شبّت النار في نهر دجلة. اعتُقِد في البدء أنها معجزة جديدة من معجزات العراق التي تتكاثر بشكل كبير. لكن سرعان ما انكشف الأمر. فقد فجّرت مجموعة مسلحة ثلاثة أنابيب للنفط في محافظة صلاح الدين شمال بغداد عبر زرع عدد من العبوات الناسفة تحتها، الأمر الذي أدّى إلى تسرّب بقع نفط إلى وجه النهر. وهنا، سارع فلاح كان يعتقد أن حرقها سينجّي محاصيله والنهر سويّة منها، فأشعلها وسارت إلى المحافظات، وازدادت ازمات العراق أزمة جديدة.
الخيرات «الاثنية»!
منذ نهاية العام الماضي دخلت الأزمات المتوالدة في العراق مرحلة جديدة. إنها مرحلة حرب المياه. فحكومة إقليم كردستان تهدِّد بقطع المياه عن باقي محافظات العراق في حال لم توافق الحكومة الاتحادية على تسديد حصة الإقليم من الموازنة المالية للعام الجاري. وتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)» الذي يسيطر على الفلوجة وأجزاء أخرى من محافظة الأنبار غرب العراق، يقطع مياه الفرات عبر سد الفلوجة عن محافظات الوسط والجنوب، وديالى وبغداد تُقطع عنهما المياه بسبب بقعة النفط التي تسير كقارب خرب على النهر من دون أن تجد الحكومة أي حلٍّ لها. هو إذاً استغلال الموارد في حرب طائفية وقوميّة غير معلنة. فملفا المياه والنفط هما كقنبلتين موقوتتين تفرضان نفسيهما على الواقع الجغرافي والديموغرافي في العراق، وقد أشعل فتيلهما التصنيف الاثني والطائفي المركّب للنسيج العراقي الذي تبلور بشكل واضح بعد الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003. إما إمكانية التحكم بهذه الموارد، فقد أضحت ورقة رابحة للطوائف والقوميات الرئيسة في العراق («السنة والشيعة والكرد»)، ما جعل هذه المكوّنات تعتبرها مصدراً للقوة، فتستطيع من خلالها مناورة المكونين الآخرين.
إذ يمتلك الشيعة في مناطقهم ما يعادل التسعين في المئة من الخزين النفطي العراقي، فيما يمتلك الكرد إمكانية التحكم بمنسوب مياه نهر دجلة الذي يدخل الأراضي العراقية من مناطقهم عبر سدي دوكان ودربندخان، فيما يتحكم السنة بمنسوب نهر الفرات الذي يدخل أراضيهم في منطقة القائم على الحدود مع سوريا عبر مجموعة من السدود والأحواض، أهمها الثرثار وحديثة وسد الموصل والنعيمية في الفلوجة.وعلى هامش الخلافات بين الحكومة المركزية في بغداد، وحكومة إقليم كردستان في اربيل، حول ادعاء الإقليم بحقه بالتصرف بما يُستخرج من كميات النفط من أراضيه مع احتفاظه بحصته من الموازنة المالية العراقية البالغة 17 في المئة من كامل الموازنة، والتي هي محل خلاف بدورها، امتنعت الحكومة الاتحادية عن تسديد حصة الإقليم تلك ما لم يوضع النفط «الكردي» تحت إشراف الحكومة المركزية، فتعود عوائده للميزانية الاتحادية، الأمر الذي ادعت حكومة الاقليم أنه أثر على سيولتها النقدية وجعلها تتلكأ بدفع رواتب الموظفين الكرد في الإقليم، مهددة باللجوء إلى جملة إجراءات رداً على موقف الحكومة الاتحادية، من ضمنها قطع مياه دجلة عن بقية مناطق العراق من خلال غلق سدي دوكان ودربندخان. وعلى الرغم من نفي حكومة الإقليم لهذا الأمر، وتقليل القيادات الكردية من أهميته، إلا أن الوقائع على الأرض تقول إنه قد تمّ غلق سد دوكان لفترة وجيزة، أدت الى تخفيض حصة المياه عن بعض المساحات الزراعية التابعة لمحافظة كركوك وتهديد أكثر من 500 دونم من الأراضي الزراعية في المحافظة بالموت... ما فسّر كـ«قرصة إذن» للحكومة المركزية، وإثبات قوّة إقليم كردستان في تعطيل بعض الشؤون العراقية المهمّة، ومنها الري.
الفرات.. العطش والدم
بمقابل هذا، يكتسي قرار تنظيم «داعش» بقطع مياه نهر الفرات عن مناطق الوسط والجنوب العراقي شكل التحدي لحكومة رئيس الوزراء نوري المالكي، التي لم تتمكن من حسم المواجهة العسكرية التي بدأتها قبل أكثر من أربعة أشهر من الآن مع التنظيمات المتطرفة في مدن الأنبار. كما أنه يهدف إلى تفجير حالة من الضغط على الحكومة من قبل سكان مناطق الوسط والجنوب العراقي، حيث معظمهم يمارس مهنة الزراعة. ما يعني أن قطع مياه الفرات عن أراضيهم يقطع أرزاقهم بشكل مباشر. لكن عشائر الوسط والجنوب العراقي لجأت الى التهديد بمحاربة «داعش» ومَن يقف خلفها من أجل إعادة المياه الى مجرى الفرات.«داعش» الذي بدا مناوراً ومتحكّماً بالموارد، وأخذ يعتمد على التمويل الذاتي عبر تهريب النفط والسلاح إلى سوريا، قطع المياه عن الجنوب مرّتين. كانت المرّة الأولى في مطلع شهر نيسان / ابريل، إلا أن ارتفاع منسوب المياه في مدينة الفلوجة، وغرق أجزاء منها، أجبره على فتح السدّ مجدداً. ثم عاد ليكرّر فعلته بعد أسبوع، وأغلق السدّ، ما مثّل تحدّياً أكبر للحكومة التي أكّدت أن المحافظة ستغرق. بالفعل غرقت أجزاء كبيرة من الفلوجة، وانتقلت المياه إلى اطراف بغداد، وصارت الصور تنقل من قضاء أبو غريب الذي يقع على أطراف بغداد غرق منازل بشكل كامل (غرقت 41 مدرسة بحسب محافظ بغداد ونزحت 400 عائلة)، فيما الحكومة، ورئيس الوزراء على وجه الخصوص، يغطّون في صمت عميق، والحكومة المحلية في الأنبار والخبراء يؤكدون أن المياه ستصل إلى العاصمة قريباً.
حرب بلا حلول
هي إذن حرب المياه بالمياه وليس عليها، لكن الأطراف السياسية التي تدّعي التمثيل الطائفي، السنية منها والشيعية، تتقاذف كرة الاتهامات غير عابئة بالكوارث التي ستنتجها هذه الحرب سواء على مستوى «تعطيش» مناطق واسعة من العراق أم على مستوى أرزاق أهالي المناطق التي ستتضرر محاصيلهم الزراعية ويتكبدون خسائر طائلة بسبب الفيضانات، إضافة الى ما ستخلفه هذه من أمراض بين أهالي المناطق المحيطة بتلك المناطق الغارقة وهو ما بدأ حول أطراف الفلوجة. والأهم من كل ذلك، تتسبب هذه العملية بتوقف محطات توليد الطاقة الكهربائية التي تعاني بالأساس نقصاً في الإمدادات، ما سيجعل حياة العراقيين جحيماً في صيف يبدو قائظا منذ أيامه الأولى. فرئيس مجلس الوزراء نوري المالكي يقول إن «حياة الناس مهدّدة بالخطر وليس مزارعهم وممتلكاتهم فحسب»، ويعد باستخدام «أقصى درجات القوة من اجل إنقاذ حياة الناس والأراضي الزراعية، وعدم السماح لهؤلاء القتلة باتخاذ مدينة الفلوجة قاعدة»، أما رئيس «مؤتمر صحوة العراق» أحمد ابو ريشة، والذي يناصر المالكي في حملته العسكرية، فيقول إن «من يحاول قطع المياه عن أهلنا في الجنوب والفرات الأوسط فسنقطع يده قبل رأسه»، لكن مجلس محافظة الانبار يؤكد عدم وجود رؤية لدى الأجهزة الأمنية والعسكرية في المحافظة لمعالجة مشكلة قطع المياه من قبل تنظيم «داعش»، ويؤشر أيضاً الى خلل لدى وزارة الموارد المائية لعدم وجود رؤية لديها لمعالجة ملف المياه وقطعه، وبالمقابل تتهم أطراف سياسية «سنية» حكومة المالكي بتوجيهه لإغلاق ثلاث بوابات من سد الفلوجة بشكل كامل.حرب «التعطيش» و«الإغراق» هذه، أخذت تستغلها الأحزاب من كلتا الطائفتين لتلمَّ حولها العراقيين، فالأحزاب السنية تنتقد آلية رئيس الوزراء في معالجته الأزمات في مناطقهم مما فاقمها أكثر، فيما تظلّ الأحزاب الشيعية، وعلى وجه التحديد حزب المالكي، يسرّب عبر نوابه رسائل طائفية مفادها أن ما يحصل هو بسبب تغطية الأحزاب «السنيّة» على «داعش»، وبالتالي فهي فرصة لإعادة هيكلة المجتمع على أساس طائفي للظفر بأصوات من الجانبين، فيما العراق يغرق ويعطش ويموت.. أيضاً.