بصـمـة عـرقـوب فـي أوراق أوتـاوا

لحظة واحدة امتدَّت عاماً كاملاً أمام ناظريه، ظلَّت معلَّقة في أطراف ذاكرته، وعايشته من بعد حتى آخر لحظات العمر. سمع دوي انفجار لغم تحت قدميه، أو بعضاً من ذلك الدوي، ورأى ساقه تتطاير في الهواء بضعة أمتار من دون أجنحة، لتحطَّ بالقرب من رأسه بلا روح. ذلك آخر عهده بساقه، وآخر ما يتذكَّره من تفاصيل انفجار اللغم الأرضي تحت خطواته، وحين فتح عينيه في المستشفى، أيقن أنَّه سيمضي حياته دون ساقه، وأنَّه
2012-10-17

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك

لحظة واحدة امتدَّت عاماً كاملاً أمام ناظريه، ظلَّت معلَّقة في أطراف ذاكرته، وعايشته من بعد حتى آخر لحظات العمر. سمع دوي انفجار لغم تحت قدميه، أو بعضاً من ذلك الدوي، ورأى ساقه تتطاير في الهواء بضعة أمتار من دون أجنحة، لتحطَّ بالقرب من رأسه بلا روح. ذلك آخر عهده بساقه، وآخر ما يتذكَّره من تفاصيل انفجار اللغم الأرضي تحت خطواته، وحين فتح عينيه في المستشفى، أيقن أنَّه سيمضي حياته دون ساقه، وأنَّه فقد جزءاً من جسده سيجعله يتعكَّز على خشبة بقية عمره.
إنها قصة الشاب أحمد يونس، الذي فقد ساقه أثناء معارك نهر جاسم بين العراق وإيران، في محافظة البصرة عام 1986. وهي واحدة من آلاف القصص التي فقد فيها الشباب العراقي بعضاً من أجزاء أجسادهم نتيجة انفجار لغم في بلد يعدُّ الأوَّل من حيث عدد الألغام المزروعة في أراضيه، بحسب مؤتمر صحافي لوكيل وزارة البيئة، عقده في نيسان/أبريل 2011 ، وأكد فيه أن العراق يضم «ما يقرب من ربع الألغام الأرضية في العالم، ما شكل تركة ثقيلة تعيق التنمية الاقتصادية والصحية».

25 مليون لغم

لكن بداية العراق مع الألغام لم تبدأ مع الحرب العراقية الإيرانية، بل في مطلع ستينيَّات القرن الماضي حيث راح المتمردون الأكراد في شمالي العراق، «البيشمركة»، يشنّون هجمات حرب عصابات على القوات العراقية في المنطقة، من أجل الضغط على الحكومة لانتزاع اعترافها بحقِّ الحكم الذاتي. كانت الهجمات تُشَنُّ انطلاقاً من الأراضي الإيرانية التي شاب علاقة حكومتها آنذاك مع حكومة العراق الكثير من التوتر، مما حدا بالحكومة العراقية إلى زرع حقول ألغام في مساحة واسعة من المناطق الواقعة على الحدود بين البلدين. وتضاعف عدد الألغام المزروعة في المنطقة إثر المناوشات التي جرت على الحدود بين العراق وإيران عام 1969 (بين نظام الشاه محمد رضا بهلوي ونظام حزب البعث الذي كان قد قضى للتو عامه الأول في السلطة بعد انقلاب قاده في تموز/يوليو عام 1968). والمشكلة التي رافقت تلك العملية واستمرت إلى الآن، هي أن تلك الحقول من الألغام كانت تزرع بشكل عشوائي، أي دون خرائط تمكّن من إزالتها عند انتفاء الحاجة إليها.
وبعد اندلاع حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران، امتدَّت حقول الألغام على طول الحدود بين البلدين التي تتجاوز 1270 كيلومترا، وفي الجانب العراقي تمتد تلك الحقول داخل الحدود لعمق يصل أحياناً الى خمسة عشر كيلومتراًوفقاً لتقديرات نائب وزير البيئة العراقي، في تصريح لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين).
وتضاعفت أعداد الألغام في العراق من جديد بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 بينه وبين قوات التحالف الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية، ومن ثمَّ في الحرب التي شنّتها القوات الأميركية في نيسان/أبريل عام 2003 للإطاحة بنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، لتصل إلى رقم مرعب حدَّدته إحصائيات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بخمسة وعشرين مليون لغم. وتعد أراضي محافظة ذي قار (400 كيلومتر جنوبي بغداد) هي الأكثر تعرّضاً لمخاطرها، حيث تم التأكد من أن مساحة 98 كيلومتراً مربعاً من أراضيها تعد مناطق خطرة، تليها محافظات البصرة، وميسان، والمثنى وواسط. وفي السياق نفسه، يقول نائب وزير البيئة المدير العام لدائرة شؤون الألغام، ان «هذه المناطق تمثل 80 بالمئة تقريباً من المناطق الملوثة على مستوى البلاد، وتسبب تلك الألغام أضراراً لنحو 1.6 مليون عراقي في 1600 مجتمع محلي»، بما يعني تعرض واحد من بين كل 20 عراقي لخطر الألغام المباشر. ويضيف ان هذه الالغام غير المنفجرة «تسببت في قتل أو جرح مواطنين عراقيين اثنين في المتوسط كل أسبوع خلال عام 2010، وكان 80 في المئة منهم فتيانا وشبانا تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة. كما تعرض ما بين 48,000 و68,000 عراقي لبتر الأطراف بسبب الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة». ويجمل المسؤول عدد ضحايا الالغام في العراق بالقول: «تشير إحصائياتنا بان عدد المعاقين نتيجة الألغام في العراق هو 244,659 نسمة منهم 172,765 ذكورا 71,894 اناثا، كما أن عدد المعاقين في المدن وصل الى 181,306 نسمة وفي الريف 63,353 معاقا».

ذهب أسود.. ذهب أخضر
لم تتوقف الآثار السلبية للألغام غير المنفجرة في الأراضي العراقية على البشر فحسب، بل تتعداهم الى الزراعة والنفط والصناعة، أي أن تأثيرها غير المباشر ينعكس بوضوح على تعطيل مشاريع التنمية. وبهذا الصدد يقول دانييل أوغستبرغر، مدير «مكتب الشؤون الإنسانية والتنمية لدى بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق»، أمام مؤتمر صحافي بمناسبة «العام الدولي للتوعية بالألغام والمساعدة في مكافحتها» في نيسان/أبريل 2011 ان «العبوات غير المنفجرة هي واحدة من الأسباب الرئيسية التي تعيق التنمية في العراق». ويضيف انه «كلما طالت فترة ترك الألغام في الأرض، زادت خطورتها على المجتمعات المحلية، وتأثيرها على النشاط الزراعي والاقتصادي». ويؤكد وكيل وزير البيئة في المؤتمر ذاته أن «نحو 90 في المئة من الأراضي الملوثة بالألغام أراضٍ زراعية، كما تم العثور على العديد من الألغام الأرضية حول حقول النفط الرئيسية». وكانت دراسة حديثة صادرة منتصف عام 2012 عن «وحدة تحليل المعلومات المشتركة بين الوكالات التابعة للأمم المتحدة» قد أكدت أن «دخل الفرد والانجاز التعليمي يصبحان أقل في المناطق الملوثة بالألغام الأرضية».
وطبقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فإن الأسر في المناطق المزروعة بالألغام تعاني أكثر من غيرها من انعدام الأمن الغذائي، كما أن معدل حصول السكان على خدمات الكهرباء والتعليم في المناطق الملوثة بالألغام أقل من معدل حصولهم على تلك الخدمات في المناطق الخالية من الألغام.

بصمة عرقوب في أوراق أوتاوا

انضم العراق إلى اتفاقية أوتاوا التي تحظر استخدام الألغام المضادة للأفراد عام 2008، والتزم بعدم استخدام أو إنتاج أو حيازة أو تصدير الألغام الأرضية. كما التزم بإزالة جميع الألغام الأرضية بحلول عام 2018، إلا أن هذا الالتزام جزء من وعود الحكومة التي أقل ما يقال عنها انها «وعود عرقوب». ونتيجة الفوضى في إدارة الدولة، فإن المعنيين بشؤون إزالة الالغام يكذبون التزامات الحكومة، وإذ يبرز سؤال عن الجهة الحكومية التي التزمت بموجب الاتفاقية بإزالة جميع الألغام الأرضية بحلول عام 2018، يكون الجواب انها جهة مرتبطة بمجلس الوزراء، ولم تستأنس برأي المختصين في الوزارات المعنية الثلاث وهي وزارات البيئة والداخلية والدفاع.
إن التحدي الأصعب الذي تواجهه عمليات الإزالة، هو عدم وجود أية خرائط للألغام الأرضية التي زرعها النظام السابق عشوائياً، كما أن انعدام الأمن وعدم وجود متخصصين في إزالة الألغام، عاملان مضافان لصعوبة تحقيق هذا الهدف. إذ لا يوجد سوى نحو 2000 متخصص في وزارة الدفاع، و13 شركة خاصة، في حين ان إزالة كافة الألغام الأرضية خلال السنوات العشر المقبلة، ستحتاج وفق المسؤول نفسه إلى مئات الشركات المتخصصة ونحو 20 الف خبير إزالة ألغام.
إنها حلقة أخرى في سلسلة المتاهات التي يمر بها العراق منذ عقد من الزمن. مشكلات عديدة غير مشخصة وأخرى مشخَّصة لكن حلولها مجتزأة، ومشكلة الألغام تشبه الرقص مع الموت في ليل حالك. فهي موت مخبأ تحت الأرض، متحفز للانقضاض على ضحاياه في أي لحظة. الحكومة والجهات المختصة تطلق الوعود، لكنها بسبب حجم الفساد الإداري والمالي، غير قادرة على خلع أنياب الذئب وغير قادرة على إنارة الظلمة الحالكة. ويبقى المواطن العراقي لعقود قادمة تحت رحمة الصدفة التي قد تضع قدمه أو تبعدها عن موقع لغم معد للانفجار.
 

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...