صناعة العقاب فـي العراق

مثلما يعدُّ سجنُ الباستيل في فرنسا الأكثر شهرة، رغم سجونها الأربعمئة، لكون نزلائه من المفكرين والقادة النبلاء، فإن سجن «نقرة السلمان» يعدُّ الأكثر شهرة في العراق، رغم انتشار السجون في المحافظات العراقية. والفارق بين تاريخ السجنين هو احتفال فرنسا بسقوط سجن الباستيل في الرابع عشر من تموز/يوليو، واعتبار هذا اليوم عيداً وطنياً، في حين أن سجن «نقرة السلمان» عانى الإهمال بعد
2012-09-05

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك

مثلما يعدُّ سجنُ الباستيل في فرنسا الأكثر شهرة، رغم سجونها الأربعمئة، لكون نزلائه من المفكرين والقادة النبلاء، فإن سجن «نقرة السلمان» يعدُّ الأكثر شهرة في العراق، رغم انتشار السجون في المحافظات العراقية. والفارق بين تاريخ السجنين هو احتفال فرنسا بسقوط سجن الباستيل في الرابع عشر من تموز/يوليو، واعتبار هذا اليوم عيداً وطنياً، في حين أن سجن «نقرة السلمان» عانى الإهمال بعد إغلاقه عام 1968، ولم تبقَ منه سوى أطلال، كأنها قبر خرافي يحمل الكثير من تاريخ الاضطهاد الذي ترك بصماته على رمل صحراء السماوة، حيث شيَّده بناؤون هنود (حامية السلمان) عام 1928.

تنشطر ذاكرة السجن بين ما تبقّى من ذاكرة الحكائين من عشائر بادية السماوة وبين مذكرات سجنائه، الذين «دفعوا مهر الحرف» كما يصفهم محمود درويش. عام 1953، أصبح سجن «نقرة السلمان» قضيّة رأي عام عراقية بامتياز. حينها، أكتظ سجن بغداد المركزي بالسجناء السياسيين، فلجأت الحكومة، إبان العهد الملكي، إلى عزلهم على أساس «ديني»، وقرّرت إرسال السجناء اليهود إلى «نقرة السلمان»، والسجناء المسلمين إلى بعقوبة، ما أدى إلى حركة تمرد داخل السجن المركزي واجهها حرّاسه بالنار، وقتلوا سبعة سجناء وجرحوا أكثر من خمسين منهم. كما شهد الطريق إلى «نقرة السلمان» واحدة من أبشع محاولات القتل الجماعي، حيث حشر مئات السجناء السياسيين في قطار للبضائع، طليت جدرانه ونوافذه بمادة «القير» (الزفت) لكي يختنقوا قبل وصولهم الى محطة السماوة. لكن وطنية سائق القطار حفّزته على التمرد على التعليمات، وأسرع بقطاره ليصل قبل ساعتين من الموعد المقرَّر، وليجد الأهالي بانتظار القطار، فازاحوا القير عن نوافذه وقدّموا للسجناء الملح والماء بعد أن كانوا في النزع الأخير. وقد مات في هذه المحاولة ثلاثة سجناء وأصيب العشرات منهم بأمراض خطيرة، ما جعل الناس تطلق تسمية «قطار الموت» عليه.

هذا نزر من تاريخِ السجن الاشهر في العراق. أما النسخة الأحدث من حال السجون، فتصوّرها منظّمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها عن حقوق الإنسان في العراق (الصادر في فبراير/شباط 2011)) بالقول: «تحت حكم صدام حسين، كان التعذيب منتشراً على نطاق واسع، وعقوبات الإعدام بمعزل عن القضاء، كأدوات للقمع السياسي من أجل القضاء على الخصوم الحقيقيين والمُتَصَوَّرين للحفاظ على هيمنة الرعب على السكان بشكل عام». وينتقل التقرير إلى صورة العراق بعد عام 2003 فيقول: «وقعت انتهاكات جسيمة في مراكز احتجاز كانت تديرها القوّات الأميركية والبريطانية». وينقل التقرير عن الجنرال الأميركي انطونيو تاغوبا قوله: «هناك أدلَّة كثيرة على انتهاكات إجرامية سادية وفضائحية ووحشية، ممنهجة وغير قانونية لحقوق المحتجزين». التوصيف دقيق، لكنه لا يرقى لفضيحة سجن «أبو غريب» حين تعرّض السجناء العراقيون لأبشع أنواع الامتهان الإنساني على يد قوّات أميركية، فوصفت المجنّدة الأميركية ليندي انغلاند بأنها أحدث صورة للشيطان هبطت على الأرض.

لكن ثمة ملامح جديدة لصورة الشيطان تشكَّلت عند نهاية عام 2011. جيش الاحتلال الأميركي رحل من بغداد، أخذ عتاده وخلف صوراً عامرة بالرعب، وخلف أيضاً طوابير من السجناء وأخرى من السجَّانين، حالهم لا يختلف كثيراً عن حال سجون حكم نظام صدّام حسين أو سجون قوات الاحتلال. تحيط الدفاتر الحكومية حالات الاغتصاب بالتشكيك، فتقول وزارة حقوق الإنسان في تقريرها السنوي الصادر عام 2011 أن «(ادعاءات) الاغتصاب بلغت 11 حالة، 7 منها تعرّض لها رجال و٣ نساء، أمّا (ادعاءات) التحرّش الجنسي فهي اثنان، وتعرّضت لها النساء فقط، وبلغت حالات التعذيب المسجّلة لدى الوزارة 54 حالة، منها تعريض الجهاز التناسلي إلى الصعق الكهربائي». لكن في27 نيسان/أبريل من العام ذاته، أفاد تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش تقريراً عن حالات اغتصاب لانتزاع اعترافات من معتقلين في «سجون سريِّة»، أكدتها أيضاً صحيفة لوس أنجلس تايمز في تاريخ مقارب، متناولة تعرّض سجناء في محافظة ميسان إلى حالات اغتصاب متكّررة، ما يجعل «الادعاء» الذي تشكِّك فيه الحكومة العراقية واقعاً.

تحظر المادة السابعة من الدستور العراقي «جميع أنواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الإنسانيّة»، وتؤكد أن «لا عبرة بأيِّ اعتراف انتزع بالإكراه أو التهديد أو التعذيب». وتعززها المادة 333 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تجرِّم «قيام أيّ مسؤول عام أو موظف عام بالتعذيب أو الأمر بالتعذيب بحقِّ شخص متَّهم بجريمة أو شاهد عليها أو مخبر من أجل حمله على الاعتراف». إلا أن المادة 136 من القانون ذاته تشكِّل عائقاً يحول دون مقاضاة المنخرطين بأعمال مشينة بحق المحتجزين، حيث تطالب، في حال وجود شكاوى بالاعتداءات، الوزير المسؤول «السماح» بإحالة المسؤول المتهم إلى القضاء.

«مسرور» يتجول في دولة الدستور

إنَّه مسرور ألف ليلة وليلة، سيّاف شهريار، يتجوَّل بين أزقَّة المدن العراقية وقراها... يحملُ سيفاً اسمه المادة «أربعة إرهاب»، ليرهب العراقيين العُزَّل. والمادة «أربعة إرهاب» هي مادّة من ضمن خمسة مواد في قانون مكافحة الإرهاب الذي أصدرته الحكومة العراقية العام 2005، وهي الأكثر استخداماً في القضاء العراقي، وتحتوي على بندين: الأول، يُحكم بالإعدام على كل من يرتكب بصفتهِ فاعلاً أصلياً أو شريكاً في الأعمال الارهابية، ويُعاقبُ المحرِّض والمخطِّط والممول وكلّ من مكن الإرهابيين من القيام بالجريمة كفاعل أصلي. أما البند الثاني فينصّ على العقاب بالسجن المؤبد على كل من أخفى عن عمد أي عمل إجرامي أو تستَّر على شخص إرهابي.

ووفق هذه المادّة يحقُّ للحكومة اعتقال أيِّ شخص وإخفاءه من دون الإعلان عنه! الأمر الذي سوَّغ للأجهزة الأمنيّة القيام بما تسميه «اعتقالات إحترازية»، كما حصل قبيل انعقاد القمّة العربية في بغداد نهاية آذار/مارس الفائت، فقامت هذه القوّات، التي انتشرت بواقع 98 ألف عنصر من الجيش والشرطة وجهاز المخابرات الوطني في عموم مناطق بغداد، بسلسلة اعتقالات شملت شباب من مناطق عدة من العاصمة، وبقي بعض هؤلاء محتجزين في السجون لحين انتهاء انعقاد القمّة، في حين بعضهم الآخر ما زال في السجون حتى الآن دون توجيه أي تهمة له من قبل القضاء، ما دفع بمنظَّمة هيومن رايتس ووتش إلى التنديد بالأمر. وتبلغ نسبة السجناء على أساس المادة «أربعة إرهاب» 80 بالمئة من أصل 27 الف معتقل بحسب وزارة العدل.

تعليب السجناء

تنتقد منظَّمات المجتمع المدني والصحافة المحليَّة واقع السجون العراقية، فتنشر تقاريراً عن حالات شغب مستمرِّة في السجون، كان آخرها ما حصل في سجني «التاجي» و«التسفيرات» في العاصمة بغداد. يحصل ذلك بسبب «تعليب» السجناء داخل غرف السجون المكتظَّة، التي لم تشهد أي تطوّر في طاقاتها الاستيعابية. ويقدّر الفائض على قدرتها الاستيعابية بـ 2012 سجينا في عموم محافظات العراق، ما عدا إقليم كردستان.
وتقول وزارة حقوق الإنسان «لم يشهد العراق العام 2011 أية زيادة في الطاقة الاستيعابية للسجون ومراكز الاحتجاز (..) وقد أدى ذلك إلى استمرار حالات الاكتظاظ»، ما حدا بها إلى تصنيف هذا الأمر ك«شكل من أشكال المعاملة غير الإنسانية (دولياً)، ومخالفة قانونية (وطنياً)».

الموت البطيء

في عام 2010، سجّلت مئة حالة وفاة في السجون العراقية، وتراجع الرقم عام 2011 إلى النصف. وفي العام نفسه، قالت وزارة حقوق الإنسان «لا تتوفّر إلا خمسين بالمئة من الحاجة الفعليَّة لأدوية الأمراض المزمنة للمصابين بها من السجناء»، و«اشتبهت» الوزارة بـ 12 حالة وفاة بسبب التعذيب، ولم تبين سبب وفاة 11 آخرين. وشهد العام الماضي ارتفاع في حالات مرض الجرب الجلدي ليصل إلى 1822 حالة. وغالباً ما تتأخر إدارات السجون في نقل المرضى من السجن إلى المراكز الصحيّة بسبب عدم توفر السيارات أو أطبّاء خفر في الوحدات الصحيّة داخل السجون ومراكز الاحتجاز ليلاً. وفي سجن بغداد المركزي الذي يضم (3500) نزيلاً، لا توجد إلا على سيارة إسعاف واحدة، بينما من المفترض بحسب خطة الإسناد الطِّبي لوزارة الصحة - أن تتوفّر لكل 500 نزيل سيارة إسعاف. لكن وزير العدل العراقي، في تصريح نهاية الشهر المنصرم، قال ان السجناء أفضل «معيشة من حال المواطن»!

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...