دَفْعُ رئيس مجلس الوزراء، نوري المالكي، باتجاه مكوثه على سدة الحكم لولاية ثالثة ينذر بإعادة البلاد إلى سكّة الديكتاتورية مجدداً. ثمّة دلائل على الأمر، أوّلها، إعادة المتورطين بقضايا فساد وإرهاب إلى جسم العملية السياسية، عبر إسقاط التهم الموجهة إليهم قضائياً، وزجهم في معترك الانتخابات البرلمانية. ويحصل هذا بعد أن سيطر المالكي نفسه على المؤسسة القضائية عبر عزل رئيسها المعروف بنزاهته وفرض رئيس جديد لها، من المقربين منه.
وثاني هذه الدلائل هو السيطرة على مفوضيّة الانتخابات، التي أسقطت التهم عن المقربين من المالكي، وسمحت لهم بخوض الانتخابات، في حين منعت مرشحين من الكتل السياسية المناوئة من خوض السباق الانتخابي.
وكان الحدث الأكثر مفاجأة هو نقض التهم الموجهة إلى مشعان الجبوري، السياسي الذي قال من على شاشات التلفزيون أن مهمته المقبلة بعد الفوز بمقعد في البرلمان هي "محاربة الاحتلال الكردي للعراق"، الأمر الذي يجعله شوفينياً وفقاً للدستور ولقانون المفوضية ذاتها، وكان يستوجب منعه من خوض غمار المنافسة الانتخابية.
ثالث الدلائل، والتي تعدّ الأكثر تعديّاً على حريّة التعبير، هي السيطرة على هيئة الإعلام والاتصالات، المؤسسة المسؤولة عن البث الفضائي في العراق، إذ أغلقت هذه الهيئة - وتغلق أيضاً - مكاتب عدّة لقنوات فضائية في العراق، عراقية وعربيّة ودوليّة، لأنها لا تمالئ حكومة المالكي. وآخر ما فعلته هو مخاطبة مؤسسة نايل سات من أجل إغلاق قناة "البغدادية" التي تفرد نحو ساعة كاملة يومياً لعرض ملفات فساد تدين حكومة المالكي، بالإضافة إلى إدانة تدخّل المقربين منه في صناعة القرار، والسيطرة على مفاصل الدولة.
معارك.. بلا طائل
من أجل البقاء في السلطة، فكان لا بدّ من رفع منسوب الغليان الطائفي في العراق قبيل الانتخابات. ولضمان تصويت الشيعة لكتلته الانتخابية، دشّن القائد العام للقوات المسلّحة نوري المالكي، في كانون الأول /ديسمبر من العام الماضي، حملة عسكرية واسعة للقضاء على معسكرات وأوكار "الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)" في الأنبار. وفي هذه الأثناء، وبينما كان المعتصمون يملأون مئات الخيم المنصوبة في الرمادي، بدأ الجيش عملياته في الصحراء، وكان من المقرّر أن تنتهي فيها، إلا أنه سرعان ما عاد ليدخل المدن، ويفض خيام المعتصمين بذريعة أنها تشكل ملاذاً لقتلة وإرهابيين لم يسلّمهم قادة الاعتصام للحكومة. أعلن المالكي بعدها أن عملياته هي "ثورة الحسين ضد يزيد"، مستعيراً جدلاً تاريخياً ما يزال حاراً في العراق.
لم يحسم الجيش المعركة حتّى الآن، وظلّت مدينة الفلوجة (التي شهدت ثلاث عمليات مشابهة بعد 2003) عصيّة على دخول الجيش بعد أن تحصّن فيها المقاتلون. ولكن الأمر الأسوأ هو الاستعارة التاريخية المقابلة التي لجأ إليها تنظيم "داعش"، وهي قطع المياه عن مناطق وسط وجنوب العراق عبر إغلاق سد الفلوجة على نهر الفرات مرّتين.
ولا يعرف أحد مقدار الخسائر البشرية في صفوف الجيش حتّى الآن، إذ تحرص الأوساط الحكومية أن تبقيه طي الكتمان، وسط تكهنات تقول إن الأعداد كبيرة جداً. أما في صفوف المدنيين، فيقول مستشفى الفلوجة وحده إن 221 شخصاً قتلوا بينهم نساء وأطفال، فيما وصل عدد الجرحى الى 1084. أما تكلفة الحرب في الأنبار، فيقول المركز العالمي للدراسات التنموية في بريطانيا إنها تبلغ يومياً نحو 7 ملايين دولار.
لكن هل كان بإمكان المالكي تجّنب هذه المعركة؟ المالكي هو المسؤول الرئيس عن تمدّد تنظيم "داعش" في الأنبار، بعد أن تخلى عن الصحوات القبائلية التي أسسها الجيش الأميركي في العام 2007 للقضاء على "القاعدة" (ونجحت في ذلك)، حيث عمد الى تقليص تمويل هذه المجموعات التي تعرف الأرض جيّداً، ورفض دمجها مع الجيش، بحجّة أنها تثقل على الموازنة، مما دفع الأهالي إلى القيام بالكثير من الاحتجاجات على بطالة أبنائهم.
كلف المالكي البلد بخطواته الارتجالية في القضاء على "داعش" مبالغ مالية طائلة وعدداً كبيراً من القتلى والجرحى من الطرفين، وهم عراقيون في كل الاحوال، إضافة الى تشريد عشرات العوائل من أهالي المدينة الذين هاجروا خوفاً من العمليات القتالية المستعرة والقصف اليومي الذي لا يميِّز بين المقاتلين والمسالمين. وبعد أن التهمت الحرب حطب الجيش، بشراً ومعدات، زجّ المالكي بمتطوّعين جدد في تشكيلات القوات الأمنية، ليعود نزيف المال مجدّداً.
الحفاظ على السلطة
أصبح المالكي معروفاً لدى الجميع بتمسكه بالسلطة وبمنصبه وبأيّ ثمن، لكن الخطوات ليست سهلة بأي حال من الأحوال، فما الحل؟
في كانون الثاني / يناير، صوّت 170 نائباً في البرلمان العراقي على مقترح تحديد مدد الرئاسات الثلاث، رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء والبرلمان. ثار ائتلاف المالكي، وذهب إلى المحكمة لينقض القانون، وبعد سبعة أشهر نقضت المحكمة الاتحادية مقترح القانون، وسمحت للمالكي بالترشَّح لولاية ثالثة.
بعد هذا، بدأ المالكي محاولات إرضاء النقيضين الدوليين الرئيسيين، المسؤولين عن الموافقة على تعيين رئيس الوزراء في العراق، الولايات المتحدّة الأميركية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية. أتقن المالكي أصول اللعبة مع واشنطن، فعرف كيفية إرضائها، إذ ظلّ طوال السنوات الماضية حريصاً على تحقّيق صفقات تسليحية مع واشنطن بمبالغ طائلة من دون أن يتسلّم أسلحة، لأن الكونغرس الأميركي يرى في تسليم تلك الأسلحة إلى يد الجيش العراقي تهديداً محدّقاً على السنّة في غربي البلاد، وعلى الكرد في شمالها.
وفي آب /أغسطس من العام الماضي، وافقت واشنطن على تقديم نظام دفاع صاروخي متكامل للعراق قيمته 2.6 مليار دولار، وبلغت قيمة صفقة شراء 24 مروحية اباتشي نحو 4 مليارات و800 مليون دولار، بالإضافة إلى تخصيص نحو 19 في المئة من موازنة العام الحالي للتسليح، ستذهب أغلبها إلى الولايات المتحدة الأميركية. ويعتبر خصوم المالكي أن هذه الصفقات كفيلة بموافقة واشنطن على إبقائه في منصبه.
أما إيران، فإن حكومة المالكي كانت الحامي الرئيس لاقتصادها. فقد ظلّ العراق طوال سنوات فرض الحصار الدولي على إيران يحقّق أعلى معدلات التبادل التجاري معها، وفي العام 2012 بلغ حجم الصادرات الإيرانية إلى العراق نحو 11.97 مليار دولار، وشملت أنواع السلع والخدمات الفنية والهندسية والسياحة، وارتفع حجمها في العام 2013 الى نحو 12.5 مليار دولار، ومن المتوقّع أن يرتفع في العام 2014 إلى نحو 15 مليار دولار. وبالإضافة إلى ذلك، فإن العراق فتح حدوده لتهريب النفط الإيراني إلى تركيا، الأمر الذي ساعد كثيراً في كسر الحصار الاقتصادي على إيران وإنعاش اقتصادها.
هل تتكرّر الصدفة؟
بدأ المالكي، الذي حلّ في منصبه العام 2006 بعد أن رفض الاحتلال الأميركي حينها استمرار ابراهيم الجعفري في الحكومة، منذ ذلك الوقت برسم مخطط واسع متعدّد الاتجاهات لبقائه أطول فترة ممكنة في الحكم، فعمد الى استمالة المؤسسة العسكرية والأمنية، ووضع يده على المفاصل الإعلامية والمالية والقضائية، وصنع أرشيفاً متكاملاً من ملفات الفساد والإرهاب التي تعني خصومه السياسيين، والتي يلوح بها بوجوههم متى ما رفع أحد منهم رأسه.
ففي الانتخابات البرلمانية التي جرت العام 2010 وتخلّفت فيها قائمة دولة القانون التي يتزعمها المالكي عن القائمة العراقية التي يقودها اياد علاوي بمقعدين، (مما يعني أن العراقية ستشكل الحكومة)، عمد المالكي الى استصدار تأويل قانوني من المحكمة الاتحادية للمواد الدستورية المعنية بتشكيل الحكومة، وجعل الأغلبية تحت قبة البرلمان من خلال التحالفات وليس أغلبية أصوات المقترعين، وانتزع آنذاك حق تشكيل الحكومة من بين أيدي علاوي الذي اكتفى بمنصب مستشار السياسات الإستراتيجية... الذي لم يتحقق له هو الآخر.
أما بعد انتخابات 2014، فالمؤشرات تقول إنه سيعمد إلى استثمار الحالة الأمنية المتردية. ولو احتاج الأمر، فسيفعِّل قانون الطوارئ الذي جمّله بتسمية "قانون السلامة الوطنية". تلك هي أسباب تقف وراء الهواجس بأن ثمة مخاضاً لولادة دكتاتورية جديدة في العراق. وبذلك ستبدو واقعية رسالة السفارة الأميركية في بغداد للبيت الأبيض عندما وافق على تجديد الولاية الثانية للمالكي، بأننا "نصنع دكتاتوراً جديداً".