تبدو أسواق بغداد - وخاصَّة تلك التي تبيع اللحوم - وكأنها مشهد رعب مفقود في أفلام هيتشكوك. هناك دائماً قطَّة تنتظر صاحب «بسطة» اللحم أن يغفل عنها لتسرق أحشاء أو قطعة لحمة تسكت بها جوعها. وهناك دائماً رؤوس أغنام، بأحجام متفاوتة، سلخت وصُفّْت بشكل هرمي. وهناك دماء تسيل على الأرصفة. وعلى جنب فراء الخروف وأحشائهِ. الذبح سريع، ولا من يخضع رأس الغنم للفحص كي يعرف إن كان مريضاً. ثمَّة من ينحره، وثمَّة من يأكل لحمه. الثقة هنا ضرورة وليست خياراً لشاري تلك اللحوم. وبحسب وزارة الزراعة، فإن في العراق أكثر من سبعة آلاف مجزرة غير نظامية منتشرة في عموم المحافظات، لا تخضع لأي رقابة صحيَّة، ولا يعرفُ مصدر أغنامها. ويمكنها ببساطة أن تسوق تلك المريضة من بينها، وهو ما يؤكده مدير عام الشركة العامة للبيطرة، الذي قال إن التقرير السنوي الذي أعدّته شركته رصد وجود 7775 مجزرة عشوائية في العراق، هي عبارة عن محال أو أماكن عامة لذبح الأغنام والمواشي، موضحاً أن شركته «غير قادرة على إجراء فحص اللحوم والتأكد من صلاحيتها من الناحية الصحية نظراً للذبح غير القانوني المعتمد».
دم ضائع بين قبائل الوزارات
لا توجد في العراق مرجعية واضحة ومحددة لعمل المجازر. فهناك تعدد أو تشتت بين وزارات الزراعة والبلدية والبيئة والصحة وأمانة العاصمة! وهذه الجهات تتقاذف تهم الإهمال فيما بينها. مدير عام الشركة العامة للبيطرة يقول إن «إنشاء المجازر من مسؤولية وزارة البلديات وأمانة بغداد»، أما وزارة الزراعة التي تشرف على 18 مجزرة لحوم حمراء و64 مجزرة لحوم بيضاء فتقول إن «المجازر في العراق تديرها وزارة البلديات»، أما وزارة البيئة التي يفترض بها محاربة ظاهرة الذبح العشوائي كونها ملوِّثة للبيئة، فإن دورها يقتصر على فحص اللحوم المذبوحة داخل المجازر. وفي شباط/فبراير الفائت، كشفت وزارة الزراعة عن تقديم مشروع قانون لتأسيس مديرية عامة للمجازر بالتعاون مع الوزارات والمؤسسات ذات العلاقة، لكن المشروع لم يُقرّ حتّى الآن.
ليس في بغداد وحدها يحيا الإنسان!
وفوضى المؤسسات لها امتداداتها. ففي محافظة الأنبار مثلاً، ثمة مجزرة يتيمة يمكن تعميم حالتها المزرية على معظم محافظات العراق. بالإمكان أن تطلق على هذه المجزرة توصيف مجزرة لحوم، لكنك قادر أيضاً أن تطلق عليها توصيف مجزرة بشرية. فهي ـ وحسب مديرية بيئة الأنبار- تعاني من عدم وجود معالجة صحيحة للمخلفات السائلة، وعدم فصل المخلفات الصلبة عن السائلة، حيث يُلاحظ امتلاء الأحواض المخصصة لها بالمخلفات الصلبة والتي يجب أن تُعزل وتجمع وتحرق، أو يتم استخدامها كسماد حيواني للزراعة بعد أن تتم معالجتها، كما إن التهوية غير جيدة، ولا توجد مشبكات تمنع دخول الذباب من الأبواب والنوافذ، إضافة إلى وجود الكلاب السائبة والقوارض، ناهيك عن عدم توفر البطاقات الصحية لأغلب العاملين في المجزرة.
مجزرة الأنبار، كما شقيقاتها في المحافظات الأخرى، هي المجزرة الوحيدة التي أنشئت في مركز المدينة منذ العام 1958. وهي الآن عبارة عن بناية متهالكة تضم ملحقات غير نظامية لا تتوفر فيها أبسط الشروط في كل مجال، حتى باتت مصدراً خطراً لنشر الأمراض الوبائية، بالإضافة إلى عدم ملاءمة موقعها لكونها تقع وسط سوق الرمادي.
لحوم «بديلة»
هذه الفوضى، وتقاذف المسؤولية عن سلامة ما يأكله الناس من لحوم حمراء، أتاحت الفرصة لمن أراد للمتاجرة باللحوم البديلة التي تشبه لحوم الأغنام والابقار. فمنهم من قام باستيراد لحوم عجيبة من دول لم تكن على خارطة الاستيراد العراقي، كاللحم الهندي الذي يباع بأقل من ربع سعر اللحوم العراقية (3 دولارات لكيلو اللحم الهندي، بينما سعر كيلو لحم الغنم العراقي 12 دولاراً). وقد أثبتت الفحوص الأخيرة انه غير صالح للاستهلاك البشري، وقامت دائرة الرقابة الصحية بحملة توعية وتحذير من تناوله.
بمقابل هذا، هناك نوع من التجار اختصر الطريق، ولم يكلف نفسه عناء الاستيراد ومعاملاته، فلجأ الى بيع لحوم الحمير وتسويقها بالتواطؤ مع الجزارين واصحاب المطاعم، على أنها لحوم أغنام أو أبقار. هذه الجريمة، أصبحت عرفاً قائماً في ظل غياب الرقابة الجادة، وبدلاً من ممارستها في الغرف المغلقة خوفاً من سلطة القانون، باتت تمارس في العلن. فقد أصبح لهذه الجريمة مزاد علنيَّ يعقد في ساحة كبيرة تقع بين منطقة الرحمانية والشيخ علي (غربي بغداد) وبحضور متعهدي بيع اللحوم الذين يربو عددهم عن المئة شخص، يتوزعون بين قصابين وأصحاب معامل صناعة الأغذية المختلفة الجاهزة، وباعة الحيوانات (الحمير).
ويقول مدير عام مديرية مكافحة الجريمة الاقتصادية التابعة لوزارة الداخلية إن الوزارة تقوم بالقبض على كل من يقوم ببيع المواد منتهية الصلاحية وغير الصالحة للاستهلاك البشري، ولكن هناك عمليات تهريب كبيرة تتم عبر المنافذ الحدودية. إثر زيادة الشائعات أو الحقائق عن بيع لحوم الحمير في الأسواق العراقية، وانتشارها، ارتفعت أسعار اللحوم البيضاء (السمك والدجاج). فقد بدأ المواطن العراقي يفكِّر ألف مرة وهو يُقدّم على شرائح اللحم الأحمر.
قانون خلف القضبان
القانون العراقي النافذ يحدد بشكل واضح عمل مجازر اللحوم. فهو يشترط أن «يكون موقع المجزرة بعيداً عن الحدود البلدية للمدن والأقضية والنواحي بمسافة لا تقل عن كيلو متر واحد، ومثل هذه المسافة عن التجمعات السكنية التي تزيد عدد الدور فيها عن 20 داراً مع مراعاة اتجاه الريح السائدة في المنطقة، وأن يبعد الموقع بمسافة لا تقلّ عن 500 متر عن أي مصدر مائي، وذلك لضمان عدم انتقال الحشرات الضارة والناقلة للأمراض، وعدم تلوث المياه بالمخلفات، وتفادي تأثير الروائح الكريهة والغازات الأخرى على الصحة العامة. كما ينبغي أن يكون موقع المجزرة بعيداً عن المعامل التي تصدر عنها روائح كريهة أو غازات سامة، إذ من شأن ذلك أن يؤثِّر على سلامة اللحوم وعدم صلاحيتها من الناحية الصحية للاستهلاك البشري». ولكن أياً من هذه الشروط لم يطبق في مجازر الأرصفة والطرقات العامة التي أصبحت شائعة في بغداد وسواها من المحافظات العراقية. بل إن هذه الشروط أصبحت خلف قضبان الفوضى التي تعم البلد في كل مفاصلها، وإذا ما عنَّ لأحد موظفي الوزارات المسؤولة عن عمل مجازر اللحوم أن يحاول تطبيق هذه التعليمات، فإن حفنة أوراق حمراء ـ وهو لون العملة العراقية الأعلى قيمة ذات الخمس وعشرين ألف دينار ـ يعيد هذا الموظف الى أجواء الواقع الأكثر مرارة: ليس بيدي أن أغير هذا الواقع، وعليّ أن أنحني أمام عاصفة الفوضى.
وفيما يتسلَّم الموظف أوراقه النقدية مقابل صمته، تنتشر حكاية يرويها العراقيون إثر ازدياد ظاهرة بيع لحوم الحمير عن شخص أكل لحم حمار من دون أن يدري، فأصيب بموجة حنين إلى العشب كلّما مرَّ بجانبه!