لم تُوقع عقود بيع للأسلحة هذه المرة. ولكن محادثات بشأنها جرت بعيداً عن الأضواء.. وهي تُجهّز لمرة قادمة. وقد طغى على الجدال بخصوص زيارة الرئيس الفرنسي الى مصر، ما تجرأ على قوله - أو لمْ – بما يتعلق بملف حقوق الانسان في البلاد، وتفحص اللغة الدبلوماسية التي استخدمها ماكرون ومدى ابتعادها عن "اعطاء الدروس". وأما "عدم إعطاء الدروس"، فهي الجملة الشهيرة التي كان الرئيس الفرنسي قد احتمى بها خلال زيارة السيسي الى باريس في تشرين الاول/ اكتوبر 2017 لعدم الرد على اسئلة الصحافيين حول مسألة القمع في مصر.
بدأت الزيارة من بوابة "الحضارة"، في معبد أبو سنبل الذي شارك الفرنسيون منذ 50 عاماً في انقاذه بنقله من مكانه الأصلي الغارق بالمياه. السمة فرنسية جداً على العموم، ولكنها تقع في قلب "الاخراج" أو السيناريو الذي يعتمده ماكرون في رحلاته الى أماكن قصية، إذ زار منطقة "تسي آن" حيث تماثيل الجنود من الطين المفخور قبل وصوله الى العاصمة بكين، وافتتح زيارته للهند بزيارة "تاج محل"، وهكذا..
ولكن ماكرون، وربما من دون انتباه منه أو قصد، أعطى دروساً لكل المصريين خلال لقائه بالسيسي واجابته على أسئلة الصحافيين. قال إن فرنسا تصون حرية التعبير والتفكير والتظاهر، وأن ذلك يخدم ليس فحسب الديمقراطية بل متانة السلطة واستقرارها. تكلم بلهجة مبسطة ومصوّرة يُخيل لمن يسمعها أنها تعليمية، موجهة الى أفهام هؤلاء "البدائيين": "لقد أُوقف أناس خلال تظاهرات السترات الصفراء في فرنسا ليس بسبب آرائهم، ولم يوقفوا بسبب التظاهر بحد ذاته، بل أوقف من كانوا يدمرون، ويهاجمون مواطنين آخرين ومؤسسات"، وهي تبدو كتحديد للمسموح والممنوع. ثم استجمع شجاعته ليقول أمام الرئيس المصري المتشنج خلال هذه اللحظات: "لم تَسر الامور منذ تشرين الاول/ اكتوبر 2017 في الاتجاه الصحيح، وهناك مدونين وصحافيين ونشطاء قد اعتقلوا". هللويا! وعلى الرغم من كل هذا الحذر الفرنسي، فقد رد السيسي بطريقة ساخرة قائلاً "مصر ليست اوروبا ولا امريكا ولا يمكن فرض طريق واحد على المجتمعات، ومصر تقع في منطقة مضطربة"، وهو دفاع فصيح عن "الخصوصية الثقافية" بمواجهة "عالمية" القيم التأسيسية للعصر الحديث، والخصوصية والنسبية هي ما يمقته الفرنسيون فوق كل شيء ويخوضون معاركهم حتى في داخل بلدهم استناداً إليه (ويُرجّح أن السيسي يجهل هذه السمة وأنه احتمى بالحجة للرد!). ثم استطرد السيسي قائلاً: "لن تبنى مصر بواسطة المدوّنين، وإنما بالعمل، بالجهد والمثابرة، ولا نريد ان تتلخص حقوق الانسان في مصر بالمدونين". مفصحاً عن إحدى أبرز سمات الفاشية التي تُمجد العمل على حساب الفكر والحرية.
لكن ما ميز هذه المواقف والتصريحات ليس كل هذا.. بل الكذب!
فماكرون قال ان 11 شخصا فقدوا حياتهم خلال تظاهرات السترات الصفراء في فرنسا "بسبب الغباء البشري"، ولكن "أحداً منهم لم يسقط ضحية قوى الامن" التي حيّا "مهنيتها" في السياق. وإذا كان الرقم صحيحاً، فهو يشمل على سبيل المثال شخصاً أصيب بنوبة قلبية خلال سيره في التظاهرة، وهذا من فِعل القدر وليس غباء البشر، أو سيدة مسنة في مرسيليا اصابتها شظية من قنبلة مسيلة للدموع داخل شقتها، وهذا من فِعل قوات الشرطة وليس الغباء البشري، وآخرين وقعوا ضحايا حوادث سير الخ.. وهو سكَت بالطبع عن كل المصابين إصابات بالغة، كمن فقد عينه أو جزءاً من دماغه أو بترت يده.. الى آخر ذلك من الاصابات الكبيرة والمسببة لاعاقات دائمة، بفضل "قنابل GLI-F4" التي يُفترض انها مسيلة للدموع ولكنها معدلة لتقتل، أو طلقات "فلاش بول" وسواهما مما تحويه الترسانة التي استخدمتها قوات الأمن "المهنية" لتفريق متظاهرين سلميين - وفرنسا هي البلد الاوروبي الوحيد الذي يجيز استخدام هذه القنابل في السيطرة على التظاهرات - ما أثار حملة شعبية كبيرة لحظر استخدام أسلحة قمعية بعينها، ستصل الى البرلمان الفرنسي والى مفوضية حقوق الانسان الاوروبية، وستؤتي ثمارها كما هو متوقع.. ولكن لا قلق ولا بأس، فتلك الاسلحة الفتاكة لن تَكسد حينها، وستباع الى بلدان تحتاجها، ومنها مصر.
وأما إعطاء رقم مرتفع بهذا الشكل فقد يبرر للسيسي ضحاياه في قمع التظاهرات. فلو هم 11 شخصاً في فرنسا "المتحضرة"، فلا بأس أن يكونوا الفاً في مصر أو أكثر، من رابعة وقبلها ماسبيرو وبعدهما الاختفاءات القسرية والجثث الملقاة على قارعة الطريق.. هم 66 ألف معتقل سياسي، من بينهم شخصيات سياسية (ومرشحين سابقين للرئاسة) وقضاة وفنانين وباحثين وصحافيين، يساريين كما ديمقراطيين كما اسلاميين كما بلا انتماءات فكرية، وليس فحسب بضعة مدونين يستخفّ بهم السيسي. هذا عدا أحكام الاعدام وهي عدة مئات، نفذ منها ما يقارب المئة حتى الآن.
ومصر مصنفة في المرتبة 161 من أصل 180 بلداً بحسب منظمة "مراسلون بلا حدود" في مجال حرية التعبير، بعدما حجبت السلطات (من دون ان تتحمل مسئولية الخطوة) أكثر من 500 موقع واصدرت تباعاً قوانين تخص الإعلام وأخرى تخص "الجرائم السيبرنية"، والمرسوم رقم 1238 الصادر في تموز/ يوليو الماضي الذي "يؤطر" الاعمال الفنية.. وهي كلها تجعل من المستحيل على أي كان، موقعاً أو باحثاً أو مغنياً وحتى فرداً على فيسبوك أن ينبث ببنت شفة.
وأما الكذب فشمل ما يتعدى ذلك. وكمثال، قال ماكرون انهم يدققون كثيراً في كيفية استخدام الاسلحة التي يبيعونها (وهناك على اية حال اتفاقات دولية بالشأن وإن كان لا يطبقها أحد، ولكن فرنسا تدعي الالتزام بها)، وانه استخدمت مصفحة فرنسية واحدة في قمع تظاهرة عام 2013.. وانه جرى تقديم اعتراض فرنسي رسمي حول الشأن.. ما كذّبه الرئيس السيسي مباشرة (الاعتراض الفرنسي). وأما مجمل القصة فتكذبها الوقائع قبل 2013 وبعدها وحتى الآن، وكذلك تقرير واسع لهيئة "العفو الدولية" يوثق للاستخدامات الدائمة لمصفحات وأسلحة اخرى فتاكة.. ولكن، وكما قال ماكرون نفسه أيضاً وأيضاً، فلن تترك مصر لتصبح لقمة سائغة في فم الصين وروسيا، والبزنس هو البزنس، والمنافسة حامية الوطيس.
وفي سياق الكذب كذلك، معطوفاً على التعالي الفرنسي - الذي اتخذ في الفترة السابقة من مسألة "تمدين" الاسلام مطية له، علاوة على تفسير منحرف للعلمانية - فقد حيا ماكرون خلال زيارته وصلاته في كاتدرائية القديس مرقص (اين العلمانية يا قوم؟) الأقباط ضحايا "البربرية الارهابية"، ووعد بمؤتمر قريب حول "مسيحيي الشرق".. وهو موقف يستعيد المقاربة الكارثية لهذا الملف الهام.. ما قد يكون رد عليه بابا الاقباط بالتاكيد على أهمية بقاء مصر بلد متعدد الديانات. والرئيس الفرنسي نسي في السياق الاشارة ولو بكلمة الى أن ضحايا البربرية الارهابية هم من كل الطوائف والمذاهب والاديان وليسوا حصراً من المسيحيين.
حسناً. قيل إن الزيارة هذه المرة لا تشمل صفقات سلاح. ولكن هناك مفاوضات سرية لاستكمال ما وُقِّع على بيعه في سابقتها الشهيرة قبل عام ونيف (ووصفته الصحافة الفرنسية وقتها بالعقود "الفرعونية"، وهو تعبير يستخدم للاشارة الى الضخامة الكبيرة). اليوم يجري تفاوض على 24 طائرة رافال جديدة، و30 طائرة بدون طيار من نوع باترولر، وطرّادان من نوع "غو ويند".. ومصر هي زبون فرنسا الأول في مجال بيع الاسلحة، وبفضل مشترياتها إرتفع تصنيف باريس الى الثالث عالمياً في تصديرها. وهي تصدِّر الى مصر (وسواها) اسلحة تستخدم في قمع المظاهرات حصراً (ما يسمى "السيطرة على الجموع")، وأخرى للتنصت والمراقبة. ومن الكذب (أيضاً وأيضاً) القول انها مخصصة فحسب لمحاربة الارهاب.. الذي لم يتراجع بالمناسبة بل يسجل فقط مقتل العديدين بحجته. وهناك شركات تصنيع سلاح فرنسية باتت معلومة وملاحَقة من قبل الهيئات الحقوقية المختصة بالشأن، منها "نكسا تكنولوجي" و"تالس"، و"سفران" الخ..
هل مصر بلد فقير حقاً؟
25-10-2018
العقود الموقعة هذه المرة وهي حوالي ثلاثين عقداً، قيمتها مليار يورو. ويمكن التساؤل حول مرتبتها في سلم اولويات شؤون مصر التي يجوع بالمعنى الحرفي نصف سكانها (وهم تجاوزوا 90 مليوناً) بينما بالكاد يتدبر أمره النصف الآخر، إلا قلة يتمتعون بنعمة السلطة ويسبِّحون بحمدها وسيسكنون إن شاء الله في العاصمة الادارية الجديدة، بعيدا عن "قرف" القاهرة وإزدحامها وضجيجها الخ!!
العقود التجارية تخص (هذه المرة) تأهيل مترو القاهرة وتوسعته، وتأهيل وتوسعة المتحف الوطني، وبناء تلك العاصمة الادارية العتيدة.. وقد رافق مكرون في الزيارة مدراء شركات كبرى، خاصة او حكومية، كـ"فيوليا" و"فينسي" و"سكك الحديد" و"المترو"، ما مجموعه خمسون شركة فرنسية. وللتذكير، فقد اقترضت الحكومة المصرية 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي خلال السنوات القليلة الماضية (ما قصده ربما وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير خلال زيارته التمهيدية للرئيس ماكرون قبل أيام من موعدها، بـ"الشجاعة التي اتسم بها السيسي" وحياه عليها!). فلو قمنا بعملية حسابية تسقط من القرض "المصاريف" الحكومية، فهو بالكاد يكفي لإرضاء السلطات الفرنسية وسداد العقود معها.