في العراق، ليس ثمَّة فارق بين التهديد بالرصاصة أو التهديد بالكلمة. فقد أدى التهديد بالرصاصة إلى هجرة جماعية من المناطق التي تقطنها طوائف متنوعة في العام 2006 وما تلاه، بينما التهديد بالكلمة لم يكن مفعوله أقلّ. فالرسالة التي كانت تدسها الميليشيات آنذاك تحت أبواب المنازل كان لها فعل تهديد الرصاصة ذاته، وقد أدت إلى نتيجة التهجير ذاتها. وإثر هذا تهجَّر أكثر من ثلاثة ملايين عراقي في تلك الفترة، وفق إحصائيات غير رسمية.
إلا ان الأعوام التي تلت العام 2009، والتي شهدت «صولات» قام بها الجيش العراقي بأوامر مباشرة وإشراف رئيس مجلس الوزراء العراقي نوري المالكي على الميليشيات في محافظات الجنوب، وبمساعدة «الصحوات» التي تشكلت بدعم أميركي، وبمشهد أثار السخرية آنذاك، حين قدم الرئيس الأميركي جورج بوش في زيارة لصحراء محافظة الانبار العام 2007، ليلتقي زعيم «الصحوات» ستار ابو ريشة، ضارباً عرض الحائط بحكومتي بغداد وإقليم كردستان، تلك (الصولات) أعادت إلى العراق الأمن النسبي الذي كان مفقوداً.
لمن عاد الأمن؟
الأمن للأغلبية السنية والشيعية التي عانت من تحشيد أحزابها ومن تدخلات إقليمية، ومن صراخ الجوامع والحسينيات الداعية إلى إشعال نار الحرب الطائفية أكثر. لكن بمقابل هذا ظلَّت الأقليات الأخرى تعاني تهديداً محدّقاً، وخوفاً تحوَّل إلى روايات وأفلام وثائقية ودراسات تفتح شهية مراكز البحوث والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، ومصيراً مجهولاً سيخلِّف تهجير أكثر من ثلثي المسيحيين، و92 في المئة من الصابئة المندائيين و30 في المئة من الايزيديين، بحسب الجمعية العراقية لحقوق الإنسان.
هذه الأقليات لم يكن هاجسها الوحيد هو التهديد الأمني، بل أصبح التهديد الاقتصادي، وغياب التمثيل في الحكومة العراقية، وصعوبة الحصول على وظائف في المؤسسات الرسمية، فضلاً عن صعوبة ممارسة الشعائر الدينية، ودخولها في أوار العراك على الأرض، (كما حالة الايزيدية شمالي العراق الذين يعانون من تهديدات العرب والكرد على حدّ سواء). وهو ما دفع العدد الكبير من هؤلاء إلى الهجرة خارج العراق، إلى دول عربيَّة ينتظرون فيها الحصول على اللجوء في الدول الأوروبية أو أميركا.
بمقابل هذا، بقيت الأحزاب العراقية المتخاصمة على الحكم مشغولة بصراعاتها، متناسية أزمة الأقليّات. والأمر الذي زاد من طين الأزمة بلة ،هو تشكيل الحكومة وفق المحاصصة الطائفية في العام 2010، ما جعل الخطوط البيانية للخطر لدى الأقليات في تصاعد مستمر، الأمر الذي دفع المجتمع الدولي إلى إبداء تحذيراته (المنافقة، لأن الدول الغربية تسهل هجرة هؤلاء وتشجع عليها) من «انقراض» الأقليات في العراق، خاصة بعد حادث اقتحام كنيسة «سيدة النجاة» في العام ذاته من قبل مجموعة مسلحة ما أدى إلى مقتل أكثر من 50 شخصاً وإصابة 70 آخرين بجروح.
احصاءات القتل والاعتداء
وقد فتحت حادثة كنيسة «سيدة النجاة» وسط بغداد الباب مشرّعاً أمام هجرة جماعية للمسيحيين على وجه الخصوص، وفتح أيضاً باب التساؤل: من الذي يستهدف هؤلاء؟ ومن يجب أن يحميهم؟ بخصوص الحماية، قامت الحكومة العراقية وقتها بإصدار أمر بزيادة حماية الكنائس بالكتل الكونكريتية كما فعلت مع الجوامع والحسينيات من قبل. أما «الذي يستهدفهم»، فقد ظلَّ الأمر طي الكتمان، على الرغم من اعتراف الحكومة، لأكثر من مرة، بإلقاء القبض على عصابات «مختصة» باستهداف الأقليات، وكان آخرها نهاية الشهر المنصرم.
وتؤكد تقارير واستطلاعات رأي مختصة بحقوق الأقليات قامت بها مؤسسات معنية، منها مؤسسة «حمورابي» في بغداد، أن وضع الأقليات تحسن في العامين الأخيرين، لكن المجموعة الدولية لحقوق الأقليات عادت لتصنف العراق كرابع بلد في سلسلة البلدان الأكثر خطورة على الأقليات في العام 2012، وهذا ما يعطي دليلاً على أن الهجمات على هذه المكونات شهدت وتيرة أقل، لكنها لم ترفع عنهم حالة الرعب.
وتبدو أرقام القتلى التي جمعتها «الجمعية العراقية لحقوق الإنسان»، مرعبة للأقليات، حيث قتل من المسيحيين العراقيين 1026 قتيلا منذ عام 2003 لغاية شهر كانون الأول/ديسمبر من عام 2012 ، وهي نسبة هائلة قياسا بعددهم، وبلغ عدد الاعتداءات على الكنائس والأديرة والمزارات 93 اعتداءً، وهناك 1536 اعتداءً وتجاوزاً على الافراد وممتلكاتهم. أما الأيزيديون فقد قتل منهم 855 شخصاً، وقتل 167شخصاً من الصابئة المندائيين، ووقع عليهم 298 اعتداء، وقتل من الشبك 648 شخصاً.
وبحسب بحث قامت به مؤسسة (MRG) المعنية بحقوق الأقليات، فإن الخطر الداهم يتركز على الأقليات في المناطق المتنازع عليها (كركوك وديالى ونينوى)، حيث يعانون ضغطاً من قبل الحكومة المركزية وإقليم كردستان، بسبب خلافاتهما بشأن عائدية الأراضي إلى الطرفين.
واعتداء من نوع آخر
المسرح الوطني، وسط بغداد في منطقة الكرادة، مثال رعب جديد للأقليات، رعب رسمي هذه المرة. إذ ثمة لافتة ضوئية تتصدر بناية المسرح، تضيء كل دقيقة إعلاناً لبغداد عاصمة الثقافة العربية يقول: «بغداد.. عربية الوجه.. إسلامية القلب.. إنسانية الروح». المنطقة ذات الكثافة السكانية المسيحية في تسعينيات القرن الماضي مهددة الآن بشعارات الحكومات العراقية الجديدة التي تسير وفق خطٍّ واحد، مهما تعددت مراجعه، وهو الإسلام.
شعار وزارة الثقافة التي افتتحت مشروع «بغداد عاصمة الثقافة العربية» يوم 23 آذار/مارس، لم يضع في حسبانه كل التهديدات التي تحيط بالأقليات المسيحية، ولم ينظر الى التقارير التي صدرت مؤخراً بشأن هجرة الأقليات، من المسيحيين والصابئة على وجه الخصوص. كان كل ما عليه فعله إثبات أن الغلبة للأغلبية!
ولم يكن شعار بغداد، كما كل شيء في العراق، خاضعاً للمحاصصة الطائفية كما هو تقسيم الوزارة بالأساس، التي يقودها الوزير سعدون الدليمي (السني) ووكيلاه فوزي الأتروشي (الكردي) وطاهر الحمود (الشيعي): هنا، الكل اتفق على سفك دم الأقليات، ولو رمزياً.
وفي عراق ديموقراطية المحاصصة، ثمة من يغيِّب الأقليات العراقية - التي تؤكد المصادر التاريخية أنها سكان البلد الأصليون - في الحقائب الوزارية كما في الوظائف الكبيرة. الشراكة الوطنية والتوافق حكر على المكونات الرئيسة التي رسم ألوانها بول بريمر الحاكم المدني الأميركي للعراق في خارطته الطائفية: الشيعة والسنة والكرد. أما الأقليات، فإنهم محض ديكور مكمل لخارطة بريمر. قد يبدو هذا الأمر في السياسة مقبولاً على مضض إلى حين اندثار قيم الهوية الطائفية والاثنية لحساب الهوية الوطنية الجامعة، حينها سيتساوى الجميع فعلاً في الحقوق والواجبات. لكن أن ينسحب الأمر إلى الثقافة العراقية، ويصبح شعار بغداد عاصمة الثقافة العربية يحوي هذا التمييز الفاضح بين مكونات الشعب العراقي، فتلك طامة كبرى!