جهّزت ميليا نفسها للذهاب في رحلة الى كوكب اكتشفه فريق رحّالة عراقي قبل نحو عام من الآن. ما تزال خطواتها تماماً كما كانت في السابق. ترمي قدمها اليمنى ببطء وتعجّل باليسرى. مشية ابنها تشبه مشيتها كثيراً، وهو سعيد لأن هذه رحلته الأولى إلى الكواكب. لم أكن أتصوّر أنها ستتزوّج وهي في الثلاثين، لأنها عندما كانت في عامها الثاني حاول وزير متخلّف إدراج قانون يبيح زواج الفتيات في سن التاسعة. لكن القانون لم يُمرّر، والوزير لم نعرف اخباره منذ الانتخابات النيابية التي جرت العام 2018، والتي حقّقت فيها الأحزاب العلمانية فوزاً كاسحاً، وتمكنت من تشكيل الحكومة للمرة الأولى منذ عقد ونصف من عمر الديموقراطية في العراق، وحقّق طاقمها الوزاري تقدّماً علمياً كبيراً أدى إلى أن يتصدّر العراق اللوائح العالمية في رحلاته إلى الفضاء.
ليست هذه زيارة ميليا الأولى للفضاء، فعند تخرّجها من كليّة الهندسة كانت هديتها تذكرة إلى الفضاء الخارجي. عادت وهي سعيدة برحلتها، إلا أنّها كانت تكرر قولها بأن "الأرض أجمل من سواها"، محوّرة شطراً شعرياً للشاعر السياب بما يتناسب مع مرحلتها.
***
تجري هذه الأيام مناظرات سياسية عارمة. الأحزاب اليسارية تبدو مسيطرة على المشهد، وهي الأكثر حظوظاً بالفوز في الانتخابات من الأحزاب الليبرالية. الشبّان يتقرّبون إلى هذه الأحزاب لإيمانهم أنها قادرة على بسط العدالة والمساواة بين الجميع، ومن أجل تخفيض الضرائب التي بلغت أعلى معدلاتها مع وجود الأحزاب الليبرالية في الحكم. لم يصدّق أحد أن تُفرض ضريبة 3 في المئة على المواد الغذائية، والأدهى أنها تُفرض على التجّار، كما على الموظفين والعمّال. أخبرتُ ميليا أن هذه الضريبة مضحكة مع ما كان في العام 2010 حين فُرضت ضريبة 80 في المئة على الكحول. قهقهتْ عالياً، ومسّدت على شعري، وكأنها تحاول أن تمسح كل أيام الرعب والقحط من عقلي.
تبدو الأحزاب اليسارية أكثر اتزاناً. تحاول أن تمسح تاريخها السيئ الذي أثقلت به بعد احتلال بغداد العام 2003. وهي بمراجعة مستمرة لكل الأخطاء، أصبح خطابها في العقدين الأخيرين قريباً من نبض الشارع. ما يزال اليسار يحتفظ بحرارة كلاسيكياته القديمة رغم أن ليس هناك عراقياً جائعاً الآن، والكل يمتلك سكناً لائق، والجميع يركب المواصلات نفسها. صار للحزب مفكّرون توصلّوا إلى نظرية، تطبيقها كفيل بعدم صعود ديكتاتور تفرزه الماركسيّة مجدداً. لم أفهم الموضوع بالضبط، لكن هذا الأمر لطالما شغلني.
***
أصبحت ميليا، وهي ابنة اختي التي ظلّت الأكثر دلالاً بين اخوتها عندي وأمي وأبي، رئيسة المهندسين في أمانة بغداد. كنا نتحدَّث قبل فترة عن تاريخ العاصمة والمعالم التي اندثرت، وهي عازمة الآن على تقديم مشروع يُعيد المقاهي التي تهدّمت في التسعينيات وما تلاها، فضلاً عن إعادة الحانات البغدادية القديمة إلى العمل. أخبرها مديرها أن هذه الفكرة ستزيد السياحة في البلاد، وأن على العراقيين معرفة تاريخ مدينتهم. ما يعني أني سأرى بغداد "على حقيقتها" بدل ناطحات السحاب التي صارت تتناسل فيها بشكل مزعج.
جيل ميليا أكثر ارتباطاً بالمكان من الأجيال التي سبقته، وهو يعمل ليل نهار على إعادة وجه بغداد القديم الذي شوّهته الأحزاب الغارقة بالفساد بشكل مريب ومرعب. وهم أيضاً أكثر انفتاحاً، ويحتفظون بعلاقات طيّبة مع بعضهم البعض، حيث تتيح ساعات العمل الأربع التي يقضونها على مدى خمسة أيام في الأسبوع الوقت للقاء والتحدّث. وهم مهتمون جدّاً بالعلوم الإنسانية التي عادت جامعة بغداد لتضعها على أولويات جدول اعمالها التطويري.
الحكومة استحدثت دائرة لتسلّم المشاريع والأفكار من المواطنين. صار الجميع يبعث بأفكار من أجل تطوير المدن، وجعل العيش أرحب. وهناك مجموعة من المهندسين الشبّان، وضعوا على عاتقهم إحياء تراث الشِّعر العراقي عبر التعاون مع نحاتين، فصاروا يزوروننا كل يوم في المقهى "ارخيته" من أجل الحديث عن الشِّعر العراقي، والمقاطع التي يجب أن تترجم إلى حجر لتصبح نصباً.
***
حدّثتني ميليا في مكالمة مطوّلة من الفضاء عن موافقة المدير على مشروعها في إعادة إحياء المقاهي والحانات. سعدنا أنا ومجموعة من المسنّين بهذا الأمر. وأخبرتني أيضاً عن الشروع بنصب تمثال للمعمارية العراقية زها حديد في ساحة الفردوس، وهي الساحة التي اسقط فيها تمثال صدّام حسين. لم تحب ميليا حديد يوماً، ترى أنها تميل إلى الحداثة كثيراً، ولا تراعي تاريخ المدينة التي تقيم فيها مشاريعها، لكنها كانت حزينة لأن حديد لم تصمم أي مشروع لبغداد. "ضيّعوا الفرصة" قلت. رفضت الحكومة في العام 2008 مشروعاً تقدمت به لتصميم مبنى البرلمان.
ليس هناك من هو أكثر سعادة منّي الآن. سأعود الى الستينيات. إلى روايتَي غائب طعمة فرمان "خمسة أصوات" وفؤاد التكرلي "الرجع البعيد"، اللتين تتحدثان عن بيوتات بغداد وحاناتها ومقاهيها، سينفّذ المشروع خلال عامين. إنه الرجوع إلى رحم المدينة من جديد. إنها الأصوات التي بقينا نصدح فيها أيام شبابنا ولم يستمع لنا أحد.
إنه الزمن البغدادي المنفلت من عقارب الساعة وأوراق التقاويم الجدارية.. إنه بالأحرى، فنتازيا تليق ببغداد ورجعها البعيد.. جداً.