الأفق السوداني المسدود

من أبرز ملامح حالة "الثورة بلا قيادة" حدوث نهوض جماهيري مناوئ للترتيبات السياسية والاقتصادية السائدة، إلا أنه على الرغم من قوة قناعات هذا النهوض ووضوح الرؤية أمامه حول "ما لا يريده"، فإن "ما يريده وكيفية الوصول اليه" يمثل الغائب الاكبر والعقدة العصية على الحل.
2019-03-24

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك

بعد أربعة أشهر من انطلاق الحراك الشعبي المناوئ للرئيس السوداني عمر البشير، تبدو حالة البلاد مرشحة لتحتل مكانها في إطار الظاهرة أطلق عليها "ثورة بلا قيادة" (حسبما جاء في كتاب يحمل العنوان نفسه لكارني روس وهي دبلوماسية بريطانية سابقة). ومن أبرز ملامح هذه الحالة حدوث نهوض جماهيري مناوئ للترتيبات السياسية والاقتصادية السائدة، إلا أنه على الرغم من قناعاته ووضوح الرؤية أمامه حول "ما لا يريده"، الا ان "ما يريده وكيفية الوصول اليه" يمثل الغائب الاكبر والعقدة العصية على الحل.

استمرار حالة الغليان طوال هذه الفترة - وهي قياسية - يشير من ناحية الى أن الاسباب الموضوعية التي أدت الى اشتعال التظاهرات، من تدهور في الوضع الاقتصادي وإنسداد في الافق السياسي، لا تزال قائمة وتمثل بالتالي أنبوب تغذية لتواصل حالة السخط التي تعاظمت بسرعة، معتمدة لها شعاراً سياسياً "تسقط... بس"، أي انها لن تقبل الا بتنحي البشير الذي أصبح ذهابه عنواناً للتغيير المنشود.

البشير من جانبه لجأ الى تكتيكات المناورة وكسب الوقت التي يجيدها، وهي مكنته من قبل من إزاحة عرّاب الاسلاميين الراحل الدكتور حسن الترابي من دائرة النفوذ ثم تهميش تلامذته من ذوي الوزن الثقيل أمثال علي عثمان النائب الاول الأسبق لرئيس الجمهورية، ونافع علي نافع مسؤول الأمن والرجل الأول في حزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقاً، حتى أصبح البشير هو المرجعية الاولى للحكومة والحزب والحركة الاسلامية.

استمرار حالة الغليان لفترة قياسية يشير من ناحية الى أن الاسباب الموضوعية التي أدت الى اشتعال التظاهرات، من تدهور في الوضع الاقتصادي وإنسداد في الافق السياسي، لا تزال قائمة، ويمثل من ناحية أخرى أنبوب تغذية لتواصل حالة السخط التي تعاظمت بسرعة.

وفي مواجهة التطورات الاخيرة، قام البشير بعدة خطوات لضمان ابقاء زمام المبادرة في يده وتوفير هامش للمناورة أمامه، اذ أعلن انه سيقف على مسافة واحدة من كل القوى السياسية بما في ذلك "المؤتمر الوطني"، وهو الحزب الحاكم الذي يترأسه. ومع انه ذهب خطوة أخرى بتعيين والي ولاية شمال كردفان السابق أحمد هارون رئيساً مكلفاً للمؤتمر الوطني، إلا انه لم يعلن صراحة استقالته من الحزب ومن رئاسته. كذلك أعلن انه طلب من البرلمان تأجيل النظر في التعديلات الدستورية التي تسمح له بالترشيح لرئاسة الجمهورية مرة أخرى، لكنه لم يذهب الى نهاية الشوط والاعلان بوضوح انه لا يرغب في الترشيح مجدداً.

على ان أهم ما قام به يتمثل في إدخاله للجيش في المعادلة السياسية عبر خطوتين: تعيين وزير الدفاع الفريق أول عوض ابن عوف نائباً أولاً لرئيس الجمهورية، ثم تعيين ولاة عسكريين لإدارة 17 من ولايات السودان الثمانية عشر.

انقلاب بالتقسيط

وهذه الخطوة تهدف فيما يبدو الى تحقيق أمرين، أولهما قطع الطريق أمام انحياز الجيش الى جانب التغيير بسبب المظاهرات كما حدث من قبل في انتفاضتي تشرين الاول/ أكتوبر 1964 ونيسان/ إبريل 1985 عندما أدت المظاهرات المناوئة وتردي الوضع السياسي والاقتصادي الى قيام صغار الضباط بالضغط على كبارهم وتغيير النظام. فبخطوة البشير الاخيرة بتعيين العسكريين أصبح الجيش مشاركاً في السلطة بصورة ما. أما الامر الثاني فهو فتح المجال أمام ترتيبات انتقالية وذلك بحديث البشير عن وضع اطار للحل واعلان حالة الطوارئ وما تبعها من حل للحكومة.. وكانه إنقلاب يتم بالتقسيط. فحالة الطوارئ هذه يمكن أن تصل الى مداها بحل البرلمان وربما بتجميد النشاط السياسي وجعل الجيش القاعدة الأساسية للحكم، وما يمكن أن يستتبعها بإعلانه التخلي نهائياً عن الحزب. وفي هذه الخطوة مغازلة لبعض التيارات الاقليمية خاصة محور القاهرة والرياض وأبوظبي الذي لا يمانع في ترتيبات جديدة تعيد انتاج البشير في صيغة "سيسي" أخر يحجِّم الاسلاميين السودانيين ان لم يستأصل شأفتهم الذين ظلوا يوفرون السند السياسي للنظام على الرغم من مفارقته لعرابهم الترابي وعداءه له في وقت من الاوقات.

الحراك الشعبي القائم أساساً على الشباب والذي تحتل النساء فيه موقعاً متقدماً، يشير الى وجود فجوة جيلية توجه سهامها الى القيادة والممارسة السياسية التي تسيدت المشهد العام في البلاد لآكثر من ستة عقود من الزمان، وهو بهذا يبدو مناوئاً للمعارضة التقليدية بقدر مناوئته للنظام.

ومن ناحية أخرى، فالمحور الثاني القطري - التركي ليس بعيداً عن هذه المباراة خاصة وأن قطر حصلت على عقد لتطوير ميناء "سواكن" العام الماضي، كما تعمل تركيا على إعادة تأهيل جزيرة سواكن سياحياً لتصبح ممراً للحجاج الاتراك والافارقة. وفي هذا الاطار يمكن النظر الى قرض الثلاثمئة مليون دولار الذي وفره "صندوق النقد العربي" من مقره في أبوظبي مؤخراً للسودان وتنشيط اجتماعات اللجنة الوزارية السودانية - القطرية التي سيترأس الجانب السوداني فيها رئيس الوزراء الجديد محمد طاهر أيلا في أول مهمة خارجية له (وهي يفترض أن تلتئم قريباً).

من الناحية الاخرى، فالحراك الشعبي القائم أساساً على الشباب والذي تحتل النساء فيه موقعاً متقدماً، يشير الى وجود فجوة جيلية توجه سهامها الى القيادة والممارسة السياسية التي تسيدت المشهد العام في البلاد لآكثر من ستة عقود من الزمان، وهي بهذا تبدو مناوئة للمعارضة التقليدية بقدر ما هي مناوئة للنظام.

تسقط... وبس

ومع أن حركة الاحتجاجات هذه يقودها "تجمع المهنيين" وقد انضمت اليها فيما بعد تنظيمات المعارضة مثل "نداء السودان" و"الاجماع الوطني" التي تضم أحزاب تقليدية ويسارية وحركات مسلحة، إلا أن برنامجها للتغيير ظل في إطار العموميات فقط، كما أنها حصرت نفسها في مبدأ التغيير الكلي للنظام والحوار معه على كيفية التنحي فقط، وهو ما يلخصه شعار "تسقط... وبس" ودون أن تكون لديها وسيلة ضغط أخرى لإجبار البشير على تسليم السلطة، الامر الذي يؤذن بحالة متطاولة من الاستنزاف وسد الافق يمكن أن يلعب فيها استمرار تدهور العامل الاقتصادي دورا رئيسيا خاصة مع استمرار عبء الدعم الكبير الذي تتحمله الحكومة في سلعتي دقيق الخبز والوقود والتكلفة المالية العالية للانفاق على حالة الطواريء والامن.

أحد الاحتمالات النظرية التي يمكن وضعها في الاعتبار أن يتمكن "المؤتمر الوطني" تحت قيادة هارون من التوصل الى صيغة تسوية تفتح الطريق الى حل سياسي يجنِّب البلاد حالة المعادلة الصفرية التي تتجه اليها.

يقود "تجمع المهنيين" حركة الاحتجاجات التي إنضمت اليها فيما بعد تنظيمات المعارضة التي تضم أحزاب تقليدية ويسارية وحركات مسلحة. إلا أن برنامجها للتغيير ظل في إطار العموميات فقط، وحصرت نفسها في مبدأ التغيير الكلي للنظام والحوار معه على كيفية التنحي فقط، وهو ما يلخصه شعار "تسقط... وبس"، دون أن تكون لديها وسيلة ضغط أخرى لإجبار البشير على تسليم السلطة.

فهارون، وعلى الرغم من أنه من الذين وجهت اليهم المحكمة الجنائية الدولية تهماً لدوره في قمع التمرد الذي اشتعل في دارفور، الأمر الذي سيحد من قدرته على الحركة، الا أنه من القلائل في "المؤتمر الوطني" ممن يتمتعون بقدرات سياسية ملحوظة. فعقب توقيع إتفاق السلام مع "الحركة الشعبية" المتمردة في جنوب السودان في العام 2005 الذي أنهى التمرد وشاركت بموجبه الحركة في الحكومة، الا أنها بعد فترة سحبت وزراءها لفترة شهرين لِما اعتبرته تجاوزات في حقها من قبل شريكها "المؤتمر الوطني". ولعب هارون دوراً رئيسياً في إنهاء تلك الازمة، كما حقق أفضل شراكة بين "المؤتمر الوطني" و"الحركة الشعبية" عندما كان والياً على جنوب كردفان مع نائبه عن الحركة عبدالعزيز الحلو، الذي عاد الى قيادة تمرد جديد ل"الحركة الشعبية" بعد إنفصال جنوب السودان. وأخيراً فعندما نُقِل والياً الى شمال كردفان، نجح في وضع أجندة توفير الخدمات والانطلاق في مبادرات للتنمية في الولاية، في مزاوجة بين الدعم الشعبي والسند الحكومي والفيدرالي بما عرف بـ"نفير كردفان".

ويبقى التساؤل عن مدى القدرة على تحقيق اختراقٍ ما في هذا الأفق المسدود، خاصة أنه يأتي في الوقت الضائع، وللبشير حساباته التي يمكن أن تحد من حركته الى جانب تمترس المعارضة حول خيار التنحي غير المشروط، وغياب الاهتمام الدولي والاقليمي الذي يمكن أن يدفع بإتجاه تسوية تُقبل من كل الاطراف.

مقالات ذات صلة

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...