كما توقعت بالضبط، جاءت عمتي لتحدّثني عن الزواج مجدداً. وفي ظلِّ صخب الموسيقى الشعبيّة، جلستْ إلى جانبي، وهمست "صير مثل أخوك سبع وتزوّج "كيّا". كان عرس اخي الأكبر مناسبة لاقناعي بضرورة الزواج، وممن يجب أن أتزوج. وكان مصطلح "المرأة الكيا" يتردّد على مسامعي باستمرار. ومع أنني أعرف أن "الكيا" هي نوع سيارة المكروباص التي تنقل المواطنين بأجور زهيدة مقارنة بأجور سيارات التكسي، الا انني لم أعرف لا أنا ولا أحد من عائلتي سر الربط بين هذه الكيا والمرأة مشروع الزواج. وبعد البحث والتقصي، عرفت أن "المرأة الكيّا" هي الموظّفة في دوائر الدولة الحكومية، ولديها راتب شهري ثابت، وتقاعد لنهاية الخدمة، وإذا ما أصبحت حاملاً - وهذا الاحتمال وارد بشدّة لأن المرأة العراقية هي الأكثر خصوبة من بين نساء الدول العربيّة - فستكون إجازتها مدفوعة الثمن. ولماذا "كيا": لأن السيارة الباص (السرفيس) تسمّى في العراق هكذا، ولأنها لا تتوقّف عن العمل أبداً، ولأنها من السيارات الرابحة أيضاً.
"الكيا" ليست جيّدة أحياناً
لم تكن عمّتي تعرف، أن زوجة أخي هي "كيا" غير رابحة، فهي موظفة في وزارة الثقافة التي تمنح أقل المرتّبات في العراق، ما يجعل الصفقة غير مجديّة. وحين أخبرتها مازحاً، سارعت إلى القول "تزوّج مُعلِّمة.. هي الأفضل". ويعد الزواج من معلّمة من أفضل الزيجات في العراق، ليس لأنها تربّي أجيالاً بالتأكيد، بل لأن لديها عطلة صيفية تمتد إلى ثلاثة أشهر، وينتهي دوامها اليومي في الساعة الواحدة ظهراً، ومرتبها من أفضل المرتبات، حيث يبلغ، إذا ما كان لديها خدمة في التعليم تجاوزت عشرة أعوام، نحو ألف دولار. وبالإضافة إلى ذلك فهي ستعلّم الأولاد دون أن يتصدّع رأس الرجل بمراجعة وظائفهم المنزليّة. ولديها الوقت الكافي للقيام بعملها خارج المنزل وداخله. إنها "المرأة السوبر" بكلّ الأحوال، وعمّتي عزمت على إيجاد واحدة لي وأخرى لابنها الرافض للزواج مثلي.
الاقتصاد يغيّر
الغريب في الأمر أن عمّتي نفسها، كما كثيرات مثلها، كانت ترفض عمل المرأة في التسعينيات بعد أن وصلت المرتّبات حينذاك حد أنها لا تسد أُجرة الذهاب إلى العمل. وكانت تجد المرأة العاملة منفلتة من سياق أخلاقيات العشيرة، وأنها تتعرّض للتحرش باستمرار، وأن احتكاكها مع الرجال سيعرّضها لعلاقات غرامية لا آخر لها. لكن بعد تبدّل الأوضاع السياسية والاقتصادية في الأعوام الأخيرة، وغلاء المعيشة وارتفاع ايجار المنازل، أصبح على المرأة أن تنزل لسوق العمل من أجل مساعدة الرجل في سد احتياجات الاسرة التي لا تنتهي، وأصبح على الرجل، الذي كان قبيل فترة غير راضٍ عن عمل المرأة، والملتزم بالأعراف التي تجد أن عمل المرأة "عيب"، أن يرضخ لغلاء المعيشة، وأن يستغل شهادة زوجته الدراسيّة، حتّى وصل الأمر إلى أن تعيل 37.6 في المئة من نساء العراق أسرهن، بحسب بحث لجامعة بغداد.
ويُقدر عدد سكان العراق بنحو 31.7 مليون نسمة، وتعتبر المرأة ذات التعليم العالي الاكثر نشاطاً في سوق العمل، وتشكل النساء نحو 16 في المئة من اجمالي القوى العراقية العاملة، وتبلغ نسبة النساء المشاركات في القوى العاملة من بين اللواتي يحملن شهادة دبلوم فأعلى 68 في المئة، مقارنة مع 8 في المئة من بين النساء اللواتي لم يحصلن على شهادة التعليم العالي. لكن هذا لا ينفي وجود نسبة أمية بين النساء تبلغ 24 في المئة، ما يعني ضُعف نسبتها تقريباً مقارنة بالرجال العراقيين.
وتكاد أغلب "النسوان" في العراق أن يصبحن "كيّا" على مقياس عمّتي، لأن 60 في المئة من النساء العاملات يعملن في القطاع الحكومي، بحسب الجهاز المركزي للاحصاء.
للمرأة مخاوفها
وللمرأة العاملة قلقها أيضاً، بالرغم من أنها أثبتت جدارتها في العمل، إذ تصنف النساء تحت قبّة البرلمان بأنهن الأكثر حضوراً لجلسات البرلمان، وأقل فساداً من النواب الرجال. إلا ان الجو العشائري العام يفرض على المرأة هذا الخوف، إذ تقلق 90 في المئة من النساء العاملات المتزوّجات من إهمال الزوج لها، وتعاني 88.14 في المئة من قلق هجران الزوج، وتخشى 47.1 في المئة منهن الطلاق، فضلاً عن أن 27.14 في المئة يعانين الخوف من عنف الأزواج. وتفسّر دراسة لقسم علم النفس في جامعة بغداد هذا القلق بأنه بسبب "تعدد الزوجات والانحلال الأخلاقي وعدم مساعدة الزوج".
وللمرأة أيضاً نصيبها من الخوف بسبب تردّي الوضع الأمني المتزايد في العراق، إذ تعاني 90 في المئة من النساء العاملات في العراق من قلق الموت، ما يؤدي ب60 في المئة منهن إلى الانفعال، و 71.6 في المئة منهن الى الشعور المستمر بالذنب.
وتعتبر مشاركة المرأة في السياسة دون المستوى المطلوب، حيث بلغ في عام 2010 متوسّط نسبة عدد مقاعد البرلمان التي تشغلها نساء نحو 27 في المئة، بحسب الأمم المتحدة.
أماني ضالة
تمنّت عمّتي، التي تخرّجت من مدرسة محو الأميّة في الثمانينات، أن تكون "كيا" زمانها. هكذا أسرّت لي أخيراً، معترفة أن الوقت تبدّل وأن الأوان قد آن للاعتراف بأن القيم السابقة أصبحت بالية، وأن الاعتراف بالذنب فضيلة. لكن في الوقت الذي عرفت فيه هذه المرأة الأميّة وبعض شبيهاتها تطوّر المجتمعات، وحاجة العمل والحقوق والتساوي، تلبّست الحكومة عباءة عمّتي القديمة حين وافق مجلس الوزراء العراقي على قانون الأحوال الشخصية المذهبي الذي يعيد المجتمع إلى قمّة التخلّف، حيث يبيح هذا القانون - الذي كان نكتة وتحوّل فجأة إلى واقع حال - زواج الفتاة بعمر التاسعة (الهلالية)، وزواج الولد وهو بعمر 15 عاماً (هلالي)، كما يعتمد اثبات النسب على "البينة على من ادّعى واليمين على من انكر".
ويصبح الطلاق ممكناً، وفق هذا القانون، إذا ما وُجد عيب في أحد الزوجين. ويتم "إثبات العيب في الأعضاء التناسلية عن طريق الشهود واليمين"، وليس للجان الطبيّة أي دور في هذا الأمر. كما يلزم القانون الجديد، الذي لفّه وزير العدل ووضعه، على طريقة العجائز، في ضريح أحد الائمة، المحامي أن يكون "فقيهاً" بحسب مذهبه، ما يعني أن ليس عليه من الآن فصاعداً أن يدرس الحقوق في الجامعات العراقيّة.
يأتي إقرار هذا القانون قبيل أسبوعين من احتفال المرأة بيومها العالمي، وكأن الحكومة التي شاهدت محاولات المرأة الانعتاق من الذكورية والعشائرية، تحاول القول لها بيومها: وُئدتِ سابقاً في الجاهليّة، وستوأدين في أيام النفط أيضاً.