العراق بعد عشر سنوات على 2003

البلد أدمن الفجيعة ودجَّن الموت، حتى غدت أرض الرافدين مرتعاً لملائكته الذين لم يجدوا ما يكفي من الوقت للانتقال الى مكان آخر. حملت واشنطن على أكتاف مشاريعها من تبقى من جنودها وآلياتها في العراق، بعد احتلال أوشك أن يُطفئ شمعته العاشرة، لكنها خلَّفت ما هو أكثر فتكاً من الجنود والطائرات والدبابات: القنابل الفراغيَّة والعنقوديَّة، والقنابل القذرة، والقنابل الذكيَّة، وغازات سامة، وأسلحة كيميائية
2012-09-12

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
وسط بغداد - أب

البلد أدمن الفجيعة ودجَّن الموت، حتى غدت أرض الرافدين مرتعاً لملائكته الذين لم يجدوا ما يكفي من الوقت للانتقال الى مكان آخر. حملت واشنطن على أكتاف مشاريعها من تبقى من جنودها وآلياتها في العراق، بعد احتلال أوشك أن يُطفئ شمعته العاشرة، لكنها خلَّفت ما هو أكثر فتكاً من الجنود والطائرات والدبابات: القنابل الفراغيَّة والعنقوديَّة، والقنابل القذرة، والقنابل الذكيَّة، وغازات سامة، وأسلحة كيميائية وفسفورية، جُرِّب بعضها لأوَّل مرَّة هنا في العراق. والأخطر من هذه وتلك، ذخائر اليورانيوم المنضَّب التي لوَّثت الزرع والضرع. أسلحة ذات تأثير عشوائي لكنها ذات تدمير جماعي منظم.
مليون ونصف المليون من قذائف اليورانيوم المنضَّب ألقتها الطائرات الأميركية على العراق، بحسب تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، أي مئات أضعاف ما ألقته من هذه القنابل على يوغوسلافيا السابقة أثناء حرب البوسنة. كما أن تأثيرها يفوق بسبعة أضعاف تأثير القنبلة الذرية التي أُلقيت على مدينة هيروشيما اليابانية مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. لكن الفارق هو أن كلود إيذرلي، الطيار الذي ألقى القنبلة على هيروشيما، لم يكن يعلم بخطورة حمولة طائرته، وحاول التكفير عن ذنبه عندما عرف، فأصبح ناشطاً ضدَّ استخدام الأسلحة النووية. وهو اتهم من قبل الادارة الأميركية بالجنون. في حين أن عشرات الطيارين، الذي ألقوا بحمم طائراتهم السَّامة على العراق لم يشعروا بالذنب، بل ان بعضهم لم يخفِ إحساسه بالمتعة وهو يرقب "موت العراقيين"، لأنهم "قطعان بشرية لا ضير من تقديمهم قرابين على مذبح الديموقراطية"، كما صرح أحد الطيارين لصحيفة "نيويورك تايمز" ضمن تقرير نشرته منتصف كانون الاول/ ديسمبر عام 2004 عن معركة الفلوجة الثانية.
لم تكتفِ القوات الأميركية بحمم اليورانيوم والأسلحة الكيميائية والبيولوجيَّة التي استخدمتها في حربها على العراق، بل عمدت إلى دفن نفاياتها السامّة في مدن عراقيَّة عدَّة قبيل انسحابها. صحيفة التايمز البريطانية كشفت في تقرير لها بعنوان "الولايات المتحدة تخلف النفايات السامة في العراق"، عن هذه المخالفات المرعبة وكتبت تقول إن "قوات الاحتلال الأميركية عمدت إلى دفن نفايات سامة تؤثِّر على البشر والحياة". ورصد مراسل الصحيفة في العراق الذي أجرى تحقيقا ميدانيا شمل خمس محافظات عراقية مطلع حزيران/ يونيو عام 2010 "تلوَّث مساحات واسعة من الأراضي الزراعية القريبة من القواعد العسكريَّة الأميركية نتيجة مخلَّفات الوقود والأسلحة المحرَّمة دولياً، ولا سيما شمالي بغداد وغربها".
إنه موتٌ مؤبَّدٌ. فاليورانيوم المنضَّب له قدرة البقاء أربعة مليارات سنة ونصف، كما يقدَّر العلماء (أليس ذلك هو "الأبد"؟!)، وأرض العراق مغمورة بالنظائر المشِّعة نتيجة حرب أميركا (الذريَّة)، التي حكمت على العراقيين بما هو أبشع من "العودة الى العصر الحجري" وفق تهديدات واشنطن الموثقة في محادثات جنيف قبيل حرب اميركا الاولى عام 1991. حكمت عليهم بانتشار السرطانات والتشوهات الخلقية. ويضاف إلى المسلك الاميركي، ولو بلا قياس معه، انعدام وجود أيَّة ضوابط حكومية على الانبعاثات والمخلفات الصناعية التي تنتج عن السيارات، وعن المولدات الكهربائية المستوطنة في أكثر الأزقة ازدحاماً بالسكان، وهي واحد من الحلول التي تغطي عجز الحكومة عن توفير الطاقة الكهربائية، إضافة الى الاستخدام العشوائي للأسمدة الكيميائية... ما جعل من العراق أحد أكثر بلدان العالم تلوّثاً وفقاً لمقدمة تقرير برنامج الأُمم المتَّحدة للبيئة حول العراق عام 2005. ومذاك استفحل الامر، أو فلنقل بدأت تظهر النتائج.

حكاية كنعان الذي مات مرتين
فقدت خلود ابنها كنعان ذا الستة أعوام بعد اصابته بمرض سرطان الدم (اللوكيميا) الذي لم يمهله طويلاً. لكن القدر يحول تكشيرته أحياناً إلى ابتسامة عريضة، حيث اكتشفت انها حامل في شهرها الثاني، وشعرت على الفور بأن الله شاء أن يعوضها ما فقدت، فقررت أن تطلق على الوليد إن كان صبياً اسم ولدها الراحل كنعان.
مرت أشهر الحمل التسعة كأنها تسعة دهور، وحين شعرت بآلام المخاض غمرتها سعادة اللقاء القريب بوليدها. كان الوليد كنعان كما تمنَّت ونذرت، لكنه نُقل إلى قاعة الخدج رغم اتمامه أشهر الحمل التسعة. ولتبديد قلقها، أخبرها الأطبَّاء أن كنعان مصاب بتشوّهات ولادية تستدعي نقله إلى مشفى الواسطي لإجراء عدد من العمليات. وبدلا من أن يتبدَّد قلق خلود، تبدد حلمها، فقد مات كنعان فور وصوله إلى المشفى المختص. ومن أجل كنعان الذي مات مرتين، نذرت خلود نفسها للبحث والتقصي عن أسباب موته الاول وموته الثاني، ولم تجد سوى جواب واحد: إنه شيطان الموت الذي يحمل اليورانيوم على جناحيه المفردين في سماء العراق.
وبهذا الصدد يشير تقرير لوزارة الصحة العراقية صدر عام 2009، عن العلاقة بين التلوث الذي انتجته مخلفات الحرب وتنامي أنواع عدة من أمراض السرطان خلال السنوات الخمس الأولى التي أعقبت احتلال العراق من قبل القوات الأميركية. ويرصد التقرير "إصابة 63 ألفاً و923 شخصاً بالسرطان خلال هذه الأعوام الخمسة، منهم 32 ألفاً و281 من الذكور و31 ألفاً و552 من الإناث، تعرض معظمهم للموت، ويشكِّل الاطفال والنساء النسبة الأكبر من هؤلاء". ويشير التقرير إلى أنَّ عام 2007 وحده شهد 7982 حالة سرطانية جديدة سجلت في محافظات الفرات الأوسط.
أمّا إحصاء "مركز الإشعاعات والطب النووي العراقي"، فسجَّل نحو 7 آلاف حالة إصابة بمرض السرطان منذ بداية عام 2010، وقال رئيس قسم تسجيل اسماء المصابين بمرض السرطان في بيان قرأ خلاله جانباً من الإحصاء أمام وسائل الاعلام أن 17 في المئة من الحالات المذكورة رصدت في إقليم كردستان العراق. وبحسب تقارير المركز، فإن المواطنين العراقيين يواجهون كارثة كبيرة من الناحية الصحيَّة بسبب ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان. كما تؤكد دراسة ميدانية أجراها "المركز الطبي الدولي لأبحاث اليورانيوم" UMRC في أيلول/ سبتمبر ـ تشرين الأول/ أكتوبر 2003، أن "التلوَّث الإشعاعي منتشر في جميع مدن وسط وجنوب العراق بدرجة خطيرة تجاوزت في بعض المواقع التي تعرَّضت للقصف بذخائر اليورانيوم المنضَّب، أكثر من 30 ألف مرَّة الحدّ المسموح به. مع العلم بأن هذا الإشعاع لا يقتصرعلى الهواء، وإنما يشمل التربة كذلك، ويستمر تأثيره إلى فترات زمنيَّة طويلة جدَّاً، ما يجعل تأثيره شاملاً على الإنسان والحيوان والنبات وكافة أشكال الحياة البيولوجية".

أبالسة الوأد
غير كنعان، ثمة الآلاف مثله قضوا بمخلفات الحرب قبل أن يروا النور. الأبالسة أعادوا إنتاج وأد الأطفال، لكنَّهم لم يكتفوا بالإناث على الطريقة الجاهليَّة، بل وسَّعوا حقل الضحايا ليشمل البنات والأولاد والأشجار وكلّ شيء حي. فقد سجلت دوائر وزارة الصحة ارتفاعاً ملحوظاً في الولادات الحديثة ذات التشوّه الخلقي: برأسين، وبأذرع رباعيَّة، وبالتصاق في الأرجل، وبانتفاخ الوجه والبطن، وبهزال شديد، عدا الولادات قبل إتمام الشهر التَّاسع،وحالات الإسقاط والتي بلغت 242 الفاً و557 خلال الفترة بين عامي 2003 و2010.
وتسجل التقارير في مدينة الفلوجة، التي تعرضت لقصف عنيف خلال العام 2004، ازدياد عدد الولادات المشوَّهة هناك نتيجة استخدام المواد الكيميائية والفوسفور الأبيض المحرَّم دوليَّا، والذي يعدُّ استخدامه ضد المدنيين جريمة حرب.‏
سجلت 84 حالة تشوه خلقي لأطفال في الشهر الثاني من 2011 وحده، وهذه النسبة آخذة بالارتفاع، بينما سجل أحد الأطباء العراقيين في مستشفى المدينة السنة الماضية 230 حالة لأطفال مصابين بتشوهات خلقية مختلفة، كما لوحظت زيادة (لم يعلن عن نسبتها بعد) في حالات الإعاقة عن العام الماضي.
نشرت البيانات الخاصة بالتشوّهات الخلقيَّة الحاصلة بين المواليد الجدد لأوَّل مرَّة في التقرير السنوي لوزارة الصحة لعام 2010، حيث تبين أن عدد الولادات المعوقة المسجَّلة في ذلك العام في عموم محافظات العراق، عدا إقليم كردستان، بلغ 2997 حالة وبنسبة 3 في المئة من الولادات الحية. أما أبرز عدد من الإصابات فيندرج تحت نوع عوق الرأس المموَّه، وبلغت 402 حالة. بينما تمثل الإصابات بشقٍّ خلقي بالحنك النسبة الأقل، حيث بلغت 44 حالة. كما أن نسبة الإناث هي 51 في المئة من مجموع المواليد المعوقين بينما نسبة الذكور هي 49 في المئة. وتختص محافظة الانبار بأعلى نسبة للإصابة بالتشوهات الولادية.
أرقام ونسب مجرَّدة تمثِّل مادَّة دسمة لمراكز البحوث والصحف والفضائيات، لكنَّها في حقيقة الأمر تحكي حجم فاجعة تستمد نسغها مما خلفه مدّعو الحرية وشياطين الديموقراطية المعلبة، ووكلاؤهم في الحكومات العراقية المتعاقبة بعد الاحتلال. إنه موت يخلِّف نشيد الآهات في مدن العراق. وكانت أخلاق الفرسان قد دعت الكاتب الياباني ياسوناريكاواباتا الى الانتحار بسبب مأساة هيروشيما التي سكنته، وبعد أن أرسل رسالة الى الله يقول فيها "يا سيدي الله، هل تعتقد أنه لا تزال هناك حاجة الى جهنم؟".
لكن السؤال الأهم: هل ثمة فرسان في منطقتنا؟ سؤال من مصابٍ بالسرطان نتيجة انتشار يورانيوم العولمة المنضَّب.

مقالات من العراق

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...