ثمة ما يشير إلى أن موضوعة المثليين حجة سهلة تتلقفها الأيدي السلطوية كل حين، وتستثمرها في أغراض شتى. هذا صدام حسين يريد إطلاق حملته الايمانية فيفتك بالمثليين، وهذا العصاب اليوم وصل بمن يريدون البرهان عن شدة تعلقهم بالدين إلى شمل الشبان الصغار الملقبين بالـ«إيمو» بهوجائهم... مع أنها مجرد قصات شعر أو قمصان... ومع أن التاريخ العربي والإسلامي، في العراق كما في سواه، مليء بقصص المثليين والغلمان، دون أن يكون ذلك مدعاة للقتل.
في أيلول/سبتمبر الفائت، بثَّت قناة بي بي سي البريطانية فيلماً وثائقياً عن المثليين في العراق، قالت فيه إن الحكومة العراقيَّة «ضالعة في اضطهادهم (..) وضالعة بإعدام العديد منهم»، وأكَّد المتحدثون في الفيلم، وهم «17 شاباً» من المثليين، أنَّهم تعرضوا للاغتصاب من قبل قوَّات الأمن العراقيَّة. ونقلت مراسلة بي بي سي عن نشطاء قولهم إن نحو «1000 من مثليي الجنس من الرجال والنساء قتلوا في العراق منذ عام 2004». أما الأمم المتّحدة فقد تمكَّنت من توثيق مقتل نحو 11 شابَّاً وفتاة، وأشارت إلى وجود صعوبة في معرفة سبب القتل «لأن عوائل الضحايا عادة تخفي هذه الجثث». واكتفى ممثل المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق بالقول أن «الحكومة العراقية تنتهك القانون الدولي وإن فشلها في الحدِّ من هذه الجرائم يضعها في خانة الاتهام».
تاريخ
تاريخ المثلية لهُ جذور عميقة في العراق، خاصّة في العصر العباسي، إذ يُروى أن «الأمين حين أفضت إليه الخلافة قدَّم الخصيان وآثرهم فشاعت قالة السوء فيه» (بحسب الدكتور شوقي ضيف). كما انتشر شعراء يمدحون المثليّة صراحة مثل والبة بن الحباب، وأبو النوَّاس. وعلى الرغم من وقوف الوعّاظ بالضد من تصرفات المثليّة في ذلك العصر، إلا أنّهم لم يصلوا إلى مرحلة إباحة قتلهم، لا سيما وأن قصور الخلفاء والوزراء كانت تحميهم.
أما في العصر الحديث، فإن للعراق أيضاً تاريخا في المثليَّة. وقد انتشرت الظاهرة على وجه الخصوص بين مربّي الطيور الأليفة، لذا، كان الأهل يحذِّرون من مصاحبة هذه الملَّة التي وصل أمر نبذها إلى حدِّ عدم قبول شهادة المنتمين إليها في المحاكم. إلا أن هذا الانتشار لم ينتج وضوحاً لمعالم ثقافة المثليّة، فقد كانت طقوسها تمارس في الأحياء المغلقة من المدن العراقية، وبالأخص في المناطق الشعبيَّة منها.
الحملة الإيمانية وثقافة النطع
وفي التسعينيات من القرن الماضي، إبان فترة حكم البعث في العراق، وبعد النكوص الى ما أسماه صدام حسين «الحملة الإيمانية»، أُصدر مرسوم «يعاقب كل من الدعارة والمثلية وزنا المحارم والاغتصاب بعقوبة الإعدام»، بحسب التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية الصادر عام 2002 عن حالة حقوق الإنسان في العالم. ويتناقل العراقيون عن تلك الفترة صور قتل وحشية مورست في المدن وأمام الناس بحق متهمين ومتهمات بإحدى التهم الأربع، حيث كانت تُقطع رؤوسهم بالسيف من قبل ميليشيا «فدائيي صدام» التي كان يموّلها ويشرف عليها أبنه عدي.
ديمقراطية الانفلات
بعد سقوط نظام صدام حسين واحتلال العراق من قبل القوات الأميركية في نيسان/أبريل عام 2003، عمّت الفوضى وتخلخلت مفاهيم كانت راسخة على مدى أكثر من خمسة عقود دون أن تحل محلها مفاهيم بديلة، بل حلَّت آراء ووجهات نظر متناقضة، جميعها وليدة لحظات الانفلات وغياب الدولة بكل مفاصلها. وأصبحت الديمقراطية التي بشرّت بها الدبابات عبارة عن تجرد من أيِّ قيد. كما أضافت تصريحات بعض السياسيين للدفاع عن حقوق مثليي الجنس (كما فعل كنعان مكية مؤلف كتاب «جمهورية الخوف») زخماً نفسياً عند هذه الفئة التي راحت تتجمع أمام الملأ وتجاهر بميولها الجنسية المثلية، الأمر الذي أثار حفيظة التيارات الإسلامية التي سارعت إلى التنسيق مع العشائر لشنِّ حملات منظمة. وسهّل هذا التنسيق مهمة الانقضاض على هؤلاء، إضافة إلى الفخاخ التي تنصب لهم على شبكات التواصل الاجتماعي على الانترنت.
فخاخ الكترونية
في عام 2009 وثَّقت منظمة هيومن رايتس ووتش، واللجنة العالمية لحقوق الإنسان للمثليين والمثليات، ومنظمة العفو الدولية، نمطاً من التعذيب والقتل على يد ميليشيات عراقية ضد رجال يُشتبه في سلوكهم المثلي أو أنهم لا يتمتعون بـ «الرجولة» الكافية. واتهمت المنظَّمات الثلاث السلطات العراقية بأنها لم تفعل شيئاً لوقف عمليات القتل. ووصف تقرير للمنظمات الثلاث، العراقيين والعراقيات الذين توجد تصورات حول أنهم مثليون أو مثليات أو متحولو الجنس بأنهم يعيشون في خوف بسبب الأعمال الوحشيَّة المرتكبة ضدهم، حيث قام العديد منهم بالاختباء.
صحيفة الأوبزيرفر البريطانية نشرت في تغطية لمراسلها في بغداد مطلع حزيران/ يونيو 2009، تفاصيل عن كيفية استخدام الجماعات الإسلامية المسلَّحة في العراق الانترنت لملاحقة وتعذيب وقتل عراقيين مثليين. تقول الصحيفة أن أحد أعضاء هذه الجماعات، وعمره 22 عاماًَ، يقضي ساعات أمام الكومبيوتر المحمول بحثاً في الانترنت ليس عن أصدقاء، بل عن ضحايا جدد. وتنقل الصحيفة عنه قوله «إنها أسهل طريقة لملاحقة واصطياد هؤلاء الذين يدمرون الإسلام، والذي يريدون تلطيخ سمعتنا التي بنيناها عبر قرون من الزمن». وتنفرد الصحيفة بنقل تصريحات عن مسؤول لواحدة من هذه الجماعات، ومقرها بغداد، يقول فيها إن «الحيوانات تستحق الشفقة أكثر من هؤلاء القذرين الذين يمارسون أفعالاً جنسية فاحشة، ونحن نعمل على جعلهم يتوبون ويطلبون المغفرة من الله قبل أن يقتلوا».
مذكرة مكتوبة بدم.. البارد
تغيب الإحصائيات، إلا أن رئيس «جماعة المثليين جنسياً في العراق» ومقرها لندن، يؤكد أنه بين العامين 2004 و2009 تم قتل 680 شخصاً بتهمة الشذوذ، وأن الأرقام في تصاعد واضح، «حيث قتل ما لا يقل عن 70 شخصاً في النصف الأوَّل من 2009، منهم سبع من السيدات». لكن تقارير منظمات حقوق الإنسان تقول إن الأعداد أكبر بكثير مما هو معلن، إذ يُعتقد أنه لا يتم الإبلاغ عن الرجال المتزوجين. وفي شهادة لأحد العراقيين لهيومن رايتس ووتش، يقول أنه وجد مذكرة على باب بيته ملطخة بالدماء، «تخبرني أين يمكن أن أجد جسد ابني وذهبت وأمه» ليجدا جثة الأبن وآثار التعذيب واضحة عليها، وقد تم استئصال أعضائه التناسلية.
ولم تحظَ الحملة بردود فعل تنسجم مع حجمها، كما أن المنظمات الدولية اكتفت حينها بمطالبة السلطات العراقية بحماية «هذه الفئة واحترام خياراتها». ولعل الصوت الأقوى كان صوت منظَّمة الدفاع عن العلمانية والحقوق المدنية في العراق التي استنكرت في بيان لها مطلع أيار/مايو 2009 «هذه الجرائم الوحشية» وطالبت بتقديم فاعليها والمروجين لها من رجال الدين والملالي والمشايخ ورؤساء العشائر والميليشيات الإسلامية للمحاسبة القضائية كمشاركين في الجريمة.
أيمو.. أيمو
في عام 2012، شنت حملة على شبَّان في مناطق شعبيَّة راحوا يُقتلون تحت ذريعة أنَّهم ينتمون إلى «الأيمو». اللباس الأسود، وتسريحة الشعر الفوضوية هويتان كفيلتان بموت حاملهما. صالونات الحلاّقة شهدت زحاماً هائلاً لنزع تسريحة الشعر/التهمة. وفي مدينة الصدر، كانت القوائم بأسماء من لقبوا بـ«الجراوي» تتناسل على الحيطان. وقد أعادت تلك الحوادث وما رافقها من شائعات الصراع بين المنادين بالدولة المدنية والمنادين بالدولة الدينية إلى السطح، وقسم الشارع العراقي إلى قسمين، منهم من يطالب بتوقيع العقوبات على مرتكبي الجرائم في محاكمات تجري وفق الأصول، منوهين بأن ظاهرة الايمو ليست جرماً يحاسب عليه القانون، ومنهم من يطالب بقتل الايمو علانية باعتبارهم «عبدة شيطان». إلا أن سيادة الأعراف العشائرية التي لها قوَّة المادة القانونية من حيث التطبيق، والتي تنظر إلى هؤلاء الشباب باعتبارهم عارا على العشيرة، قد رجَّح كفة القسم الثاني وكمم أفواه الكثير من السياسيين خوفاً من خسارة أصوات أبناء هذه العشائر، لا سيما وأن انتخابات مجالس المحافظات على الأبواب وانتخابات مجلس النواب تقترب من موعدها في بداية عام 2014.