الخدمات الطبية في مصر: بؤس يقدم للبؤساء

جاهزية المستشفيات الحكومية ما زالت محدودة، إذ يتوفر سرير واحد لكل 2042 نسمة من السكان. وبحصر النسبة على المرضى، فوجد سرير لكل 48 مريضا! الأمر لا يقف عند حد العجز عن تقديم خدمات طبية مقبولة المستوى وإنما وصل لتقديم عدوى مجانية!
2015-08-13

بسمة فؤاد

باحثة من مصر


شارك
من معرض "الممنوع" للفناننيين وئام المصري وياسر نبايل/مصر

أتاحت الصور التي نشرتها مؤخراً صفحات الأطباء على فيسبوك، في إطار الحملة الإلكترونية "عشان لو جه ميتفاجئش"، عرضاً أوسع لحالة المستشفيات الحكومية في مصر. وقد بدا الحال "مسخرة"، مثلما عبَّر رئيس الوزراء نفسه أثناء زيارته مؤخراً لمعهد القلب، خاصة لمن لم يبْصر مستشفيات الحكومة عن قرب، ومن لم يُكتب عليه الاستشفاء فيها. إلا إن خبرات مرضاها وأطبائها أقسى بكثير من الصور. وإنْ كان الفقر يدفع بأغلب المصريين نحوها، فإن فقرا آخر يجدونه بانتظارهم، يتمثل بشح الخدمات الطبية والعجز التقني والفني عن مساعدة المريض واحتواء شكواه وعلاجه.

يسجل الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (في تقريره الصادر في كانون الاول/ ديسمبر 2014)، تطورا طفيفا في الخدمات الطبية، ممثلاً في زيادة إجمالي عدد المستشفيات بين العامين 2012 و2013، من 1580 إلى 1610 (منها 657 مستشفى حكوميا)، مضافاً لذلك زيادات طفيفة أيضاً في أعداد الأسرة وخدمات الإسعاف الطبي. ومع ذلك، فإن جاهزية المستشفيات الحكومية ما زالت محدودة، إذ يتوفر سرير واحد لكل 2042 نسمة من السكان. وبحصر النسبة على المرضى، فيوجد سرير لكل 48 مريضا! وهو ما يفسر المشاهدات التي عرضتها الصور من تشارك اكثر من مريض في السرير نفسه، هذا بغض النظر عن حالة الأسرّة ومدى توافر كسوتها، إذ تكشف الصور عن مراتب تغطيها بقع الدم، ما يعني ان الأمر لم يقف عند حد العجز عن تقديم خدمات طبية مقبولة المستوى وإنما وصل لتقديم عدوى مجانية!

"الكل سيحاسب"!

هذا ما استقر عليه رئيس الوزراء بعد معاينته لتردي الأوضاع الخدمية المقدمة للمرضى، واسترسل "سنصنع من هذا المكان قصة نجاح"! رغم الزعم بأن الكل سيحاسب، إلا أنه بدا وكأن المسؤولية غالباً ستتلبس الأطباء وحدهم، وكأن الحال ستصلح بمواظبتهم على الحضور والانصراف في المواعيد الرسمية. لذلك ردت نقابة أطباء القاهرة في بيان لها عنونته "لا تخدعوا الشعب"، ورد فيه "إن خطوات الإصلاح الحقيقية للمنظومة الصحية تتلخص في رفع موازنة الصحة فوراً، وإيقاف الهدر في ميزانية الصحة، مثل "القوافل الطبية"، والبدء في إصلاح أقسام الطوارئ، وتوفير أسرّة الرعاية المركزة والحضانات، كذلك توفير فرص جيدة للدراسات العليا للأطباء، بالإضافة إلى وضع خطة للتعليم المستمر في جميع التخصصات، ثم الرقابة المهنية وليس الصورية على المستشفيات". وانهت بيانها بتقديم الشكر لآلاف الأطباء الذين يقومون بإنقاذ أرواح المرضى في ظروف مجحِفة مادياً ومعنوياً.

احتكار الطب

رغم التضخم السكاني في مصر، إلا أن الفقر في قطاع الصحة لم يقتصر على الموارد المادية فقط، إنما شمل الموارد البشرية أيضاً. يوجد ممرض واحد لكل 670 نسمة من السكان، كذلك يوجد طبيب واحد لكل 1179 نسمة من السكان، مع اعتبار سوء التوزيع بين المحافظات والتخصصات المختلفة. على سبيل المثال، تبعاً لعدد الأطباء البشريين القائمين بالعمل فعلاً في قطاع الطب العلاجي للمحافظات للعام (2013)، يوجد 260 استشاريا لجراحة المسالك البولية مقابل 19 استشاريا لجراحة المخ والأعصاب. وهؤلاء التسعة عشر يوجد منهم 14 في الإسكندرية وحدها، والقلة الباقية تتوزع بين الجيزة والبحيرة والمنيا. يعلق الأطباء أن الجامعات تسهم بشكل واضح في العجز الموجود في بعض التخصصات الطبية المختلفة، إذ تغلق كليات الطب أبواب الالتحاق ببرامج الدراسات العليا في بعض التخصصات بها، وهو ما يعني احتكار التخصص لأساتذة الجامعات واقتصاره عليهم، فيما يذوق أطباء التخصصات المتاحة (التي لم تحجبها الجامعات) المرار من أجل الترقي العلمي والدراسي، والذي لا يخضع بالضرورة، كحال الدراسات العليا في مصر بوجه عام، لمعايير علمية أو موضوعية عادلة. فإن كان "الكل سيحاسب" حقاً، فالحساب مطلوب هنا كذلك، ليطول المسؤول عن حجب بعض التخصصات أمام الأطباء الشباب، والذي لا يقف أثره عند الأطباء فحسب بل يصطدم بحقوق المرضى كذلك. يقول طبيب شاب: "إن العديد من الأخطاء التشخيصية والعلاجية بحق المرضى يقع في أقسام الطوارئ، حيث يُدفع بالطبيب المتواجد للكشف عن حالة طارئة وإن كانت في غير تخصصه، ليواجه المريض وسط ذعر وإلحاح وتعويل أهله على أنه المنقذ لا محالة، بما يستحيل معه مصارحتهم بأن حالة ابنهم لا يسعفها تخصصه".

وجوه أخرى

تمثل مستشفيات التأمين الصحي وجهاً آخر لمنظومة الصحة في مصر، وهي لا تغطي سوى 50 في المئة من الشعب المصري بحسب إحصاءات الهيئة العامة للتأمين الصحي، وهم في الغالب موظفو الدولة وطلاب المدارس والجامعات، ما يعني أن التأمين لا يصل للفئات الأضعف، الممثلة بعمال القطاع الخاص والقطاع غير الرسمي والعاطلين عن العمل. يستمد التأمين الصحي تمويله من اشتراكات المؤمَّن عليهم ولا يدرج له بند خاص في ميزانية الدولة. ورغم أن خدماته مدفوعة الأجر، إلا إنها ليست أفضل بكثير من تلك المقدمة في المستشفيات الحكومية والعامة، بل إن أطباءه ما برحوا ينظّمون الوقفات الاحتجاجية اعتراضاً على حرمانهم من الكادر الخاص المطبق على أقرانهم العاملين في المستشفيات الحكومية. وبالنسبة للمرضى كذلك، فالتأمين الصحي لا يرادف الخدمة الطبية المقبولة بقدر مرادفته للعلاج المجاني والإجازات المرضية! لذلك فهو ملجأ مرضى الأمراض المزمنة الذين يتعايشون مع العلاج لأجل غير مسمى، ما يدفعهم للبحث عن علاج اقتصادي، فيما يجدد التأمين الصحي دوماً قضية تقييم أدوية وزارة الصحة، التي يصنفها بعض الأطباء على أنها "ميه" (ماء) عديمة الفائدة، يؤكد بعض الأطباء أن التأثير العلاجي حتى لأكبر الجرعات من دواء التأمين لا يعادل جرعات أقل من الدواء المستورَد، ويسوقون التفاوت الحاد بين أسعار علاج التأمين الصحي عن مثيله المستورد كحجة لما يدّعون، بينما يرى آخرون أن تفاوت الأسعار قد يُرد لكبر حجم العبوات المصروفة والطلبيات المورَّدة للصيدليات الحكومية.

على النقيض، تقدم المستشفيات الخاصة عرضاً مغايراً تماماً للصورة السابقة، فالخدمات ترقى لمستويات فندقية، ولكنها تخضع لاستعار التفاوت الطبقي في مصر، إذ لا ينتفع بخدماتها إلا الميسورون.

لا يوجد من لم يَخبَر تجربة المرض والاحتياج للخدمات الطبية. ولكن ربما لا تترك أثراً عميقاً تجربة مرض عابرة يُكتب لها شفاء عاجل. أما إن تعذر المرض أو عزّ علاجه، فإنه يدفع بالمريض نحو عالم وعر المسالك، إذ يوقِع به حائراً بين إرهاصات الأطباء المختلفة حول التشخيص السليم للحالة، وسبل العلاج، ومقادير تكلفته، فيزيد ويله ويلين: قسوة المرض وبطش الفقر.


وسوم: العدد 156

للكاتب نفسه