التعليم في العراق: الجامعات بين العمامة والطربوش

ظاهرة جديدة وجدت امتدادها، وتفاقمت أعدادها في مجال امتحانات الثانوية العامة (البكالوريا)، وهي ظاهرة اقتحام «ديوان الوقف الشيعي» للمنظومة التعليمية، حيث فتح «الوقف» الباب مشرّعاً لإجراء الامتحانات النهائية لمرحلتي المتوسطة والثانوية للطلبة غير المنتظمين في المدارس، بمنهاجه وبمباركة من المؤسسات التعليمية العليا.
2013-09-18

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
(من الانترنت)

منذ أن دخلت المدرسة العراقية بمنافسة حقيقية وجادة مع الكتاتيب التي كانت تحتكر تعليم الأولاد تحفيظ القرآن والقراءة والكتابة في عشرينيات القرن الماضي، ولدت من رحم هذه المدارس طبقة من المتعلمين، شكلوا فيما بعد نخبة تمكنت من منافسة الموظفين العثمانيين والمتعثمنين الذين كانوا يهيمنون على وظائف الدولة، وليكوّنوا فيما بعد نواة لقادة السلطة العراقية وأحزاب المعارضة (العام 1908 تأسست كلية الحقوق). بتعبير أدق، كانوا نواة طبقة وسطى تمكنت من تحريك الساحتين الثقافية والاجتماعية.

وشهدت المدارس الثانوية والجامعات إنشاء اتحادات ومنظمات تمثل مصالحها بوجه السلطات، كـ«اتحاد الطلبة العام» المرتبط بالحركات اليسارية (تأسس العام 1948)، و«الاتحاد الوطني لطلبة العراق» الذي مثل توجهاً قومياً عربياً للطلبة (تأسس 1961). وقد لعب الطلبة العراقيون دوراً محورياً في الحراك السياسي في العهد الجمهوري، حيث كانوا عماد خلخلة النظام الملكي عبر تظاهراتهم الكبيرة وتعبئتهم الجماهيرية، مما مهد لانبثاق ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 التي أطاحت بالحكم الملكي، وجاءت بعبدالكريم قاسم. لكن الأنظمة التي توالت على الحكم في العهد الجمهوري انتبهت الى اهمية وتأثير الحراك الطلابي في المجتمع، مما جعلها تضع النشاط الطلابي تحت مجهر أجهزتها الأمنية التي استخدمت اسلوباً قمعياً شديد العنف في إجهاض اي تحرك لهذه الشريحة الشبابية الواسعة، توج في سبعينيات القرن الماضي، إبان حكم حزب البعث في العراق، باحتواء الحركة الطلابية ضمن «الاتحاد الوطني لطلبة العراق» الذي أصبح أداة من أدوات النظام لفرض رقابة صارمة على تحركات الطلبة، بل وفرض عليهم الانضمام الى صفوفه كضمان لانسيابية علاقتهم بالمدارس والجامعات.

بداية الإفساد

وقد شهدت تلك الحقبة اولى الخطوات الجادة والخطيرة لإفساد التعليم في العراق عبر حرفه عن اهدافه، وتوظيفه لتفريخ الملايين من الشباب الموالين للسلطة و«القائد الضرورة»، من خلال زجّهم في تنظيمات أعدت لهذا الغرض، تبدأ من التعليم الابتدائي، حيث يدرج التلاميذ الصغار بما يُسمى «منظمة الطلائع»، ثم تلاميذ المدارس المتوسطة الذين يدرجون بما كان يُسمى «منظمات الفتوة»، وصولاً الى طلبة المدارس الثانوية والجامعات الذين فرض عليهم الانخراط في منظمات ما يسمى بـ«الجيش الشعبي». وكان المنتمون لهذه المنظمات يقحمون في دورات للتدريب على السلاح. لكن أخطر ما في هذا الأمر هو ان الانخراط في هذه التنظيمات يُعدّ في الغالب سبباً في نجاح الطلبة في دراستهم بغض النظر عن نتائجهم الفعلية في الامتحانات، الأمر الذي أدّى الى تدني المستوى التعليمي في العراق، برزت في تدني مستوى خريجي الجامعات في مختلف الاختصاصات. هذا بالرغم من أن المنظمات الدولية، ومن بينها اليونسكو، أشارت في مرحلتي الثمانينيات والتسعينيات إلى أن التعليم في العراق تساوى مع الدول المتقدّمة لجهة انتهاء الأمية، والالتحاق بالمدارس والجامعات، إلا أن مستوى التدريس في الجامعات إبان تلك الفترة كان ينحدر. وقد شهدت الثمانينيات والتسعينيات على وجه الخصوص تراجعاً في التعليم العالي، وانتشرت بالتوازي رسائل ماجستير ودكتوراه تمجد خطب وأفعال القائد، مثل «ترجمة التعابير البلاغية في أحاديث السيد الرئيس» و«الفكر القيادي للأستاذ عدي صدام حسين»، وما شاكلها، الأمر الذي صدّر طبقة أكاديميين جدد... دخلوا إلى المؤسسة التعليمية بامتياز تزلفهم.

مأسسة الفوضى

بعد احتلال العراق والإطاحة بنظام صدام حسين من القوات الاميركية في نيسان/ ابريل العام 2003، عمت الفوضى مختلف مناحي الحياة. وكان لا بد لهذه الفوضى ان تشمل التعليم، حيث سلبت المؤسسات التربوية 80 في المئة من مستلزماتها التعليمية، اضافة الى نهب المكتبات العامة والكليات وتعرّضها للحرق، كما قتل نحو 280 أكاديمياً عراقياً خلال الاربع سنوات الاولى من الغزو الاميركي على ايدي المسلحين والميليشيات، أو بشكل غامض أحياناً، وتم أيضاً شمول أساتذة عديدين في نظام «اجتثاث البعث». وقد أدى كل ذلك إلى تجفيف الجامعات من بعض خبراتها، بحسب اليونسكو.

كما انتشرت ظاهرة الشهادات المزورة على أعلى المستويات، حيث كشف تقرير لهيئة النزاهة العراقية العام الماضي عن أكثر من 30 الف شهادة دراسية مزورة في جميع مؤسسات الدولة العراقية، وان هناك اكثر من 2000 مسؤول عراقي كبير ممن هم بدرجة نائب في البرلمان أو ممن هم وكلاء وزراء أو مدراء عامون أو اعضاء مجالس المحافظات، زوروا شهاداتهم بينما كانوا يتمتعون بمناصبهم الحالية. لكن الخطر الكامن في هذه الظاهرة أن بعضاً من حاملي الشهادات المزورة انتظموا في السلك التعليمي في المدارس الثانوية والجامعات، يساعدهم في ذلك تواطؤ موظفين كبار في وزارتي التربية والتعليم العالي، خصوصاً دوائرهما المعنية بتصديق ومعادلة الشهادات، تحت ولاء انتمائهم لكتل واحزاب تتصدر المشهد في «العملية السياسية»، الى حد أن وزارة التعليم العالي أصدرت قراراً العام 2011، يعد الأغرب في الاوساط التعليمية العالمية، تقبل بموجبه الشهادات العليا التي حصل عليها عراقيون من الجامعات الايرانية قبل حصولهم على شهادة الثانوية العامة.

امتحانات «دينية».. للربح

وإذ تعتبر الامتحانات الثانوية العامة («البكالوريا») المعيار العلمي للانتقال من مرحلة تعليمية الى اخرى، مثل دول كثيرة في العالم، فإن معدل درجات النجاح في نهاية الدراسة الثانوية يعد المعيار الاوحد للقبول في الكليات، باستثناء كليات الاعلام والفنون الجميلة والتربية الرياضية، حيث يكون اختبار الموهبة والكفاءة عاملاً مساعداً في القبول. ونتيجة استشراء ظاهرة الفساد في مفاصل الدولة العراقية، فقد ولدت هذا العام ظاهرتان غريبتان سيكون لهما تأثيرهما الخطير في المستقبل المنظور. الظاهرة الأولى هي تسريب وبيع أسئلة الامتحانات العامة التي وصل سعر بعض موادها الى ألفي دولار، مما أثّر في المستوى العلمي لجهة الاستحقاق في الاختصاص، وأثر نفسياً الى حد كبير على المتقدّمين علمياً في هذه المرحلة التعليمية المفصلية، إذ جاءت النتائج على عكس سير المستوى العلمي والخط البياني لمستوى الطلبة. فقد كان من الطبيعي أن يكون معدل درجات طالب غير مجتهد من أسرة متمكنة مادياً، اشترت اسئلة الامتحانات العامة، أعلى بكثير من معدل طالب مجدّ ومجتهد اعتمد كلية على جهوده العلمية. وفي هذه الحالة، فإن تخصّصات مهمة في مجالات الطب والهندسة أصبحت من نصيب طالب لا يمتلك حظاً وافراً من الذكاء والاجتهاد والمثابرة، على حساب طالب آخر سيكون كفؤاَ في مجال اختصاصه. وهؤلاء الطلبة الذين قفزوا فوق امكانياتهم العلمية والذهنية، واعتادوا السهولة، سيصبحون في المستقبل، وعلى الأرجح، مفخخات دائمة التفجير ومعوقات حقيقية بوجه تطور المؤسسات التي يعملون بها.

إلا أن ظاهرة أخرى وجدت امتدادها، وتفاقمت أعدادها هذا العام في مجال امتحانات الثانوية العامة (البكالوريا)، وهي ظاهرة اقتحام «ديوان الوقف الشيعي» للمنظومة التعليمية، حيث فتح «الوقف» الباب مشرّعاً لإجراء الامتحانات النهائية لمرحلتي المتوسطة والثانوية للطلبة غير المنتظمين في المدارس، بمنهاجه وبمباركة من المؤسسات التعليمية العليا.

وقد تقدّم للامتحانات هذا العام 100 ألف منهم، من الذكور والإناث. ووفق المتداول عن هذه الامتحانات، فإن الغش يجري فيها من دون رادع، ما يعني أن نسبة النجاح فيها عالية جداً. لكن أين سيذهب هؤلاء بعد التخرج؟
لدى «ديوان الوقف الشيعي» جامعة ربحية وهي «جامعة الإمام الكاظم»، وسيندرج معظم هؤلاء فيها، بالإضافة إلى جامعات إسلامية أخرى مثل «جامعة الإمام الصادق»، فضلاً عن أولئك الذين يحاولون الحصول على وظيفة حكومية لكن شهادتهم لا تؤهلهم، ما يعني دخولهم في جميع المؤسسات عبر مناهج أغلبها إسلامية، حيث يتكون المنهاج الذي يُمتحنون بموجبه من دروس دينية وتاريخية. ولا يعتمد الوقف إلا على مادتي اللغتين الانكليزية والعربية المعتمدتين لدى وزارة التربية في الامتحانات. وتدرّ هذه الامتحانات أرباحاً جيدة على الوقف من خلال اكتساب جيش من الطلاب الذين سينتمون إلى الجامعات الاسلامية، دون مراعاة ما يسببه من فوضى داخل المنظومة التعليمية.

دراسة لا تراعي سوق العمل

يتم قبول الطلاب في الجامعات العراقية وفق آلية «مركزية»، حيث يقوم الطالب الراغب بالالتحاق بالجامعة بتقديم ملف الانتساب إلى وزارة التعليم العالي. وتقوم الوزارة باختيار الجامعة للطالب وفق تقييم العلامات المدرسية ونتائج اختبار الدخول. وترى منظمة اليونسكو أن «الوزارة تفتقد إلى إجراءات ومعايير حديثة لضبط جودة القبول ومخرجاتها، فضلاً عن افتقارها لتقديم خدمات الدعم التربوي المتمثلة بالإرشاد والتوجيه». كما تلاحظ أن الوزارة «تعيد ترتيب المجتمع العراقي وإنتاج النخبة فيه على اساس التميز الاجتماعي والجنسي»، وفق القبول بالشكل المركزي الذي تقوم به.

وبحسب اليونسكو، فإن وزارة التعليم العالي تعاني من التشتت، حيث إنها لا تراعي متطلبات سوق العمل في العراق من خلال الآلية التي تعتمدها في قبول الطلاب في الجامعات، فضلاً عن عدم وجود خطّة استراتيجية لهذا الغرض. وسيعني هذا من بين ما يعنيه، أن آلاف الشباب الذين تخرجهم سنوياً الجامعات العراقية، الرسمية والاهلية، هم مزودون بالعلم ومجردون من حلم الاندماج في مجتمع إنتاجي مثمر. ولن يجد هؤلاء أمامهم سوى خوض حرب الفرص المتاحة للتعيين في المؤسسات الحكومية، في ظل شلل كامل تعانيه مؤسسات وشركات القطاع الخاص نتيجة فوضى الاستيراد التي تعمّ البلد، يرافقها غياب كامل لدور الدولة في تشجيع القطاع الخاص وحمايته من استيراد مثل تلك المواد والسلع.

وتفرض حرب التعيينات التي يخوضها الشباب من خريجي الجامعات العراقية المرور من أحد طريقين: طريق الأحزاب التي تفرض عليهم الانتماء الى صفوفها وتقديم الدعم الذي تحتاجه من خلال الموقع الوظيفي للمتعيِّن، أو الخوض في طريق بورصة التعيينات الحكومية، وهي كأي بورصة متعارف عليها، تصعد خطوطها البيانية في السعر الواجب دفعه وتنخفض تبعاً لعدد الوظائف الشاغرة وتبعاً للوزارة أو المؤسسة التي يروم المتخرج التقدم الى وظائفها. وفي كل الاحوال، فان الثمن المدفوع من قبل المتخرج للحصول على الوظيفة لا يقل عن ثلاثة آلاف دولار، ويصل في حال التعيين في الدوائر المتميزة برواتبها ومخصصاتها الى ستة آلاف دولار. أما المتخرجون غير القادرين على الخوض في أحد هذين الطريقين، فإنهم يجدون انفسهم مضطرين لممارسة اعمال لا تمت بصلة لتخصصهم الدراسي، كعمل سائقي سيارات أجرة، أو باعة متجولين يعرضون بضاعتهم على أرصفة الشوارع المزدحمة في المدن العراقية.

فوضى التعليم هذه ستساهم الى حد كبير في إدامة ملامح «الدولة الفاشلة» التي قد يخرج منها العراق، سياسياً، خلال السنوات المقبلة... لكنها قد تمتد لسنوات أبعد في مجال التعليم الذي يُعدّ الاداة الاكثر فاعلية في تنفيذ خطط التنمية في مختلف مجالاتها.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...