كن مثل العم جمال، كوني مثل الست نعمات..

نص نُسِجت خيوطه من تجربة شخصية، في مكان لا يُعبِّر بالتأكيد عن واقع الاستشفاء في بلادنا.. لكنه مكان واقعي، لعل مجموعة مصادفات رسمت ملامحه الانسانية الجميلة كما تُروى هنا. وهي، على استثنائيتها، قيّمة، لأنها تعكس ما يمكن أن يكون!
2019-01-18

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
علاء شرابي - سوريا

ما هو الوجع الأكثر شدة؟ أن تبقى وحيداً بينما يتكاثف عليك المرض، تخف النوبة فتتركك هناك بليدا، تزيدك وحدتك وحدة، يملؤك فراغاً له طعم الألم ورائحة الفورمالين، وعندها لن تستطع أن تسمع أنّات غيرك، وإن صدرت شديدة الالتصاق بك، ممن هم قريبين منك.

..إنها عزلة الوهن.

ولكن في ذلك المشفى المكتظ بمرضى السرطان مع أنه غير متخصص بعلاجه، كان الأمر غير ذلك. رأيتُ المتعة. كانت هناك. وكان الونس، على الرغم من الآلام الشديدة التي تحوم داخل أرجاء هذا القسم المطلية جدرانه باللون الوردي، ويسمونه "الروز الثالث".

باقي الأسماء أيضاً حاضرة، يمكنك أن تتعرف عليها مبكراً قبل استكمال سطور القصة. هناك الست نعمات، أم علي وزوجها المُحبّ حكيم. هناك صوت الصعيد، الست نادية، أم محمود وزوجة إبنها المنتقبة التي تصلك ابتسامتها من خلف حجاب. هناك العم المثقف الهادىء منصور، والشاب مفتول العضلات محمد، والاستاذ أحمد القادم هو وأبنة اخته من "الدور اللي فوق". هناك أحمد الصوفي ومحمد علي ومدام هدى، وهناك الممرض الشيخ إبراهيم والست سعاد، كبيرة الممرضات، وعبد الرحمن ومنى وآخرين. هناك فريق الأمن الخاص الذي لا يستطع وسط هذه الأجواء الإلتزام بمكانه عند مدخل القسم الوردي. هناك صوت عبد الحليم حتى وإن غنى "ضي القناديل". وبين كل هذا وذاك لا تنسَ بشكل خاص وجه العم جمال، فمن عنده أخذت كل خيوط القصة في البزوغ ثم الاكتمال.

الرائحة ليست بالجيدة، ولا يمكنك أن تعرف السبب جيداً. فأم جمعة ورفيقاتها يستخدمن المنظف وقطع التلميع في حملتهن للتنظيف اليومي في الغرف الثلاثين التي يضمها القسم. قد تكون المشكلة بالتهوية أو التكدس أو الإثنين معاً، لكن أنفك وروحك ستعتادها هي وغيرها من الأمور بعد وقت قليل من الدلوف. أنه - كما تعرف - فعل الحياة (خلق المألوف).

قصص مرئية

"آه طبعاً مألوف.. إحنا بنقعد هنا اكتر ما بنقعد في بيوتنا"، يقولها أكثر من صوت رداً على أكثر من ملاحظة.

يتلقي أغلب المرضى العلاج الكيماوي. تتراوح الجرعات ما بين 6 إلى 15 وقد تزيد. علاج مرهق بدنياً ونفسياً ومادياً، لكن يخف اثره وفق ما تبقى لدى ملايين المصريين من دفاتر التأمين الصحي، ويخف عندما يتبادل الحضور بالغرف المتلاصقة الخبرات والمعلومات. لا يخلو الأمر بالطبع من أن يتبرع أحدهم بدور "الخبير" الذي قد يشيع الفزع خاصة لدى "الوافد الجديد" باعتباره بطبيعة الحال "زبون لقطة".

الطبيبة نوال هي إحدى الإستشاريات من قسم يضم ما لا يقل عن ثمانية أطباء تتنوع رسائلهم العلمية حول الكثير من أنواع السرطان، هذا المرض الملعون الذي يهرول داخل حياتنا كلص حصل على حريته في ليلة غبراء تكسرت بها واجهات كل الحوانيت. قد يقف وراءه "مبيدات يوسف والي" التي لم تتوقف يوماً. وهو ما يفسر انتشار سرطانات المعدة والقولون والطحال بشكل خاص، وقد يقف وراءه طفرة جينية ابتلى بها هذا الجسد النحيل للرجل الشاب الذي يودع عقده الاربعين فانحرفت خلايا المقاومة عن دورها كجيش للدفاع، إلى عدو لئيم.

حسب الاحصاءات المعلنة في 2017 من منظمة الصحة العالمية في اليوم العالمي لمقاومة السرطان (4 شباط/ فبراير)، فإن عدد المرضى على مستوى العالم باختلاف أنواع الأروام وصل إلى 14 مليون إنسان. وتأتي أورام الرئة والثدي والقولون في المراتب الأولى، أما نصيب مصر فهو ما يقارب الـ 100 ألف مصاب سنوياً.

ترى الطبيبة أن هناك تطور علمي كبير في طرق التشخيص وفي خصائص العلاج بما يقلل الأعراض الجانبية ويكثف من النتيجة المرجوة. ولا تجد أن مصر بعيدة عن ذلك تماماً حتى وإن لم تستطع المستشفيات المصرية أن تجاري كافة انواع العلاجات المستحدثة نظراً لإرتفاع كلفتها، تقول: "نستخدم المتاح ونحاول تعظيم الفائدة منه قدر استطاعتنا". هذا وتبقى الإجابة على سؤال "كم يتبقى من العمر؟" من المحرمات في بروتوكلات الأطباء المصريين. حسب الاحصاءات المعلنة في 2017 من منظمة الصحة العالمية في اليوم العالمي لمقاومة السرطان (4 شباط/ فبراير)، فإن عدد المرضى على مستوى العالم باختلاف أنواع الأروام وصل إلى 14 مليون انسان. وتأتي أورام الرئة والثدي والقولون في المراتب الأولى، أما نصيب مصر من هذه الاحصائية فهو ما يقارب الـ 100 ألف مصاب سنوياً.

غرفة للجميع

"303" رقم هو الآخر، لكنه لا يشبه ثقل ظل الأرقام السابقة، هو رقم الغرفة الأخيرة التي نزل بها العم جمال. كان في هذا النهار الأول يمسك أوراق المسح الذري الخامس على أنسجة مخه، ويستقبل نتيجته السيئة بإستهزاء. تكتشف بعد ذلك أنه سمة رئيسية في شخصه بكل حالاته المزاجية.

نحيل في منتصف العقد السابع من عمره، يرتدي جلباب أبيض ولحيته بيضاء، لا لحم بالجسد ولا شعر بالرأس، وإنسجام بالقلب ونغم بالروح.

غرفته مخزن للشاي والسكر لكل المرضى والعاملين، يأتي إلى المستشفى ومعه "نصف دستة كبايات"، يلتزم كل من أفراد الأمن على شراء جريدتي الأخبار والأهرام له يومياً، ليس بهدف الاهتمام بمستقبل المشروعات القومية المحكي عنها، ولكن إنشغالاً على حال فريقه الكروي المفضل (الزمالك) الذي يرى أنه يحمل نفس قدّره، يقول: "لعيب بس حظه قليل".

يستقبل "الوافد الجديد" بترحاب وافر ويأخذه دون سابق معرفة في موجة استهزاء بنتائج الأشعة وبكل تفاصيل المرض الذي أصابه قبل ثلاث سنوات، ولا ينسى أن يمازحه "أوعى تفتكر العملية أثرت على مخي، مخي اللي أثر على العملية"..

لا يطيل كثيرا بتلك التفاصيل التي يراها كئيبة وينهيها بصوت جهور كأن أحداً قد منحه أثير موجة البرنامج العام بالإذاعة المصرية، فيقول: "الحمد لله.. ولله الحمد.. جمال بخير"، تردد أنت من خلفه "الحمد لله" وتدعو له ولغيره بالشفاء، فلا ينتظرك ويكمل وصلته الإذاعية وقد حلت به كاملة روح الزعامة والفكاهة: "عاش جمال.. عاش جمال عبد الناصر.. عاشت القومية العربية.. تسقط إسرائيل وعملاء الصهيونية".

لا تضحك حينها وحدك، فما شجعه ووصل به لأعلى مدارك البهجة هو توافد الزوار الذين يعتادهم من الغرف المجاورة، أصدقائه من المريضات والمرضى. يقول قوله هذا بينما يشاكسه الجميع وعلى رأسهم جميلة الجميلات، الست نعمات. وجه رائق فى أوائل الخمسينات من العمر، لا زال يحتفظ بكثير من جماله على الرغم من المرض، وابتسامة هادئة تتحول سريعاً إلى ضحكة مبهجة، تتغامز هى والآخرين على الرجل المسن الضاحك وتقول: "رايق كده ليه يا جوجو، أومّال لو كانت نتيجة الاشعة حلوة؟".

في ذلك المشفى المكتظ بمرضى السرطان مساعٍ تلقائية لخلق الألفة بعد النجاح بقصد أو دون قصد في إحالة المرض، على الرغم من بشاعته ومأساويته، إلى مجرد "أمر مألوف". هنا لا إبتذال ولا تقطير، لا تهويل ولا تهوين، لا أساطير حول الصحة ولا تباكي عليها، لا اصطناع للقبول والرضا ولا اصطناع للقوة..

"جوجو"، كنية لها قصة. أطلقتها عليه إحدى الشابات المرافقات لوالدتها المريضة، وسحبت منه بعض المال ورحلت، فأصبح لقبه الجديد وطرفة الجميع الأثيرة. لا ينزعج من تلاسنهم عليه ولا يحقد على الفتاة بل يعامل ذكراها كما يعامل الحياة التي قذفته بالمرض.

لا يصدق "الوافد الجديد" القادم لتلقي الجرعة الثانية من العلاج ما تراه عيناه. على مدار شهرين أرهقه الاكتئاب بعد اكتشاف المرض وذبول جسده وسقوط شعره، اعتاد أن يحجز غرفة مميزة بالدور العلوي، ولكن شاءت ظروفه أن تجمعه بهذه الصحبة المميزة لعدة ساعات، كانت هي زاده بالأيام التالية لخلق مجتمع جديد، يتزاور معه ويتبادل الخبرة وأرقام الهاتف وعلب الزبادي، ثم يتناولون "الرنجة" (نوع من السمك) خلسة من وراء الممرضين والممرضات. في اليوم الأول، لم يخرج صوته إلا وهو ينظر لكف عم جمال بعد أن ألقى خطبته العصماء المبهجة. قال: "اللي في إيدك دي سيجارة؟"، رد: "اخيراً نطقت يا واد، افتكرتك أخرس، اسكت خالص ومالكش دعوة بالحكاية دي". وقبل أن تنهال عليه النصائح من الجميع، وفي ظل الصدمة الخبيئة لنتائج المسح الذري الخامس، قام "زوربا" القسم الوردي أو عم جمال بمراقصة سيجارته قبل أن ينسحب من الباب ويغلقه على الجميع ويذهب خلسة إلى سلم الطوارى.

لا يدخن فقط بالسر ولكن عرف الطريق مرة إلى الدرج الخاص بالست سعاد التي من أجله قامت بحملة موسعة لسحب علب السجائر من كافة الغرف.

في أحد الأيام حاول الشيخ استدرار مزيد من الاهتمام من قسم التمريض، ألقى بنفسه على الأرض، وصل القسم إلى أعلى درجات الطوارئ، وفي الليل أخرج من دولابه الصغير "بدلة سوداء" واقنع باقي الرفاق بالخروج بعد التراضي مع أفراد الأمن لحضور حفل الطبيب الشاب أشرف، بالحي الفاخر القريب، وعادوا من هناك بمقاطع فيديو الرقص للجميع. وفي الصباح أصابت عم جمال نوبة تشنج حقيقية بالمخ. استلتزم الأمر أكثر من ربع الساعة حتى اقتنع التمريض أنه لا يمازحههم هذه المرة ايضاً. لم يعد هناك الكثير مما يمكن تقديمه للرجل غير لاصقة طبية لتخفيف الألم، يكتبون له تذاكر الخروج لكنه دائماً ما يفضل أن يعود.

غرف غير مغلقة

وبالطبع لا زال هناك المزيد من القصص.. منها عدم اقتناع الطبيب أن أم محمود سيدة خمسينية لديها 7 أولاد، فجسدها صغير وقصير، ولهذا دائماً ما يطلب من التمريض استخدام "حقن الاطفال" من أجل تلقي الجرعة. قادمة من بلدة "العياط"، تشكو غياب بعض الأهل عنها، فترد نعمات يا "عيوطة يا بتاعة العياط، كفاية عليكي همّ المرض ما تزوديش همك".

هناك الشاب محمد الذي تتفاجئ بأنه ليس الأبن الأكبر لعم جمال، لكنه اكتسب عبر الوقت لقب المرافق والممرض للجميع وليس فقط لوالده الذي لا يفضل مخالطة أحد ويطرد إبنه أغلب الوقت من الغرفة. يقيم محمد لدى عم جمال، وهما يشبهان الثنائي "لوريل وهاردي"، فهما لا يتوقفان عن حبك المقالب للجميع إلا إذا جد همّ، فتدهشك حينها هذه الخبرة الاستثنائية التي إكتسبها الشاب في مجال التمريض.

يتقبل "الحكيم" المزاح والتغازل خفيف الظل بين زوجته والشيخ الكبير. يضحك الجميع وتظللهم رابطة أقوى قادرة على فرم كل موقف مزيف حول الأخلاق، كل صوت محشرج عن المحارم والاختلاط والحدود..

وهناك في غرفة الست نعمات، يحضر الحج حكيم زوجها، فتتوقف أمام هذه الحالة المتحضرة الفريدة من الحب الاستثنائي المجاهَر به بين الزوجين، على الرغم من الفارق الواسع بينهما في مستوى التعليم والدخل وكل عطايا الحياة.

يتقبل "الحكيم" المزاح والتغازل خفيف الظل بين زوجته والشيخ الكبير، يضحك الجميع وتظللهم رابطة أقوى قادرة على فرم كل موقف مزيف حول الأخلاق، كل صوت محشرج عن المحارم والاختلاط والحدود..

هنا لا ابتذال ولا تقطير، لا تهويل ولا تهوين، لا اساطير حول الصحة ولا تباكي عليها، لا اصطناع للقبول والرضا ولا اصطناع للقوة.

وهناك أخيراً موجات الألم العاتية التي تعصف فجأة..

غرفة العمليات

فقد كانت السيدة تستعد لإجراء "منظار" للتأكد من درجة تشكل الخلايات اللعينة بالقولون بعد تلقي جرعات العلاج كاملة. تقول لك وهي بكامل بهجتها أمام باب الاشعة: "كل عطيتك حلوة يا رب، المرض دي عطيته عشان إحنا أحبابه، مش بيديه لأي حد". تخرج وينهار زوجها بكاءاً، يقول الطبيب: "قولون زوجتك الحمد لله أصبح خاليا من المرض، ولكن غصب عنا حدث ثقب أثناء الاستكشاف نتيجة الالتواء الشديد به ويجب أن تخضع لعملية جراحية عاجلة".

تتصل أم محمود بأبو محمود وتخبره أن يحضر فوراً فهي تخاف أن تمر وحدها غداً بالتجربة نفسها. يهاتف الشاب محمد العم جمال ليعود. يقف العم منصور على باب الغرفة، تخرج نعمات بعد ثلاث ساعات وتقول وهي في مرحلة الإفاقة "يا حبيبي يا ربنا راضيين بعطيتك"، ويردد الجميع خلفها "الحمد لله". تدعو لأسماء حاضرة وغير حاضرة بالشفاء ثم تردد وهي تبكي: "مستنياك يا بكرة.. مستنياك يا بكرة". ليس مشهداً سينمائيا ولكنها الكلمة الملتصقة بلسانها ـ كما يقول زوجها ـ مع إجراء كل عملية جراحية منذ إصابتها بالمرض اللعين قبل عامين من الآن. "تنتظر بكرة" كمثلهم جميعا ليحمل الشفاء والرحمة أو الراحة الأخيرة، بينما يحاولون صنع يوم منزوع الكآبة، يخنعون للحظات الوجع والخوف ثم ينفضونها حين يقدرون ويستقبلون القادم.

موجات تلقائية كموجات البحر تذهب وتجيء، يعلوها جميعاً دون إدعاء زبد الإيمان مهما اختلفت الأديان. مساعٍ دائمة تلقائية لخلق الألفة بعد النجاح بقصد أو دون قصد في إحالة المرض على الرغم من بشاعته ومأساويته إلى مجرد "أمر مألوف".

مَن منا لا يخاف؟ مَن منا لا يتمنى؟ من منا لا يعتاد؟ من منا لا يسعى؟ من منا لا ينتمي إلى كل هؤلاء؟

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...