تسارُع الاحداث منذ استلام الملك سلمان للعرش، وضع المملكة في الواجهة على نحو مغاير، وكان الأمير محمد بن سلمان عنوانه العريض. ولهذا هذا التسارع نتائج متنوعة، على مستويات السياسة الاقليمية والدولية المتعالية، وارتفاع القمع السياسي الداخلي.
في العهد الجديد لهيمنة أبناء سلمان، ساهم ارتفاع منسوب القمع كماً وكيفاً، في توليد معارضة مختلفة عن سابقاتها. فالوفرة الاقتصادية التي عاشت في ظلها المملكة تاريخياً لم تسمح بنشوء حاضنة شعبية للمعارضة، وبقي الامتعاض حبيس المجالس. وإذا ما استثنينا فترة عقد الستينات الفائت، فقد بقيت المعارضة اسلامية الطابع منطلقة من خصومة إيديولوجية مع النظام، كما غلب عليها الطابع الفردي، ولم تكن تعكس تذمراً شعبياً، بإستثناء مرحلة قصيرة من المعارضة الإسلامية التي ألهمها بعدٌ معين من الثورة الايرانية.
إلا أن السنين الماضية التي اتُبعت فيها سياسة الارض المحروقة، بقمع كل التيارات دون استثناء، انتجت دوائر معارضة سعودية متمركزة في أوروبا وأمريكا.
الصراع الإسلامي / الليبرالي السعودي الى المهجر
انتجت تصفية محمد بن سلمان لأجنحة الحكم المختلفة، ومعها حاشياتها، الى هجرة أفراد كثر الى الخارج ليشكلوا صوتاً للمتمردين على الوضع الجديد في المملكة. وهكذا، وفي مشهد سيريالي، اضطر جمال خاشقجي، الذي دائماً ينفي صفة المعارِض عن نفسه، الى أن يتخذ الغربة طريقه للتعبير عن رأي لا يناقض المنظومة الحاكمة بل يرثي ما اطلق عليه "فقدان الحرية في المملكة"!
بدا الرجل منتفضاً على الواقع الاحتكاري الجديد الذي أنهى هيمنة الليبراليين على مفاصل الدولة، بالاضافة الى تغييره في الصبغة الاسلامية الفاقعة للدولة، فاضطر والمجموعة التي كان يشكل جزئاً منها الى اللجوء للخارج.
لا تنحصر هذه الحالة بالمرتبطين تاريخياً بشكل مباشر بالنظام (كما في حالة خاشقجي) بل تمتد الى كثير من الوجوه الاسلامية التي برزت أخيراً في الخارج كعبد الله العودة ابن الشيخ سلمان العودة المعتقل والمحكوم بالإعدام، والمعارضين المقيمين في لندن، سلطان العبدلي وعضو النيابة العامة السابق محمد القحطاني وغيرهم. فكما في خطاب خاشقجي الذي دائما ما كان يؤكد على السردية الاسلامية لنشوء الدولة السعودية ويصفها بأنها "أب و أم الاسلام السياسي"، فإن جوهر إشكال هؤلاء تركّز على هوية العهد الجديد مشخصنين المشكل في محمد بن سلمان وزمرته.
وجهان لعملة واحدة
إلا أنه لا اختلاف جوهري بين الطرفين. فاطلاق لفظ "ليبراليين" هو تجاوز، ويعبر عن ليبرالية نسبية بالمقارنة مع المحافظين الاسلاميين.
وهؤلاء خسروا امتيازاتهم في الدولة وتلقوا هزيمة في صراعهم الهوياتي حول صورة المجتمع السعودي الصماء. وهي الصورة التي حاول الاسلاميون فرضها لعقود على المجتمع عبر تمكين الدولة لهم بمؤسساتها وادواتها. ففي مقال له في موقع تركي، يقول عبد الله العودة عن "الوطنجية"، وهي التسمية الجديدة لتيار الانعزالية السعودي المهيمن: "فحتى لو أراد هذا التيار تشويه قيم المجتمع وقلبها، واختطاف مفاهيمها، فسيحتاج ذلك إلى عقود طويلة". وفي تغريدة لسلطان العبدلي يُظهر التوافق مع البنية القضائية الحالية، ولكنه يعترض بان "القضاء الآن ملطخ بسافل (أي محمد بن سلمان) يصدر أوامر بالقتل بالجملة". وعليه، ولهذا السبب، فهو يطالب بايقاف الحدود الشرعية كحكم الحرابة.
يهيمن على المشهد السياسي السعودي العام حالياً وصول ثنائية الأسلمة واللبرلة الى أقصى مراحل التضخم، حيث ان هذا الصراع العقيم استمر وسيستمر في اعادة انتاج نفسه دون التقدم خطوة واحدة الى الأمام
ولعل أكبر دليل على الإشكال "القشري" بين الطرفين هو في حرب السعودية على اليمن أو ما سمي بـ"عاصفة الحزم"، حيث تشارك الطرفان في التصفيق للعملية. الا أنه بعد الانقلاب الذي حصل على تيار الاسلام السياسي، غيّر الأخير موقفه ليكون ضد الحرب فجأة، ويتحدث عن المجازر والمجاعة التي يعاني منها الشعب اليمني. ففي لقاء على قناة الجزيرة القطرية يقول العبدلي ايضاً "السعودية تحارب كل مشروع اسلامي سني بل انها دعمت الحوثي وصالح وحاربت حزب الاصلاح". وبالإضافة الى هذا المثال، فلنتذكر مواقف رموز الاخوان المسلمين السعوديين من الاعدامات الجماعية في البلاد قبل ثلاث سنين واختلافها بعد انقلاب الدولة عليهم.
احتكار المجتمع
يتوهم الإسلاميون في السعودية أنهم يمتلكون الشرعية الدينية وبالتالي الشعبية الجماهيرية، منطلقين من تصور ان الشعب في المملكة محافظ ومتدين بطبيعته.. الأمر الذي يُظهر حجم انعزالهم عن الواقع أولاً وتغافلهم ثانياً عن أن "تجذرهم" الشعبي المفترض هو حصيلة تمكين الدولة لهم لعقود، من خلال العمل من ضمن مؤسساتها. وحالما قامت السلطة باجتثاث وجودهم، ذبل ذلك "التجذر".
سراب الإصلاح في بلدان الخليج العربي
15-02-2018
ويمتد أثر هيمنة التصور المحافظ على المجتمع حتى على سياسات غير الاسلاميين، فتنطلق الدكتورة والناشطة النسوية هالة الدوسري في مقالة لها بـ"واشنطن بوست" (كأول مشاركة في زمالة اطلقتها الصحيفة تحت اسم "جمال خاشقجي")، من الافتراض نفسه الذي يربط الدولة والمجتمع في السعودية بالشريعة الاسلامية، أي ان شرعية الدولة دينية بالضرورة، وأن المجتمع متدين بشكل حتمي. وعليه فأي اصلاح يحتاج الى ملازِم "تنويري" إسلامي يشرعنه. من هنا ترى الدوسري انها، وكمطالِبة بحقوق المرأة، تحتاج الى الاستناد الى خطاب إسلامي متنور لمواجهة هذا المجتمع المتدين، على الرغم من أنه في الواقع، فإن الجيل الجديد والحركة النسوية السعودية الحالية متجاوزة لهذه المعضلة. وتحتاج الدولة بنظر الدوسري الى "إعادة النظر في خطر تشويه سمعة الحركات الإسلامية السياسية غير الداعية للعنف".
فرصة جديدة
يهيمن على المشهد السياسي السعودي العام حالياً وصول ثنائية الأسلمة واللبرلة الى أقصى مراحل التضخم، حيث ان هذا الصراع العقيم استمر وسيستمر في اعادة انتاج نفسه دون التقدم خطوة واحدة الى الأمام. وسيقع جيل جديد من الشباب والشابات تحت مقصلة ما يطلق عليه لقب "وطنجية"، ومشنقة نقيضها، "الاخونجية". الا أنه وبالمقابل، انتج هذا المشهد المتضخم مجموعة وازنة من الشبان والشابات، خصوصاً من داعمي الحراك النسوي وما يحمله من هدم لكل البنى التقليدية. هذا الحراك وغيره من التحركات الحداثية التقدمية في السعودية يشكلون فرصة تاريخية لا تُقْصر التاريخ العربي والخليجي على "الصحوة" كما يفعل العهد الجديد، ولا تُقْصر الثقافة والفكر على التراث الديني كما يفعل الاخوان المسلمون.