في شهر تموز / يوليو من العام الماضي اغتيل 3 أطباء في مناطق متفرقة من العاصمة بغداد خلال 24 ساعة. استهدف هؤلاء بواسطة مسدس كاتم للصوت. خاف الأطباء، وأغلق بعضهم عيادته لأيام، لكن الاغتيال ليس وحده من يخيف أصحاب «المهنة النبيلة»، فالعشائرية التي تضرب أطنابها في العراق رمت بظلالها عليهم، وصار على الطبيب إذا ما مات تحت يديه عليل في عمليّة جراحية، أن يجلس تحت خيمة مع أحد شيوخ العشائر ليتفاصل معه بشأن «الديّة» التي يجب أن يدفعها.
هجرة الإيدولوجيا، هجرة الخوف
مع نهاية عقد السبعينيات شهد العراق هجرة الكثير من الكفاءات بسبب بطش نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بالأحزاب اليسارية والإسلامية، والتي كان من بين المنتمين إليها الكثير من الأطباء. ومع بداية حرب الثمان سنوات مع إيران 1980-1988، بدأ إنفاق الدولة على القطاع الصحي يتضاءل. ومع مطلع التسعينيات، حين وصلت حروب صدام حسين إلى غزو الكويت، الذي تمخض عنه حصار اقتصادي بموجب قرارات دولية صارمة، انهكت كل القطاعات في العراق، حيث بلغ الإنفاق على قطاع الصحة 2.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ما جعل مرتب الطبيب لا يتعدى أربعة دولارات شهرياً. ترافق الخوف من البطش مع الخوف من الإفقار المقصود وغير المقصود، ليشرعا في إعلان الهجرة الأكبر لأطباء العراق، حيث قام بعضهم بالتحايل ودفع الرشى لدوائر السفر من أجل عدم تثبيت مهنتهم كطبيب في جواز السفر، وإبدالها بمهن أخرى للالتفاف على قرار منع الأطباء من السفر حينذاك. وخلال عقدين من الزمن العراقي المر، هاجر نحو 20 ألف طبيب من العراق، بحسب احصاءات وزارة الصحة.
وبعد احتلال بغداد في نيسان 2003، شُنت حملة منظّمة تستهدف الكفاءات العراقية، وبمقدتهم الأطباء. وقتها، لم يعرف أحد من الذي يقف خلفها، وانبثقت من هذه الاستهدافات المتكررة موجة هجرة جديدة، حيث بلغت نسبة الأطباء الذين هاجروا خارج العراق بعد عام 2003 نحو 60 ـ 70 في المئة من أصل العدد الكلي المسجل لدى نقابة الأطباء العراقيين البالغ 34 ألف طبيب، فضلاً عن هجرة أعداد غير معروفة من الكوادر الطبية الوسطية، بحسب إحصائية لوزارة الصحة نشرت مطلع العام الماضي. وتقول مؤسسة «ميداكت» البريطانية أن من بين هؤلاء المغادرين قسراً، لا ينوي العودة الى العراق سوى عدد قليل.
وفي عام 2011، أصبح لدى العراق 7.8 طبيب لكل 10,000 شخص، وهو معدل أقل مرتين، إن لم يكن ثلاث أو أربع مرات، من جيرانه مثل الأردن ولبنان وسوريا، وفق منظمة الصحة العالمية.
وتعاني 12 مستشفى سعة 400 سرير في العراق من نقص حاد في الملاكات الطبية، بعد أن تسرّب الأطباء العراقيون إلى بريطانيا، التي تعد من اكثر الدول التي استقطبت الكفاءات العلمية العراقية، حيث يوجد فيها خمسة آلاف طبيب عراقي، فضلاً عن وجود ألف وخمسمئة طبيب آخرين في الإمارات وقطر، حسب وزارة الهجرة.
السلطة للعشيرة
ولم يكن حال الأطباء الذين آثروا البقاء في العراق محط اهتمام وحماية السلطات الجديدة، سلطات الاحتلال منها أو السلطات المحلية، حيث تُرك هؤلاء نهباً للقيم والاعراف العشائرية التي تغولت بعد سقوط نظام صدّام حسين وغياب مؤسسات الدولة. ففي 29 أيار / مايو 2012، أضرب أطباء مستشفى القادسية في مدينة الصدر شرقي بغداد عن العمل بسبب تهديد عشائري لأكبر أطباء المستشفى، بعد أن توفي أثناء الجراحة أحد مرضاه. لكن توقيع وزارة الصحة «وثيقة التعايش السلمي» مع وجهاء مدينة الصدر أعاد الأطباء إلى العمل. ومن أجل ألاّ تتفاقم الأمور، عادت وزارة الصحة لتوقع في حزيران / يونيو من العام نفسه مع جميع عشائر العراق ميثاق تعاون تضمن «انه ليس من حق اي عشيرة ان تقرر تقصير الطبيب في أداء واجبه تجاه المريض، وفي حالة الشك بتقصير الطبيب يتم ابلاغ مكتب المفتش العام، وتشكل لجنة تحقيقية بالموضوع بموجب قانون انضباط موظفي الدولة». لكن هذا الميثاق سرعان ما أثبت عدم فاعليته، حيث تعرّض أطباء في مستشفيات البصرة إلى اعتداءات متكررة بالضرب والملاحقة العشائرية، وخاصة في أقسام الطوارئ، وطالب هؤلاء الحكومة المحليّة بحمايتهم، بحسب ما أعلن مدير مستشفى الشفاء في آب/ أغسطس عام 2013.
وفي تشرين الأول / أكتوبر من العام الماضي، سجلّت محافظة ديالى تسع حالات «فصل» عشائري، أي «دية» بحق أطباء، وقد بلغت في بعض الحالات 50 مليون دينار (40 ألف دولار). وسجّلت أيضاً مقتل وجرح 450 من الكوادر الطبية في أعمال العنف، فضلاً عن هجرة مئات الاطباء الى اقليم كردستان وباقي المحافظات.
قانون في براد الموتى
وبعد أن تفاقمت أوضاع الأطباء، وبعد أن أصبحت هجرتهم أمراً واقعاً، أقر البرلمان العراقي قانون حماية الأطباء في تموز / يوليو من العام الماضي، الذي تأجلت مناقشته لمرات عدة بسبب الخلافات بين الكتل السياسية. وتضمن القانون عقوبة لا تقل عن ثلاث سنوات وغرامة لا تقل عن عشرة ملايين دينار على كل من يدّعي بمطالبة عشائرية أو غير قانونية ضد طبيب عن نتائج أعماله الطبية. ويعاقب أيضاً كل من يعتدي على طبيب في اثناء ممارسة مهنته بالعقوبة المقررة لمن يعتدي على موظف اثناء تأدية وظيفته أو بسببها.لكن هذه القوانين لا تثبت جدواها ما دام السياسيون أنفسهم يلجأون إلى تقوية سلطة العشائر قبيل كل انتخابات، وهم أيضاً الذين يمنحونهم المسدسات التي تصوّب إلى جبهات الأطباء.
المشكلة الرئيسة أن الحكومة العراقية تحاول إقناع هؤلاء الأطباء بالبقاء داخل البلاد أو العودة إليها، إلا أنها لا تقدّم لهم سوى الضمانات العادية: مرتبات أقل من تلك التي يتقاضونها في الخارج، وتقاعد لا يتناسب مع عطاء السنوات، والادهى هو مصيرهم المتروك للصدفة المتواطئة مع أمزجة القتلة الذين يجوبون الشوارع من دون رادع قانوني، وللعقليّة الثأرية، التي تقتاد الطبيب بسماعاته وصدريته الأنيقة إلى خيمة الشيخ، ليدفع «دية» اجتهاده العلمي، أو يوضع في براد الموتى إلى جانب القانون الذي من المفترض أن يحميه.إنها محنة تختزل مصيبة التاريخ في بلد جرد من تاريخه.. محنة المواطن حين يداهمه المرض، كما هي محنة الطبيب حين يقارع علمياً ذلك المرض، في بلد يعاني الأمراض التي أصبح بعضها عصيّاً على الشفاء خلال الزمن المنظور.