الانتحار في العراق: حكايات موت معلن

فجأة خرج جسد من نار ليخترق مساء «منطقة الشعب» (حي شرقي بغداد). كان هذا جسد يحيى الذي ترك خلفه حبيبة لن يقبل بها أهله زوجة له لأنها من طائفة غير طائفته، وحُلمين هما الوظيفة والسكن. إلا أن متطلبات العيش البسيطة هذه أصبحت شبه مستحيلة في عراق اليوم.ركض أصدقاء يحيى الذين كانوا منزوين في الشارع لإخماد الجسد الملتهب، إلا أن روحه التي تبدو أنها ملّت البقاء، سارعت إلى الزوال قبل أن
2013-04-24

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
امرأة عراقية (من الانترنت)

فجأة خرج جسد من نار ليخترق مساء «منطقة الشعب» (حي شرقي بغداد). كان هذا جسد يحيى الذي ترك خلفه حبيبة لن يقبل بها أهله زوجة له لأنها من طائفة غير طائفته، وحُلمين هما الوظيفة والسكن. إلا أن متطلبات العيش البسيطة هذه أصبحت شبه مستحيلة في عراق اليوم.
ركض أصدقاء يحيى الذين كانوا منزوين في الشارع لإخماد الجسد الملتهب، إلا أن روحه التي تبدو أنها ملّت البقاء، سارعت إلى الزوال قبل أن يصل الجسد ملفوفاً ببطانية إلى المستشفى.
قصَّة يحيى ليست نادرة، بل تكاد تكون ظاهرة تتجسد كل يوم في مدينة من مدن العراق. صحيح أن طريقة الانتحار تختلف أحياناً، لكنه يبقى موتاً مختاراً وإرادياً، هرباً من جحيم الإحباط الذي يخيم على حياة الشباب في العراق. وهؤلاء يشكلون نسبة 60 في المئة من المجتمع العراقي، بلغ اليأس منهم كل مبلغ وهو يتصاعد في ظلِّ نسبة بطالة تجاوزت الـ11 في المئة، بحسب إحصائيات مجلس محافظة بغداد، التي تشكك بها منظمات المجتمع المدني قائلة إن النسبة تتضاعف يوماً بعد آخر بسبب مقامرة الحكومة بالمال العام، فضلاً عن نمو حالات الفساد.

الشابات ينتحرن أيضاً

هذا بخصوص الشباب، أما الشابات فإن أغلب حالات انتحارهن تقع بسبب الضغط العشائري والعنف الأسري، حيث كانت ــ بحسب الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام ــ أغلب حالات الانتحار بسبب منع زواج الفتاة من الشاب الذي أحبته، وإجبارها على الزواج من أحد المقربين منها، فضلاً عن إجبارها على ترك الدراسة خشية من اختلاط الفتاة مع الذكور والوقوع في علاقة غرامية، أو بسبب عنف الزوج أو الإخوة!

طبقة تزيد اليأس.. وتنخر العمل

وبسبب النظام البيروقراطي في إدارة الدولة العراقية، فقد تشكلت طبقة البرجوازية الطفيلية التي امتلكت المال بسبب فساد المشاريع الحكومية، لكنها لا تمتلك الثقافة التي تؤهلها لزرع وازع مدني داخل مراكز المدن العراقية، كما أنها راضية بامتلاك المال والعقار الذي هيمنت عليه، ما يجعلها كسولة ولا تغامر بالاشتراك في حركة انتاجية، مكتفية بذلك: بالمشاريع التي ترميها إليها الحكومة بين الفينة والأخرى، وباستيراد البضائع من الدول المجاورة، ما يجعل سوق العمل في ركود مستمر. إنها باختصار نتاج ثقافة الريع. لكن هذه الدوافع ليست الوحيدة، ومنها حالات عدم الاطمئنان بسبب الوضع الأمني الذي تعيشه البلاد. فقد قام أحمد ابن (23) بالانتحار مطلقاً على نفسه الرصاص بعد أن حاول أهله إجباره على الزواج. كان شعوره بخطر ترك طفل يتيم وزوجة أرملة يرعبه، الأمر الذي دفعه إلى تصويب فوهة بندقية إلى أسفل حنكه وإنهاء حياته.

وظائف وسماسرة

الوظائف الحكومية في العراق غالباً ما تخضع لتسعيرة سماسرة مختصين قد تصل أتعابهم إلى مبلغ 5 الآف دولار مقابل التوسط في إيجاد وظيفة حكومية حسب الاختصاص.
جواد الذي أتم دراسته الجامعية كمهندس حاسبات لم يجد عملاً باختصاصه. انتظر طويلاً من دون جدوى، وتحت ضغط الحاجة، تنقّل في أعمال شتى، بسطة على الرصيف، سائق سيارة أجرة، مندوب مبيعات في شركة لبيع الحليب والعصائر. شعر أن معلوماته بدأت تصدأ. كان يتسامر مع أصدقائه في أمسية كالعادة، انفض السمر وذهب السمار إلى بيوتهم التي تكاد أن تشكل مربعاً متقارباً من وسط مدينة الشعلة الواقعة غربي بغداد. لكن فجر اليوم التالي حمل الذهول مع خيوط الشمس الأولى: انتحر جواد بعد أن شنق نفسه بحبل تدلى من المروحة السقفية في غرفته الصغيرة.

وأد حقائق الانتحار في السجلات

تتحفظ وزارة الصحة العراقية على إحصائيات حالات الانتحار. فقد باءت بالفشل محاولاتي لمعرفة الارقام، ولو التقريبية، لهذه الحالات، بعد اتصالي بثلاثة مسؤولين في الوزارة، رفضوا الإدلاء بأي معلومة. ويأتي هذا الكتمان وسط اعتراف رسمي من قبل مجلس النواب بازدياد حالات الانتحار بين الشبان في العراق، حيث حذرت لجنة حقوق الإنسان البرلمانية من «ازدياد حالات الانتحار بين صفوف الشباب والشابات في مختلف انحاء العراق بشكل مخيف ومقلق ولافت للنظر»، مطالبة الحكومة بـ«عدم الاكتفاء بدور المتفرج والإسراع في إقرار قانون العنف الأسري وإجراء مسح شامل لمعالجة هذه الظاهرة».
أما وزارة الصّحة ــ التي تتحفظ على أي إحصائية هي الاخرى ــ فقد وضعت «خطة لبحث ومعالجة ظاهرة الانتحار بين الشباب»، مؤكدة أنها «سجلت أرقاماً متصاعدة في معظم أنحاء العراق». ويشير أحد تقارير الوزارة إلى أن مناطق متفرقة من العراق منها الناصرية والبصرة والكوت والشطرة وتلعفر ودهوك قد شهدت حالات انتحار متكررة لشباب وشابات، لأسباب تتراوح ما بين البطالة والضغوط الاجتماعية والعنف الأُسري. لكن التقرير لم يحدد معالجات لإنهاء الظاهرة أو الحد منها على أقل تقدير.

الانتحار.. لا دين له

الانتحار في العراق لا يفرِّقُ بين قومية أو دين أو مذهب، إذ بلغت حالات الانتحار في قضاء سنجار في محافظة نينوى الذي تقطنه أقليات من الايزيدية والمسيحيين خلال العام الماضي 54 حالة بحسب منظمات محليَّة، فيما كانت عدد الحالات عام 2011 نحو 36 حالة، بحسب مجلس قضاء سنجار.
أما في المحافظات الأخرى، فيبدو الحصول على إحصائية لعدد حالات الانتحار مثل النبش في الرمال. إلا أن ما تنقله الصحف ووكالات الانباء بشكل يومي يعطي دليلاً على تصاعد وتيرة هذه الحالات. فقد نقلت وكالة أنباء واحدة خلال أسبوع واحد منتصف الشهر الماضي خبر انتحار 4 أشخاص مقابل فشل محاولة واحدة: «شرطي يقتل والده وأمه وينتحر داخل منزله شمال الموصل»، و«شاب احرق نفسه جنوب الناصرية»، و«عاطل ينتحر حرقاً احتجاجاً على البطالة في جنوب العراق»، و«انتحار امرأة حرقاً جنوب كركوك»، و«شاب ينحر رقبته جنوب الكوت في محاولة للانتحار».
وخلال العام الماضي أعلن مجلس قضاء الفاو في محافظة البصرة في 17 نيسان/ابريل 2012، انتحار رجل عاطل عن العمل، شنق نفسه داخل بيته، مسجلاً بذلك سابع حالة، بعد أن سبقته ست حالات انتحار خلال العام ذاته.
أما مديرية شرطة محافظة دهوك في إقليم كردستان ذات الأغلبية الكردية الذي يقع في أقصى شمال العراق، فقد أعلنت في 26 شباط / فبراير أن امرأة انتحرت حرقاً غرب المحافظة، وقد سبق هذه 4 حالات انتحار مشابهة.
في المحصلة، قد يأتي الانتحار احتجاجاً على ظرف ما محدد، وقد يأتي نتيجة ضغوط لا يستطيع المنتحر تحملها فيلجأ إلى الهروب منها نحو عالم آخر. وفي العراق، ونتيجة تزايد اليأس والإحباط والبطالة وشظف العيش، فإن ظاهرة الانتحار بين أوساط الشباب تتصاعد بشكل يلاحظه المتابع، وسط عدم اهتمام مؤسسات الدولة بتوثيقها أو بمعالجة اسبابها، فيكتفي المسؤولون بوضع رؤوسهم في الرمال كي لا يروا حجم الظاهرة الذي تقول تقارير إنه لو أعلن لاكتسى ملامح الفضيحة الرسمية. فهل تصح الشائعات التي تقول إنه، لو اعلنت الارقام، لكان العراق في موقع «مميز» من إحصائية منظمة الصحة العالمية، التي تؤكد على حدوث مليون حالة انتحار في العالم كل عام.
            
 

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...