكون جنوبياً يختلف تماما عن كونك شمالياً على الرغم من أنها مناطق تتبع نظرياً الشرعية والرئيس هادي.
إقرأ أيضا: ما هي انعكاسات الأزمة الخليجية على حرب اليمن؟
لا زال كثير من اليمنيين يعانون من عقاب "التحالف" الذي أغلق مطار صنعاء منذ عام، وعقابه الآخر ــ غير المعلن ــ الذي يحصر دخول الشماليين إلى الجنوب بالمغادرين إلى الخارج. ولا يمكن تغيير هذه المعطيات على الأرض في الوقت الراهن، إلا إن تغيرت سياسات التحالف الغامضة في اليمن.
سعت الإمارات إلى تصفية الجنوب من مواطني الشمال لهدف غير معلوم. وهو قد يأتي كما يعتقد اليمنيون في إطار العمل على إعادة فصل جنوب اليمن عن شماله، لكن هذه الإجراءات الصارمة للحد من دخول الشماليين إلى الجنوب لا تتمتع بقبول الشارع الجنوبي، بل على العكس، حيث ارتفعت نسبة التعاطف الذي يبديه الجنوبيون مع إخوانهم الشماليين أمام هذه الإجراءات العنصرية ضدهم، وخاصة من أولئك الذين سافروا إلى الشمال مؤخراً، ولم يلمسوا أي اختلاف في التعامل معهم، أو تمييز ضدهم كانوا يتوقعونه كرد فعل على التمييز الرسمي في الجنوب ضد الشماليين. وهذه ظاهرة صحية في إطار التعايش المجتمعي، بغض النظر عن طبيعة الوضع السياسي أو شكل الدولة المستقبلية.. وكنت أسمع سائق الباص، وهو مواطن جنوبي من مدينة عدن، يصرخ "أيش معاكم من أصحاب تعز وصنعاء تسالوا عليهم، إيش عملوا لكم؟"، عقب تجاوز أي نقطة تفتيش يبادره الجندي المسؤول عنها بالسؤال المعهود: "معك ركاب من الشمال، من صنعاء وتعز؟".
يتكرس شعور حضرمي باعتبار حضرموت هوية بذاتها، تعرضت للضم من دولة الجنوب قبل الوحدة، واستمر الضم مع دولة الوحدة. وفي منشور تعريفي لمركز دراسات في المنطقة، لا توجد أية إشارة لليمن كدولة، وإنما تستبدل بلفظ "الوطن" عند الحاجة: "في حضرموت والوطن عموما"، دون أية مفردة إضافية لهوية الوطن المشار إليه
ويبدو لي أن التمييز والسلوكيات غير الودية ضد مواطني الشمال اليمني أصبحت تصدر عن الأجهزة الرسمية وتحديداً المؤسسات الأمنية وأفرادها في الجنوب (حتى لو لم تخضع مباشرة لسلطات الرئيس هادي وحكومته، بل للقيادة الإماراتية). جندي نقطة تفتيش قبل مدينة زنجبار عاصمة محافظة أبين (التي ينحدر منها الرئيس هادي) طلب مني النزول من الباص دوناً عن باقي المسافرين. سأله صديقي الجنوبي عن السبب فقال "يروح التوقيف مع أصحابه، بانرحلهم" ويقصد اعتقالي مع معتقلين من الشمال تم توقيفهم في النقطة سابقاً لترحيلهم عن الجنوب. وبعدما شرح له صديقي أنني جئت لتدريب الصحافيين في حضرموت، وأنني سأغادر إلى صنعاء فور انتهاء المهمة، تقبل الأمر مع عبارة ملحقة: "طالما هو معك وعلى ضمانتك يا أستاذ". وهذه كانت المرة الثانية التي تدخل فيها صديقي المنحدر من منطقة ردفان الواقعة في محافظة لحج الجنوبية والمشهورة بكثرة العسكريين من أبنائها. ففي نقطة أخرى قرب ميناء بلحاف لتصدير الغاز المسال طلب مني الجندي النزول من الباص بعد معاينة بطاقتي للتأكد من المنطقة التي أنتمي إليها، وعندما صادف أن الجندي ينحدر من ردفان -منطقة صديقي - فقد تراجع عن طلبه إكراماً لابن منطقته وليس لي.
في منطقة بروم (مدخل مدينة المكلا عاصمة حضرموت من الجهة الغربية)، يتعرض كل المسافرين للتدقيق في الهويات ولتفتيش الأمتعة، بغض النظر عن كونهم شماليين أو جنوبيين. وهي النقطة الوحيدة في المحافظات الجنوبية التي مررت بها ولا تتعامل على أساس شطري، وتساوي بين المسافرين اليمنيين عموماً. وشعرت لأول مرة أن التفتيش يتم لأغراض أمنية بحتة.
هذا السلوك قد يعود إلى الشعور الحضرمي، الذي يتكرس مع الوقت، باعتبار حضرموت هوية بذاتها تعرضت للضم من قبل دولة الجنوب قبل الوحدة، واستمر الضم مع دولة الوحدة، وحان الوقت لإعلانها كياناً مستقلاً يعبر عن هويتها. وهو ما قاله لي أصدقاء هناك، وقد لاحظت في منشور تعريفي لمركز دراسات يديرونه أنه لا توجد أية إشارة لليمن كدولة، وإنما يستبدلونها بلفظ "الوطن" عند الحاجة: "في حضرموت والوطن عموما"، دون أية مفردة إضافية لهوية الوطن المشار إليه، وهي كما يبدو محاولة للهروب من التورط في تسجيل موقف اعتراف بدولة يمنية في الوقت الراهن، انتظاراً للحظة التي تتجمد فيها الدولة السائلة حالياً على وضعية مستقرة.
في عدن قال لي صديق عدني أنه لم يعد يتبنى اليوم الأفكار التي تبناها قبل عام واحد. فقد كان مؤيداً لانفصال الجنوب عن الشمال، لكنه بعد تجربة عامين من حالة شبه الاستقلال التي يتمتع بها الجنوب بعد إخراج قوات الحوثيين - صالح منه (تموز/ يوليو2015)، وفك كل الروابط المؤسسية مع الشمال تدريجياً وتسلم الإمارات زمام الأمور في عدن (تحت مظلة "التحالف" و"الشرعية") أصبح يؤمن بأن الخلل يكمن في السياسات التي تمارس على الأرض وليس في فكرة الوحدة ذاتها.
خدمات الكهرباء والوقود بعدن مثلاً لم تعد حتى إلى وضعها السابق بل زادت سوءاً، وبالتالي فإن إلقاء تهم عدم الاستقرار وعدم توفير الخدمات واضطراب الأمن على وجود الشماليين بعدن، كما حدث لتبرير حملة ترحيل الشماليين منها، أو على شكل الدولة.. لم تثبت صحته، وأن السلطات الراهنة تمارس سياسات شبيهة وبالتالي فلا فرق بين البؤس في إطار الوحدة والبؤس في إطار الانفصال بالنسبة للمواطن الجنوبي.
الشعور الذي قدمت به من محطة باصات النقل البري بصنعاء ظل يتصاعد عند نقاط التفتيش، ويتراجع عند الحديث مع أصدقائي الجنوبيين الذين يستنكرون تلك الممارسات. وبعد أسبوع كامل مررت فيه من كل محافظات الجنوب عدا المهرة وسُقطرى، عدت بانطباع غير مسبوق بأن السلطات الرسمية هي خصم اليمنيين في الشمال والجنوب وليس المواطنون خصوماً لبعضهم البعض، وبأن "التحالف العربي" جاء اليمن لمشروع وأهداف مختلفة تماماً عما قاله لليمنيين في آذار/ مارس 2015.