مطلع الخريف، احتفلت وزارة الكهرباء العراقية ببلوغ إنتاجها ما يكفي لسد حاجة البلد، واستمرار التيار على مدى 24 ساعة في اليوم دون انقطاع. كان على رأس من حضر الاحتفال الكبير الوزير ومعاونوه. العراقيون أيضاً كانوا سعداء بهذا الإنجاز، وسرعان ما انطلقت في الصحف المحلية والقنوات الفضائية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي حملات التوعية بوجوب ترشيد استهلاك الكهرباء في المنازل. ومع هطول أوّل زخات المطر، عاد التيار الكهربائي إلى سابق عهده من الانقطاعات غير المبرمجة، بل انه قُطع عن بعض المناطق ليومين متتاليين. وما فات على الوزارة، أو ما أرادت أن تفوّته على نفسها، هو ان طقس الخريف معتدل ولا يستوجب استخدام أجهزة التكييف أو المدافئ، ما يعني أن استهلاك الكهرباء يكون في أدنى مستوياته مقارنة بالصيف وبالشتاء. عند أول إطلالة للمطر والبرد، عادت الى الواجهة مجدداً مقولة رئيس مجلس الوزراء عن "فشل وزارة الكهرباء"، وعاد العراقيون إلى لعبة الانتقال من ربط التيار في البيوت بين الكهرباء "الوطنية" وكهرباء المولدات الأهلية الكبيرة الموزعة في الأحياء السكنية، والتي تثقل كاهل المواطن بأسعارها المرتفعة، المصحوبة بتلّوث بيئي مرتفع هو الآخر.
تلوّث منظَّم!
ثلاثة عوامل رئيسية تساهم بازدياد عنصر الرصاص في الهواء إلى أضعاف معدله الطبيعي، وكل منها مرتبط بوزارات تحاول دفع التهم عنها بشتى الحجج والوسائل. العامل الأول هو غياب الطاقة الكهربائية النظامية ("الوطنية") الذي يؤدي إلى تشغيل المزيد من المولدات الأهلية الكبيرة (في كل منطقة هناك مولدات كبيرة ومتعددة تجهز المنازل بعدد من "الامبيرات" حسب حاجة تلك المنازل وقدرة أصحابها المالية، وتتفاوت أسعارها من منطقة لأخرى)، إضافة الى المولدات المنزلية الصغيرة التي لا يخضع أغلبها "للجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية"، وهو الجهاز الرقابي المكلّف بمتابعة المواد المصنّعة والمستوردة. ولا يُعرف عدد هذه المولدات الصغيرة، وجميعها تعمل بمادة "الكازاويل" أو البنزين الذي ينتج من احتراقه بروميد الرصاص المنبعث من عوادمها، والذي يعتبر شديد السُميّة ومن أكبر ملوثات الجو والتربة.
أما العامل الثاني، فيتعلق بما تستورده وزارة النفط من وقود فيه نسبة عالية من الرصاص، خصوصا مادة البنزين، بحيث إن الرصاص المنبعث من عوادم السيارات يُعد الأكثر خطورة بسبب بقائه معلقا في الاجواء لمدة طويلة. وتتفاقم الخطورة مع ازدياد عدد السيارات المستخدمة في العاصمة وفي المحافظات الأخرى نتيجة رفع "الضريبة الجمركية" على استيراد السيارات، وعدم خضوعها للسيطرة النوعية والمواصفات العالمية (يبلغ عدد السيارات الخاصة في عموم العراق نحو 3501380 وتستعمل حوالي 89.2 في المئة من هذه السيارات البنزين).ويرتبط العامل الثالث بوزارتي النفط والداخلية معاً.فمديرية المرور لم تنظّم عمل المركبات القديمة المخالفة للبيئة، ولا تأخذ على محمل الجد حالة السيارات التي تعاني من التبخير العالي في عوادمها. وقد وضعت هذه الفوضى العراق في شباط/ فبراير من العام الماضي في أسفل قائمة الدول التي تهتم بالبيئة في دراسة لجامعتي ييل وكولومبيا في الولايات المتحدة.
البيئة والصناعة.. نداء بلا صدى
وزارة البيئة التي تحذّر منذ أعوام من خطر تلوّث الأجواء في العراق، ومن ازدياد الملوثات بسبب المطامر غير الصحيّة، وعوادم السيارات، والتباطؤ في تشجير حزام بغداد، فضلاً عن دعوتها لأكثر من مرّة إلى عدم استيراد مادة رابع اثيلات الرصاص التي تدخل في عملية تكرير الوقود... إلا انها دائماً ما تواجه بتبريرات أو بتكذيب من قبل المؤسسات المسؤولة عن التلوث، أو صمتها، ما دفعها إلى دقّ ناقوس الخطر بإعلانها وصول معدل الرصاص في أجواء العراق الى أكثر من عشرة أضعاف الحد الطبيعي المسموح به. لكن صوت ناقوسها بدا خافتاً مع إهمال الحكومات المحلية في المحافظات، والوزارات المسؤولة عن التلوّث، لهذه المخاطر، فلم يتعد التحذير أكثر من أخبار تناثرت على صفحات الصحف المحلية.وفي الوقت الذي اعتقدت فيه وزارة البيئة أنها تخوض وحدها في قضيّة الدفاع عن البيئة، سارعت وزارة الصناعة والمعادن في أيلول/ سبتمبر الماضي إلى نشر دراسة تؤكد المخاطر ذاتها التي أكدتها وزارة البيئة. إلا أن القضية لم يلتفت إليها أحد.وبحسب وزارة الصناعة، فإنه تم اكتشاف موقعين يعدّان من الأسباب الملوّثة للبيئة، إلا أنه لم تتم معالجتهما، على الرغم من الدعم المالي المقدم من برنامج "اليونيب" التابع للامم المتحدة لتنظيف أحدهما. بمقابل هذا، تقرّ وزارة التخطيط العراقية بـ"غياب القطاع الخاص عن مسرح المشاركة في الفعاليات البيئية على الرغم من الاعلان المتكرر بكونه أحد اللاعبين الرئيسيين في إرساء أسس التنمية المستدامة في العراق".
الأمراض المتفاقمة.. بلا إحصائيات
ازدياد معدّل الرصاص في الجو يعني، من بين ما يعنيه، ازدياد حالات السرطانات (سجّل العراق حوالي 42 ألف حالة من عام 2007 وحتّى عام 2009 في جميع المحافظات ما عدا كردستان) وحالات التهابات الاعصاب المحيطة، وتأخر المشي عند الأطفال، وخللا في نمو الاستيعاب في بعض الحالات.
وزارة الصحة في بغداد لا تملك أيّة إحصائية بشأن هذه الأمراض كما هي العادة في كل الأمراض التي تكون الحكومة سبباً في انتشارها. لكن تصريحات أطباء متفرقة، وتحقيقات صحافية، تبيّن أن لهذه الظاهرة مرضاها الذين يقتلهم الصمت والفقر والتواطؤ الحكومي، حيث يكشف تحقيق استقصائي في بغداد موّلته "المفوضية الأوروبية" عن قصص عائلات كاملة تعيش خطر تأثيرات الرصاص، وبحسب التحقيق فإن "تأخر المشي عند الأطفال في العراق ظاهرة تزداد انتشاراً نتيجة تصاعد معدلات انتشار الرصاص في الجو"، ويشخّص طبيب في البصرة حالتين يومياً من تأخر المشي بسبب فقر الدم والتهابات الاعصاب المحيطة.وبحسب الأطباء، فإنه غالباً ما يتم اكتشاف تلوّث دم الأطفال بالرصاص عبر تحليل "blood film"، ولا تتوافر المواد المستخدمة في هذا التحليل في معظم المحافظات، الأمر الذي يستدعي ذهاب المرضى إلى العاصمة. لكن فقر بعضهم، وإهمال البعض الآخر، يجعل علاجهم صعباً.قد لا تكون محض مصادفة أن يموت العراقي الناجي من رصاص المسدسات الكاتمة والبنادق، بالرصاص المنبعث من عوادم السيارات ومولدات الطاقة الكهربائية. فـ"الرصاصان" من إنتاج "الفشل الحكومي"، وهما بالتناوب يفتكان بحياة العراقيين.. كل بطريقته الخاصة.