أطفال العراق.. يوميات مهن القسوة

في تسعينيات القرن الماضي، كان تلفزيون «الشباب» الذي يملكه ابن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، يكشف عن فصام الواقع العراقي. ففي الوقت الذي كانت تمتلئ فيه الشوارع العراقية بعمالة الأطفال وهم يمارسون مهناً قاسية، كانت شاشة «الشباب» كل جمعة، تقدّم برنامج مسابقات تصور العراق على أنه مكان رحب للأطفال. كان هذا فصام يوميات عادية ومكرورة، بعد دخول نظام صدّام حسين في حروب
2013-12-11

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
ياسر ياسين (9 سنوات) يعمل في كاراج للسيارات في بغداد (تصوير سعد شلش - رويترز)

في تسعينيات القرن الماضي، كان تلفزيون «الشباب» الذي يملكه ابن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، يكشف عن فصام الواقع العراقي. ففي الوقت الذي كانت تمتلئ فيه الشوارع العراقية بعمالة الأطفال وهم يمارسون مهناً قاسية، كانت شاشة «الشباب» كل جمعة، تقدّم برنامج مسابقات تصور العراق على أنه مكان رحب للأطفال. كان هذا فصام يوميات عادية ومكرورة، بعد دخول نظام صدّام حسين في حروب عبثية لم تنتهِ حتى الإطاحة به.

سنوات الحصار.. قتل جيل
وفي التسعينيات، إثر اتساع رقعة الفقر نتيجة العقوبات الدولية المفروضة على العراق (نسبة الفقر المطلق بلغت 40 في المئة)، أخرجت العائلات أولادها من المدارس ودفعت بهم إلى ساحات العمل. كان سن 13 عاماً كافياً لان يعمل الطفل في أشد المهن صعوبة، معامل حديد ونجارة وتصليح سيارات ومطاعم ومساعد سائق سيارة في الكراجات.
كانت بغداد تغصُّ بعمالة الأطفال كما المدن الاخرى، وكان النظام وقتها يتذرع بالحصار الذي فرضه مجلس الأمن الدولي على العراق، ويغض الطرف عن هذه العمالة، بالرغم من أن صدام حسين، كان يحتفل بعيد ميلاده السنوي في 28 نيسان، بقالب «كيك» يمتد لخمسين متراً أحياناً، ويتم تقطيعه بسيف من ذهب، فضلاً عن استمراره ببناء القصور الفارهة والجوامع الكبيرة التي تسمّى باسمه.
ولا تتوفّر عن تلك الفترة احصائيات دقيقة عن حجم العمالة الحقيقية للأطفال، إلا أنه في نهاية حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران، كانت النسبة مرتفعة، حيث سجل العراق العام 1987 عمالة بلغت 442349 طفلاً، وبلغت نسبة الذكور منها 91.7 في المئة والإناث 8.3 في المئة. ولاحظت دراسات، منها دراسة لجامعة بغداد العام 2002، ارتفاع نسبة عمالة الأطفال إلى أضعاف هذا الرقم، مستنتجة ذلك من انخفاض معدّل الالتحاق بالتعليم الأساسي والثانوي. وبحسبة بسيطة يتبين أن الحرب العراقية الإيرانية خلّفت حوالي مليون شهيد (وفق إحصائيات غير مؤكدة وارقام متضاربة احياناً)، وتَرك هؤلاء الشهداء أيتاماً مع أمهاتهم من دون معيل، وبرواتب تقاعدية لا تكفي لسد تكاليف ربطة خبز يومية، مما اضطر أغلب الأطفال الى النزول إلى سوق العمل وقتذاك، لسد الحد الأدنى من احتياجات أسرهم.

متسوّلون على سجادة الذهب الاسود
بعد الغزو الأميركي للعراق العام 2003، بدا أن الشخصيات السياسية والأحزاب التي أعقبت نظام صدام حسين، لم تحمل في جعبتها أجندة لحلِّ الأزمات المتفاقمة التي خلّفتها حروب سلفهم. لكن الظروف المعيشية، واتساع رقعة الموت التي خلّفت جيشاً من الأرامل واليتامى (تقدر الأمم المتحدة عدد الأيتام بـ5 ملايين و700 ألف طفل، وعدد الأرامل بـ3 ملايين امرأة)، فضلاً عن أن ربع سكان العراق يعيشون دون خط الفقر، وهناك 5 في المئة من العراقيين هم في مستوى الفقر المدقع...
كل هذا أدى إلى ازدياد نسبة عمالة الأطفال بحسب ما يؤكد أساتذة علم الاجتماع في جامعة بغداد. وقد تطوّرت العمالة واندمجت مع التسوّل في بعض الحالات، إذ ينتشر في العاصمة بغداد اليوم مجموعة أطفال يحملون علبة حلوى وهم يتوسلون المارّة شراء قطعة واحدة، إلا أن أغلب المارّة يقوم بمنح هؤلاء النقود من دون شراء الحلوى.وفي العام 2006، وهو العام الذي شهد اندلاع الاقتتال الأهلي في العراق، أجرى الجهاز المركزي للإحصاء مسحاً عنقودياً عن أحوال عمالة الأطفال، اعتمد على ورقة استبيان لربّات المنازل، وخلُص المسح إلى أن طفلاً واحداً من بين كل تسعة أطفال بعمر 5 الى 14 عاماً يعمل، وأن هؤلاء يشكلون نسبة 11 في المئة من أطفال العراق، وأن 2 في المئة من هؤلاء يشاركون بأعمال غير مدفوعة الأجر لحساب شخص من غير أفراد الأسرة، فضلاً عن أن نسبة 2 في المئة أيضاً تشارك في الأعمال المنزلية لمدة 28 ساعة أو أكثر خلال الاسبوع.وترتفع نسبة الاطفال العاملين في المناطق الريفية إلى 18 في المئة فيما تبقى نسبة الأطفال العاملين في المناطق الحضرية بحدود 6 في المئة.
ويظهر المسح أن الأطفال الذين يعملون هم أقل ميلاً للاستقرار في التعليم، وبلغت نسبة المستمرين في التعليم منهم 10 في المئة بينما تبلغ نسبة الأطفال المتسربين من المدارس 14 في المئة. وتقلّ نسبة تشغيل الأطفال في العراق كلما ارتفع مستوى تعليم الأم.وظلّت هذه الدراسة يتيمة، إذ لا يعرف أحد اليوم نسبة عمالة الأطفال بدقة في البلاد، رغم أن العراق يوصف دوماً بـ«الدولة الفتية» لجهة نسبة الفتية مقارنة بالعدد الإجمالي للسكان، إذ وبحسب صندوق النقد الدولي، يبلغ من هم دون سن الرابعة عشرة ما نسبته 40 في المئة من السكان البالغ عددهم 32 مليون نسمة (بينما نسبة من هم فوق الـ65 عاماً لا تتجاوز الثلاثة في المئة). لكن الأطفال والشباب يعانون العوز والفقر في بلد يوصف بأنه سجادة الذهب الأسود، لما يمتلكه من ثروات نفطية.

موت تحت أضواء الكرنفال
في تشرين الأوّل الماضي، افتتح رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي المدينة الرياضية في البصرة. وكان قربان الافتتاح شاباً لم يتجاوز عمره 16 عاماً وكان يعمل لمصلحة إحدى شركات الألعاب النارية. سقط الشاب من على سقف الملعب إلى المدرّجات ومات.
لم يحرك أي من المسؤولين الحاضرين في الافتتاح وقتها ساكناً، بالرغم من علمهم بالحادثة، ولم يبادر كبار المسؤولين للإيعاز بوقف الاحتفالية. ألقى المالكي ومن رافقه كلماتهم، ولعبت أربعة فرق كرة قدم أشواط مبارياتها وكأن شيئاً لم يكن، حتى أن لجنة تحقيق لم تتشكل للتحقيق بطبيعة عمل هذا الشاب الذي يحظر القانون العراقي النافذ عمله بسبب صغر سنه.هذه الحادثة المروّعة التي جرت أمام أنظار رئيس الوزراء وعدد كبير من المسؤولين، تختزل شكل العلاقة بين الدولة العراقية الجديدة ورعاياها من الأطفال الذين يفترض أنهم سيكونون «بناة المستقبل».
السلطات العراقية تكتفي بإطلاق الوعود من دون أن تقدم على تنفيذها. رواتب الأرامل والايتام مجرد أرقام باهتة لذر الرماد في عيون الناخبين، فمبالغها لا تكفي لسد رمق العوائل لبضعة أيام (تتسلّم الأرملة مبلغ 100 دولار شهرياً)، كما ان وعود منح الطلبة رواتب شهرية (25 دولاراً) لسد احتياجاتهم بقيت رهن المناكفات البرلمانية، لتلحق بوعود صرف مبالغ نقدية بدل مفردات الحصة التموينية التي تتآكل شهراً بعد آخر.
أطفال العراق هم ضحية هذا الواقع المأساوي، وأعداد المتواجدين منهم على الأرصفة وعند إشارات المرور في الشوارع المزدحمة، وفي ورش العمل الشاقة تزداد، حيث من المحتمل أن يكون البلد الأول في الشرق الأوسط من حيث إتساع مساحة الأمية (26 في المئة من الشباب أميين، بحسب «منظمة تكوز للتنمية»)، ناهيك عن كونه أرضاً خصبة لاصطياد الشباب الصغار وزجهم ضمن المنظمات الارهابية وشبكات تجارة الممنوعات، مثل الاتجار بالرقيق والأعضاء البشرية والمخدرات. إنه بلد لا يعلم أحداً الى أين يسير.

مقالات من العراق

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...