لُفّ جسد الشاعر بأسلاك شائكة من أجل أن لا يعيث ببغداد فساداً. أمست كأسه فارغة ومثلومة، ولم يعد مسموحاً له، بعد صدور فرمانات الحكام الجدد، ارتياد حانات الكرخ والرصافة. لم يعد يتمكن من المبيت في هذه الحانات لأيام طوال، كما كان يفعل، بعد أن صارت الحانات تُغلق قبل أن يعمّ الليل. الآن، ليس لبغداد خمرها ليكتب الحسن بن هانئ خمرياته.
***
في العام 1987، والحرب العراقية في ذروة شهيتها للموت والدم، بدأت ملامح انسلاخ الدولة عن نهجها العلماني المعلن، وأُطلقت الرصاصة الأولى على جسد «الاشتراكية» المثخنة بجراح الخصخصة وسكاكين البرجوازية الطفيلية التي طعنته في غير موضع. حينها أفتى علي حسن المجيد، الأخ غير الشقيق لرئيس الجمهورية الأسبق صدّام حسين، ورئيس جهاز الأمن الخاص آنذاك، بحرمة المشروبات الكحولية لمنتسبي مؤسسات الدولة البوليسية. عُرضت الفتوى من خلال شريط بثه التلفزيون الرسمي يصور تحقيقاً أجراه المجيد مع أحد الضبّاط المتهمين بسرقة أحد المنازل. ولكي يتمّ دفع التهمة عنه، ولتخفيف العقوبة أيضاً، ادعى المتهم أنه كان «مخموراً» أثناء السرقة، فحوّل المجيد أمر الخمر إلى نكتة وقال «يعني أنا إذا اشرب كأس كأسين أظل أفوت على بيوت الناس! هذا ما يجوز». وفي نفس الفيديو، حاسب المجيد أحد الضبّاط الصغار لاحتسائه أكثر من 8 زجاجات بيرة.
كان هذا الشريط (التحقيق) مدخلاً لإصدار قرار يمنع بموجبه منتسبي الاجهزة الأمنية من ارتياد النوادي الليلة والحانات (للحفاظ على السلوك الصحيح لهؤلاء، وعدم تعريض سمعة الدولة إلى الإساءة).
العراق يحلّق من دون أجنحة
وبعد هزيمة النظام في حرب الخليج الثانية، وانبثاق انتفاضةٍ سارع نظام صدّام للإجهاز عليها، وجد «الرئيس الضرورة» نفسه ونظامه أمام خيارين: إما المضي بما تبقى من علمانيته، وإما أسَلَمة النظام. كانت معادلة إقليمية جديدة قد ولدت من خاصرة تلك الهزيمة، طرفاها إيران والسعودية. انتهى عصر الشراكة الإقليمية وبدأ عصر الصراع الإقليمي على النفوذ بين المملكة التي تدعي تمثيل «السنة» والجمهورية التي تدعي تمثيل «الشيعة». وكان النظام يبحث عن قشة لإنقاذه من الموج المتلاطم الذي خلفته الهزيمة. ولم يكن أمامه سوى امتطاء موجة الأسلمة تحت شعار «الحملة الإيمانية»، معلناً بذلك موت الايدولوجيا، ودفن الدولة المدنية. وصار رجل المرحلة عزت الدوري، نائب الرئيس الذي يحتفظ بعلاقات متميّزة مع الإسلاميين في السعودية وبعض دول الخليج، والذي خصص مساحات واسعة من مزارع بغداد لممارسة الطقوس الصوفية. وأصبح من الطبيعي أن يرى العراقيون في شوارعهم مشاهد تشي بانتشار الإخوان المسلمين، بعد أن كان مجرد إطلاق اللحية تهمة قد تؤدي بصاحبها إلى الموت.
وبمقابل ذلك، ضيّق نظام صدّام حسين الخناق على حياة الليل والنوادي والحانات والمشروبات الكحولية، تمهيداً لإغلاقها فيما بعد، فصدرت في العام 1994 دزينة من التعليمات الجديدة تتماشى مع تلك «الحملة الإيمانية». أغلقت النوادي. وانتقلت المحظيات من الرقص في الملاهي الى مزارع وقصور المسؤولين الخاصة.
منافذ بيع المشروبات الكحولية انقطعت عن كل العراق: النوادي والحانات ومحلات الخمور لم يعد لها وجود إلا في بغداد وإقليم كردستان. أما المحافظات البقيّة فهي تلعب لعبة القط والفأر مع الحكومة للحصول على المشروبات
ولأن لكل ظاهرة منفلتة إرهاصاتها، ولأن المسؤولين من أقارب الرئيس آنذاك يوظفون كل ما يصدر عن النظام لمصالحهم الخاصة، فقد ولدت ظاهرة الإجازات المشروطة لفتح الأندية الليلية والبارات التابعة للمنظمات المهنية، كنوادي المصورين والإعلاميين والتشكيليين والعمال، مقابل مبالغ طائلة يدفعها متعهدون لأولئك المسؤولين مقابل استثمار هذه النوادي والبارات. كما سيطر بعض أولئك المسؤولين على تجارة المشروبات الكحولية الرخيصة التي يتم استيرادها عبر الأردن من دول عديدة، إضافة إلى ما ينتج داخل البلد من أنواع البيرة والعرق والجن، وهي صناعات رديئة تطغى على مكوناتها الحبوب المخدرة والمنومة. كما نمت آنذاك ظاهرة بارات «الهواء الطلق» التي كانت مكاناً لتجمع الشباب وهم يحتسون الخمور في سياراتهم الخاصة على شواطئ دجلة، على الرغم من تعرضهم للابتزاز والاهانات من قبل رجال الشرطة بين الفينة والأخرى.
الخمر بمقابل المخدرات
بعد احتلال العراق في نيسان/ابريل 2003، عمت الفوضى مختلف مناحي الحياة. ورغم التبشير بالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان والانعتاق من نير الديكتاتورية، إلا أن الارتجال والارتهان لقناعات ومصالح الميليشيات التي هيمنت على الشارع أصبح هو السائد في ظل غياب الأجهزة الأمنية والعسكرية عن المشهد. أغلقت مصانع المشروبات الروحية وتوقّف هدير الآلات في مصانع البيرة الثلاث «شهرزاد» و«سنبلة» و«فريدة»، ومعمل «عرق العصرية» ومصنع «جن أبو جسر»، وأغلقت الميليشيات المسلحة معظم النوادي والبارات ومحلات بيع المشروبات الروحية في العاصمة، بعد أن فجرت بعضها وقتلت العاملين في بعضها الآخر، حارثة الأرض بذلك أمام ظاهرة المخدرات التي بقي العراق بمنأى عنها طيلة تاريخه الحديث. اختفت الخمور من شوارع العاصمة لتحل محلها الأدوية المخدرة التي يطلق عليها العراقيون اسم «الكبسلة» مثل «سيدوبيك» و«آرتين»، وأنواع أخرى عديدة أصبح من المألوف وجودها وبيعها في بسطات تمتد على أرصفة الشوارع ولاسيما الرئيسة من العاصمة. حينها قال الكثيرون أن الأمر لم يكن اعتباطياً، إنما هو فعل منظم تقف خلفه دول مجاورة للعراق، تهدف الى سحق الروح المعنوية عند الشباب من خلال إغراق السوق بهذه المواد المخدرة. لكن، وبعد حياكة الخطوط الأولى لنسيج الدولة التي بدأت بـ«القضاء» على الميليشيات، سارعت الحكومة، ممثلة برئيس مجلس الوزراء، إلى دعم النوادي الليلية عبر منحها قروضاً ميسرة تسدد على مدى سنوات من أجل أن تفتح أبوابها مجدداً، طيلة الليل والنهار. إذ أدركت الحكومة أن مزيداً من التطرف الديني سيؤدي إلى مزيد من الاقتتال بين شبّان الطوائف، لذا رفعت شعاراً غير معلن: الخمر هو الحّل.
إلا أنه بسبب عودة الميليشيات المسلحة إلى نشاطها على هامش الخلافات بين الكتل السياسية، وعلى أعتاب الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها نهاية نيسان/ أبريل المقبل، فقد تراجعت الحكومة (مضطرة) عن شعارها، وعادت مشاهد التضييق على النوادي والبارات ومحلات بيع المشروبات الروحية. وقد تعرّضت محلات المشروبات الكحوليّة في الأشهر الماضية إلى حوادث متكررة، فيما وقفت الأجهزة الحكومية متفرّجة أمام ما يجري، من دون أن تدين ما يجري، أو تقوم بحماية هذه المحلات، فضلاً عن قيام قوات الأمن ذاتها بإغلاق بعض النوادي الليلية، وإهانة المطربين المعروفين فيها، الأمر الذي أدى إلى إصدار بعض منظمات المجتمع بياناً تحذيرياً من التعدّي على الحريّات التي كفلها الدستور.
ومع ابتعاد شبح الاقتتال الطائفيّ، تذكّرت الحكومة تحريم الخمّر في الكتب السماوية: لم تنفع كل العمليات التي قامت بها الميليشيات لإغلاق محلات بيع المشروبات والنوادي الليلة. ما الحل؟
بعد حياكة الخطوط الأولى لنسيج الدولة التي بدأت بـ«القضاء» على الميليشيات، سارعت الحكومة، ممثلة برئيس مجلس الوزراء، إلى دعم النوادي الليلية عبر منحها قروضاً ميسرة تسدد على مدى سنوات من أجل أن تفتح أبوابها مجدداً، طيلة الليل والنهار
أصدر مجلس الوزراء قراراً في كانون الأوّل/ديسمبر من العام الماضي برفع الضريبة الجمركية على المشروبات الكحولية إلى 80 في المئة. ومع غياب الإنتاج المحلّي من هذه المشروبات (لم يتبق إلا معمل وحيد ينتج العرق)، تعتقد الحكومة أن العراقيين سيتركون الخمر نهائياً. لكن الحلول جاهزة: الصيدليات التي تبيع الأدوية المخدّرة مشرّعة الأبواب.
ولا أحد يعرف مدى استهلاك العراق من المشروبات الكحوليّة نتيجة انعدام الدراسات والإحصائيات، على الرغم من أن وزارة التخطيط تدرج المشروبات الكحولية في تقاريرها الشهريّة عن التضخم وثبات سعر هذه المشروبات وارتفاعها وانخفاضها.
الغريب في كل هذا، أن سكّان بغداد يعلمون ويسمعون عن نوادٍ وحانات لا يسمح بارتيادها إلا للساسة الجدد، وهو ما لم يبدو غريباً في ظل معايير الحلال والحرام التي تتغير وفقاً لحاجات الأحزاب الحاكمة، وهي بمجملها أحزاباً إسلامية.
تهويل وتمويل
قد تمر عبر الحاجز الرئيس لمحافظة مثل الديوانية (180 كم جنوب بغداد) عدة سيارات مفخخة، لكن دخول شحنة مشروبات كحوليّة أو حتى عدّة قنان من البيرة أمر مستحيل. إلا أنه في داخل المحافظة ليس صعباً أبداً الحصول على ليتر ويسكي من النوع الفاخر. يحصل المرء على ما يريد من أنواع المشروبات الروحية على الرغم ـ بل وسط ـ التشدد الذي تفرضه المحافظة على منافذ المدينة المدججة بالحواجز. فتجارة الكحول تدر أموالا طائلة على متعهديها، وهو ما يُبرَّر به نشاط جماعات يُفترض بها أن تلعن ناقله وليس فحسب محتسيه!
منافذ بيع المشروبات الكحولية انقطعت عن كل العراق: النوادي والحانات ومحلات الخمور لم يعد لها وجود إلا في بغداد وإقليم كردستان. أما المحافظات البقيّة فهي تلعب لعبة القط والفأر مع الحكومة للحصول على المشروبات... المتوفرة في كافة تلك المحافظات عبر الطريقة نفسها: بأن يتولاها "متعهدون".
اللعبة إذن ليست سوى احتكار لسلعة رائجة للحصول على المزيد من المال. وأيضاً، هي لعبة التضييق على الحريات المدنية من أجل الرجوع إلى عباءة الدين التي تهيئ الأصوات الطائفية في صناديق الاقتراع... وإذا أستمر الحال على ما هو عليه، فليس مستغرباً، أن يصحو البغداديون صباحاً، ليجدوا أن أبو نواس قد طلب اللجوء عبر الأمم المتحدة إلى إحدى الدول التي تبيح احتساء الخمر.