في عشرينيات القرن الماضي، اقتحمت جاموسة هائجة أثناء استعراض كشافة المدارس الابتدائية بحضور الملك فيصل الأول وبعض من وزرائه، ساحة القلعة في أول شارع الرشيد. قامت قوّات الشرطة حينها بإطلاق النار على الجاموسة، وحبس صاحبها، بسبب مخالفة مالكها القوانين بعدم وضع عصا كبيرة في قدمها كي تعيق حركتها، كما كان متعارفاً عليه. بعد عشرة عقود من تلك الحادثة، عادت جاموسة الخراب لتلطم بأرجلها كل شيء، وتخرّب القلعة والشارع على حدٍّ سواء.
شارع الرشيد.. حكاية بلاد
من أقدم شوارع العاصمة شارع الرشيد أو جادة خليل باشا، الذي صمّمه العثمانيون العام 1916 والذي وُضع نموذج بنائه في باريس (وهو لذا يشبه الى حد كبير قسماً من شارع ريفولي فيها). وهذا الشارع شهد أبرز الأحداث السياسية للبلاد، ففي العام 1920 وقف العراقيون لمواجهة الحكم الإنكليزي بمسجد الحيدرخانة الشهير الذي بُني العام 1819. وفي العام 1948 خرجت انتفاضة شيوعية من ذلك الشارع. وفيه بدأ حزب البعث العام 1959 أولى عملياته للسيطرة على الحكم، بمحاولة اغتيال أوّل رئيس وزراء البلاد وقتها، عبد الكريم قاسم.
ويضم الشارع معالم تراثية مهمة، منها جامع حسين باشا، فضلاً عن أسواق هرج والسراي ودانيال والصفافير، وخانات المدلل، ودله والشابندر والخضيري، والسراي الحكومي أيام العثمانيين.
وفي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، توقّفت معالم مهمّة من هذا الشارع عن العمل وأُغلقت أخرى: سينما الزوراء في التسعينيات أغلقت أبوابها، وتحوّلت إلى استراحة للجنود الذين ينتظرون سيارات التحاقهم إلى ثكناتهم العسكرية. مقهى البرلمان وبار شريف وحداد أغلقا، فيما لحق بمقهيي أم كلثوم والزهاوي خراب كثير.
بعد العام 2003، دخلت قوات الاحتلال الأميركي إلى الشارع، وكأن الدلالة السياسية على وجوده عادت مجدداً، إلا أن هذه العودة لم تضمر الكثير في داخلها، فهو تحوّل إلى معبر يومي لقوّات الاحتلال عبر الجسور المتفرعة منه إلى الكرخ والمنطقة الخضراء، التي تدار فيها العمليّة السياسية.
وفي العام 2007، أعدّت مجموعة شركات، بتكليف من «هيئة استثمار بغداد» مخطّطاً لتطوير الشارع واكتشفت أن ما تبقّى من المباني التاريخية والمواقع الأثرية هي 254 موقعاً من أصل 526 مبنى وداراً، ظلّت موجودة حتى العام 1984.
أموال.. قبض ريح
في العام 2010، أعدّت الحكومة العراقية خطّة بكلفة 5 مليارات دولار لإعادة إعمار العراق بعد رحيل القوات الأميركية، شملت إعادة بناء شارع الرشيد الذي يمثل المركز التجاري والثقافي للمدينة. وأنجزت آنذاك مجموعة استشارية مكوّنة من 7 شركات دولية متخصصة خرائط هندسية وتصاميم ودراسات فنية بكلفة 7 ملايين دولار من أجل إعادة النبض إلى الشارع، وأعدّت الشركة صوراً لما سيكون عليه الشارع، وراعت الأهميّة التاريخية له، ووضعت في الخطة «تراماً» لولبياً للحفاظ على الشارع من السيارات. وشملت الخطّة أيضاً الأزقة المتفرعة من شارع الرشيد نفسه، والتي لا تقلّ أهميّة عنه. لكن المخطط لم ينفذ، وسرعان ما اتهمت الشركة بعمليات فساد، ولم يتوانَ أحد المدراء المشاركين في خطة التصميم عن القول إنه «لا بأس من استخدام القليل من الرشاوى لتحقيق تلك الأهداف (الإعمار)»، والمخطّط ما يزال معتمداً لدى هيئة الاستثمار الوطنية، الجهة الرئيسة المعنية بتطوير بغداد، لكنه لم يتم العمل به حتّى الآن.
وفي العام 2011، عادت أمانة بغداد لتؤكد أن المخطط سيتم العمل به قريباً بعد تأسيس شركة إعمار مكوّنة من شركات خاصة وأخرى تابعة للدولة لتنفيذه، لكن طوى النسيان الأمر من جديد. وفي تشرين الثاني/نوفمبر من هذا العام، عادت أمانة بغداد من جديد الى القول إنها ستطوّر شارع الرشيد، إلا أن هذا التطوير اقتصر على تبليط بعض الشوارع، وتجديد الأرصفة التي كلّف أحدها ... 7 مليون دولار؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟.
وقبل نحو عام، قامت محافظة بغداد بترميم بناية القشلة التي تتفرّع من أحد أزقة شارع الرشيد، وهي كانت تسمى «دار المصالح الحكومية» زمن الاستعمار البريطاني. استردت القشلة بعض عافيتها، ولكن الخطوة كانت جزءاً من ذر الرماد في عيون المثقفين والصحافيين الذين يحضرون إلى شارع المتنبي الملاصق لها. المحافظ وضع حجر أساس ترميمها، ووقّع اسمه في آخر الحجر، وصار يأتي كل أسبوع اليها، وإلى المركز الثقافي الذي افتتح بالتوقيت نفسه، وإلى شارع المتنبي. يمشي مزهوّاً كطاووس، فيما على يساره الأزبكية ظلّت تنوح بخرابها كأم ثكلى. ولم تستمر ساعة القشلة بالعمل، وسرعان ما توقفت وكأنها لا تقبل بما يدور حولها، معلنة أن الوقت لم يعد مهماً في ظلِّ الخراب الذي تعيشه بغداد وعمارتها.
بغداد.. لم تعد بغداد
وفي تشرين الأول / أكتوبر الماضي، مرَّ خبر سريع من دون أن يثير أي ضجّة: لم يتبقَّ سوى 600 بيت تراثي من أصل 1300، وهي معرّضة للزوال. في السنوات العشر الماضية، هُدم نحو 700 بيت تراثي. أُعدمت بالكامل ملامح مدينة، وشيّدت على أنقاضها دور سكنية وعمارات تجارية قبيحة تفتقد لأدنى أساليب العمارة البغدادية.
مجلس محافظة بغداد الذي زفَّ إحصائية البيوت التراثية اكتفى بذريعة ضعف التخصيصات المالية: «مجلس المحافظة السابق والحالي طالب لأكثر من مرة بتطوير المناطق التراثية (..) ولم يصغ أحد لأن هكذا مشروع بحاجة الى دعم حكومي كبير وليس الى التخصيصات التي تعطى لمجلس المحافظة». أما أمانة بغداد فتؤكد أن فرقها رصدت قيام بعض اصحاب البيوت التراثية القديمة بهدمها وتحويلها الى بيوت «عصرية» أو بيعها الى أشخاص آخرين، وتبرر هذه الأفعال بـ«عدم بناء وحدات سكنية عمودية او أفقية من قبل الجهات الحكومية خلال الفترات السابقة»، ولكنها أصدرت قراراً بمنع هدم البيوت التراثية. أما وزارة السياحة والآثار، وهي أكثر الجهات المعنية بهذا الأمر، فأعلنت مطلع العام الجاري عن صيانة وتأهيل أربعة دور تراثية (فقط!) في إطار الاستعدادات لإعلان بغداد عاصمة للثقافة العربية، مكتفية بمطالبة وزارة الثقافة وأمانة بغداد بالعمل على «إنقاذ ما يمكن إنقاذه من شارع الرشيد».
وإذا ما كانت هذه الأماكن مهملة، ويتم إعدامها من قبل سماسرة فساد جدد، فإن سوق الشورجة، والتي كانت تعرَف بسوق العطارين أيام العصر العباسي، تنتهكها السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة، بالرغم من تحويلها إلى ثكنة تخنقها الكتل الكونكريتية التي يرتفع بعضها إلى ثلاثة أمتار على جانبي الطريق، فضلاً عن حرب «التماسات الكهربائية» التي يمارسها التجّار على بعضهم البعض، ما تسبب بحرائق متكررة التهمت ما تبقّى من السوق.
أما سوق الغزل، والتي كانت تُعرف ببيع القطن والصوف قبل قرن من الآن، وتحوّلت بعد ذلك إلى سوق تختص ببيع الحيوانات الأليفة، فقد تعرّضت على مدى الأعوام السابقة إلى نحو 5 تفجيرات، ما دفع أمانة بغداد إلى ترميم محالّها، إلا أن الحارات الملاصقة لها باتت الرطوبة والإهمال تأكل ذاكراتها.
وتحوّلت منطقة البتاويين، التي كانت تسكنها أغنى عائلات التجار اليهود والمسيحيين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، إلى مركز لبيع الممنوعات والخمور المغشوشة، فضلاً عن تحوّل بعض منازلها إلى بيوت دعارة تقدّم أجساد نساء عليلات، وصارت أيضاً مركزاً في النهار لمذاخر بيع الأدوية التي يلتقي نشاط بعضها مع نشاط تجار الممنوعات في المنطقة، حيث تشارك بتزويدهم بكميات من الحبوب المخدرة وحبوب الهلوسة التي تدخل العراق عبر بعض دول الجوار.
شارع الرشيد يبدو الآن هرماً آيلاً للسقوط، والقلعة التي كانت تتربع على بدايته أصبحت أثراً بعد عين، لكن الجاموسة التي اقتحمتها في عشرينيات القرن الماضي، توالدت وتكاثرت، وأصبحت قطيعاً من الجواميس. الفارق هو أن هذا القطيع يسرح ويمرح من دون أن تجرؤ قوات الشرطة على إطلاق النار عليه، ومن دون أن يجرؤ أحد على محاسبة مالكيه، لأن هؤلاء هم ببساطة من أحزاب السلطة، وبقدر ما هم مسؤولون عن الخراب، فهم فوق القانون.