من بين أسوأ المناظر التي تختزل حالة حقوق الإنسان في بلدان الخليج العربية هو مشهد عمال البناء وصيانة الطرق وهم يعملون تحت شمس منتصف الظهيرة، حين تصل درجة الحرارة إلى 45 في الظل وتزيد عن 50 درجة في الأماكن المكشوفة. يصبح إجبار العمال على العمل رغم لهب الشمس الحارق مقارباً للحكم عليهم بالموت عاجلاً أو آجلاً. كثيرون يسقطون مغمياً عليهم وقد يؤدي السقوط إلى الموت في حال من يعمل منهم في مواقع بناء مرتفعة أو على السقالات. هي شمس لاهبة في مواقع عمل مكشوفة تحرق أجساداً لا تتحاشاها خوفاً من خصم في الأجر أو الطرد من العمل لذي يليه إلغاء الاقامة.
معاناةٌ صارخة وحراك مكتوم
لا يستطيع العمال المهاجرون رفض العمل في تلك الظروف، رغم معرفتهم بالأخطار المحدقة. ومما يجبرهم على ذلك، السعي لتأمين لقمة العيش لعوائلهم التي تركوها في بلدانهم، وكذلك تسديد المبالغ التي استدانوها لتأمين حصولهم على تأشيرة عمل في الخليج. من جهتهم، يتنافس المقاولون، وخاصة الصغار منهم الذين يتزاحمون على أداء المقاولات الصغيرة لحساب إحدى شركات المقاولات الكبرى، على إتمام أعمالهم في أقصر وقت ممكن بهدف خفض الكلفة.
لا تنحصر معاناة العمالة الأجنبية في بلدان الخليج في إجبارها على العمل تحت لهيب شمس الصيف شبه الاستوائي واضطرارها عليه. فذلك هو الجزء المنظور الذي نراه بأعيننا كل يوم، لا تخفيه جدران البيوت، مثل العنف الجسدي ضد الخادمات واستغلالهن جنسياً، ولا تستره أروقة المشارح التي تسجل يومياً نهايات حياة عمال مهاجرين انتحروا بعدما ضاقت بهم السبل، ولا هو مدفون في أرشيف القضايا المكدَّسة في المحاكم لعمالٍ يطالبون بأجور لم يستلموها لأشهر أو بتعويضات عن إصابات عمل يتهرب أصحاب الشغل من تسديدها.
وحراكٌ مكتوم
في مقابل هذه المعاناة، تشهد المنطقة إرهاصات حراكٍ جديد يتمثل في التحركات المطلبية التي قام بها العمال المهاجرون في مختلف بلدان المنطقة خلال السنوات العشر الماضية. وهي تحركات لم تتوقف رغم عدم اهتمام وسائل الإعلام بها، ورغم شدة الإجراءات التي تتخذها السلطات المعنية، بما فيها اعتقال قادة تلك التحركات المطلبية وتسفير جماعي للمشاركين فيها. إلا أن ما كان يتسرّب إعلامياً عن تلك الاحتجاجات وأسبابها وأساليب التعاطي معها، أسهم في إبراز صورة أخرى غير تلك الصورة الزاهية التي ترغب حكومات بلدان المنطقة في ترويجها عبر شركات العلاقات العامة. شهدت دبي وأبو ظبي قبل شهريْن إحدى أهم هذه التحركات العمالية. ففي 21 أيار/مايو الماضي، أضرب آلاف العمال الأجانب في الأمارتيْن في «ارابتك» عن العمل للمطالبة بتحسين ظروف عملهم وزيادة أجورهم. وعُرف أن شركة «ارابتك» (التي بنت برج خليفة في دبي وتتولى إنجاز بناء فرع متحف اللوفر في ابو ظبي) توظف حوالى 40 ألف شخص أغلبهم عمال بناء من جنوب آسيا. وتدفع للعامل غير الماهر 245 دولاراً اميركياً شهرياً (900 درهم). إلا أن العمال المضربين اشتكوا من أن الشركة تستقطع 100 دولار اميركي (350 درهماً) مقابل وجبات يومية تقدمها لهم. وكالعادة، تعاطت الأجهزة الأمنية مع المضربين بأساليبها المعتادة فاعتقلت عشرات «المحرِّضين» ثم قامت بتسفيرهم خارج البلاد.
«خصوصية أسواق العمل الخليجية»
طوال أربعة عقود مضت، منذ بدء الطفرة النفطية في 1973، حاججت دول الخليج العربية بما تعتبره «خصوصية» أسواق العمل، وطالبت باستثنائها من الالتزامات التي تفرضها التشريعات الدولية المنظِّمة لحقوق العمالة المهاجرة، بما في ذلك تحسين ظروف العمل وشروطه. وهي محاججة أُعيدت إثارتها في جميع الاجتماعات السنوية الثلاثة والعشرين بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي، لاستبعاد تضمين حقوق العمالة المهاجرة في مسودة اتفاقية التجارة الحرة بين الكتلتين الأوروبية والخليجية. إلا أن التغييرات التي شهدها العالم في العقود الأخيرة أضعفت كثيراً من قدرة البلدان الخليجية على الإصرار على المطالبة باحترام خصوصيتها.
حظر العمل وقت الظهيرة
بانضمام سلطنة عمان هذا العام، أصبحت جميع بلدان مجلس التعاون تفرض قرارات تحظر العمل في وقت الظهيرة خلال فصل الصيف. تتراوح فترة الحظر بين خمس ساعات في الكويت، وثلاث ساعات في البلدان الخمسة الأخرى. كما تتراوح مدة الحظر بين أربعة أشهر وشهريْن. لم تحدد قرارات الحظر ماذا يمكن للعمال في أماكن العمل أن يفعلوه خلال ساعات الحظر لتمرير الوقت. ومع ذلك، تشير تقارير صحافية محلية في مختلف بلدان المنطقة إلى ترحيب شعبي بتلك القرارات، علاوة على ما هو متوقع من ترحيب العمال المهاجرين أنفسهم. فلا شك في أن قرارات الحظر، رغم ما فيها من ثغرات واستثناءات، ستخفف جزءاً من معاناتهم. إلا أن هذا الترحيب لا يقلل من حقيقة أن البون شاسع بين إصدار قانون لإصلاح بعض الخلل في سوق العمل، وبين تطبيقه عملياً، وخاصة إذا ما كان المستفيدون منه هم في أسفل السلم الاجتماعي.
تفاخر الأجهزة الحكومية بنشر البيانات الرسمية الدورية عن التزام «99 في المئة» من أصحاب الأعمال بقرارات الحظر، مشيرة في الوقت نفسه إلى تغريم عدد منهم بسبب عدم التزامهم بها. إلا أن الواقع يختلف كثيراً عن تلك الصورة الزاهية. فبالإضافة إلى ما فيها من استثناءات وثغرات، تساهم عوامل عدة في تحويل قرارات حظر العمل وقت الظهيرة إلى إجراءات تهدف إلى تزيين صورة حكومات المنطقة بتأكيد التزامها بالاتفاقيات الدولية المتعلقة بشروط عمل العمالة المهاجرة. تتراوح الغرامة التي تفرضها قرارات الحظر على الشركات المخالفة بين ثلاثة آلاف ريال في السعودية و15 ألف درهم في الإمارات. وهذه غرامة صغيرة يستطيع حتى صغار المقاولين تحملها في مقابل ما يكسبونه من عدم توقيف العمل في مواقعهم يوميا لخمس ساعات أو ثلاث. يعتمد تنفيد تلك القرارات على شكاوى العمال في حال إجبارهم على العمل وقت الظهيرة، وعلى تقارير المفتشين في وزارات العمل بناء على تلك الشكاوى، أو بناء على زياراتهم التفتيشية المفاجئة. يضطر العامل/الضحية إلى الصمت وعدم الشكوى حتى لا يتعرض إلى غضب صاحب العمل، وما يترتب عليه من نتائج كالفصل وإلغاء التأشيرة والطرد من البلاد بلا تعويض. من جهة أخرى، يعلم المقالون أيضاً أن الأجهزة المعنية بمراقبة تطبيق قرارات الحظر لا تستطيع عدة وعديداً أن تقوم بالتفتيش على جميع مواقع العمل. مما يجعل خطر كشف المخالفات ضعيفاً تماماً. ففي الكويت مثلاً، لا يزيد أفراد فريق التفتيش المسؤول عن مراقبة جميع مخالفات قوانين العمل في الإمارة، على ثلاثين مفتشاً ومفتشة. فمهما اجتهد المفتشون وأخلصوا في عملهم، فلن يكون بمقدورهم مراقبة أعمال تزفيت الطرق ومشاريع البناء وغيرها، في جميع أنحاء الكويت في فترة الظهيرة. وتبدو الحال أكثر صعوبة في السعودية التي تعمل فيها أكثر من 23 ألف شركة مصنفة متخصصة في قطاع المقاولات والصيانة.
من جهة أخرى، فلدى الشركات الكبرى والمقاولين المتمرسين القدرة على التحايل على تطبيق القوانين بإعادة جدولة مواعيد العمل، لتبدأ نوبة العمل النهارية بعد صلاة الفجر وتنتهي مع بدء فترة الحظر. كما يتحايل المقاولون المتمرسون والشركات الكبرى على إجراءات التفتيش. فبعض هذه الشركات يملكها كبار أفراد العوائل الحاكمة أو المقربون منها، مما يسهل إنذارها مبكراً عن حملات التفتيش أو يدفع المفتشين إلى تحاشي الوصول إلى مواقع عملها. من جهة أخرى، يلعب الفساد الإداري دوره في تقليل المخالفات المسجلة والمحافظة على نسبة التزام تزيد على «99 في المئة».
التبريد بالقبعة
ما يزال المسؤولون في بلدان الخليج العربية على اقتناعهم بأنهم يستطيعون حل مشاكل بلدانهم إما بتجاهلها والتقليل من أهميتها، أو عبر الحلول الأمنية، أو عبر «حيل إعلامية» تبتدعها لهم شركات الترويج والعلاقات العامة. ومن آخر أمثلة الحيل الإعلامية قيام قسم النفايات في بلدية دبي في الأول من آب/أغسطس بتوزيع «قبعات مبرِّدة تعمل بالطاقة الشمسية على ألفين من عمال النظافة للاحتماء من حرارة الشمس». تناقلت الخبر وسائل إعلام محلية ودولية اعتبر بعضها أن القرار يعبر عن «حضارية دبي وحاكمها». وأشادت تقارير إعلامية بالمعاملة الإنسانية التي يحظى بها العمال المهاجرون في دولة الإمارات. وفي المحصِّلة، غطت الضجة الإعلامية التي تلت توزيع 2000 قبعة تبريد على القمع الذي تعرّض له المضربون من عمال شركة «ارابتك» في دبي وأبو ظبي قبل ثلاثة أشهر.
ورغم أن تأثير هذه الحيلة الإعلامية أو غيرها سيبقى محدوداً ومؤقتاً، إلا أنها تشير إلى أن المسؤولين في بلدان الخليج العربية في حاجة إلى مزيد من الضغط عن طريق تظافر الحركات الاحتجاجية التي يقوم بها العمال الأجانب مع جهود المؤسسات الدولية المعنية بحقوق العمالة المهاجرة، وجهود الجمعيات الإقليمية والمحلية المعنية بحقوق الإنسان.