حوّل القائمون على بغداد شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري إلى بائع قهوة، وحوّلوا شجرة عيد الميلاد إلى ناموسية كبيرة، فيما حوّل القائمون على محافظة البصرة الحريّة إلى باذنجانة كبيرة محاطة ببضعة أحصنة. نام العراقيون وصحوا ليجدوا كل المفاهيم قد تغيّرت في المنحوتات والتماثيل التي غطّت الشوارع منذ أربعينيات القرن الماضي.
صدمة كبيرة أصابت المثقفين والمعنيين بالفن التشكيلي، مثلما أصابت الذوق العام بالذهول. لم تعد هناك لجان متخصصة لوضع النُصب والتماثيل في الشوارع العراقية، بل أصبح الأمر رهناً بذائقة القائمين على المدن، وهي ذائقة متدنية حد نشر أعداد من تماثيل البلاستك الصينية القبيحة في شوارع وساحات عراقية شهدت فيما مضى ميلاد اعمال نحتية كبيرة لفنانين عراقيين معروفين عربياً وعالمياً، مثل جواد سليم وخالد الرحال ومحمد غني حكمت وغيرهم الكثير.
الجواهري «قهوجي»
في المركز الثقافي الذي يقبع في نهاية شارع المتنبي وسط بغداد، قامت محافظة بغداد بنصب تمثال للشاعر العراقي الذي عاش في المنافي بسبب مقارعته لنظام صدّام حسين. أصبح الجواهري نكتة مُرّة يتداولها المثقفون والعامة وعائلة الشاعر. حفيدة الجواهري وجدت تاريخ جدّها ينهار أمامها مرة واحدة. لم يلتفت أحد في محافظة بغداد إلى تاريخ الرجل الثقافي والشعري.
اعتمدت المحافظة على نحات بسيط لا يعرف عن الجواهري ودجلته شيئاً. بخلطة غريبة وضع النحات تمثال الجواهري المصنوع من مادة شبيهة بالبلاستيك وسط بركة مياه خضراء تساقطت الأصباغ التي طليت بها في حفل رفع الستار عن التمثال. ولم يكتفِ النحات بكل هذا القبح، فأحاط التمثال بعدد من دلال قهوة مختلفة الأحجام. رأس التمثال معوّج، والدِلال التي زادت المشهد سخرية وقبحاً أكثر اعوجاجاً.سارعت عائلة الجواهري إلى المحافظ من أجل تعديل النصب الذي أساء إلى تاريخ الرجل المدفون في مقبرة الغرباء في حي السيدة زينب بدمشق.
بغداد اغتالت الجواهري مرتين، مرة حين دفعت به للعيش في الغربة بعيداً عن «دجلة الخير»، والأخرى حين صنعت له تمثالاً هزيلاً لا يليق بتاريخه.
وعد المحافظ بتعديل التمثال وإزالة الدِلال والفناجين من حوله، حتّى لا يصبح بائع قهوة عربيّة بعد موته.
شجرة «ناموسية»
وفي ساحة الفردوس وسط بغداد، وهي الساحة الأكثر شهرة على الإطلاق بسبب إسقاط الجيش الأميركي تمثال صدّام حسين منها بطريقة هوليودية، إيذاناً بانتهاء عصر الدكتاتورية، وضعت شجرة لعيد الميلاد. انتبهت الحكومة أخيراً للأقليّة المسيحية التي تعاني التهجير (هاجر أكثر من ثلثي المسيحيين من العراق).
الساحة التي كانت تحتضن في سبعينيات القرن الماضي نصب الجندي المجهول، ومن ثم احتضنت تمثالاً كبيراً لصدام حسين، ظلّت على مدى الأعوام العشرة الماضية خاليّة من أي نصب يليق برمزيتها. جاءت أمانة بغداد بأنبوب طويل، وغطّته بقماش «ناموسية»، وهكذا ولدت الشجرة التي من المفترض أن يلتف العراقيون حولها في احتفالات رأس السنة: بضعة مصابيح كهربائية وقماش أخضر مغبر وأنبوب صدئ. بهذا الاستهتار يعاد الاطمئنان إلى المسيحيين الذين شهدت احتفالاتهم بأعياد ميلاد السيد المسيح يوم 25 كانون الأول / ديمسبرالماضي استهداف ثلاث من كنائسهم.
الحرية «باذنجانة»
أما البصرة فقد انغمست بنعيم «الحرية» حدّ السخرية. كلّفت الحكومة المحليّة شركة زراعية بإقامة نصب للحريّة بكلفة 7 مليارات دينار (نحو 6 ملايين دولار!!)، وبعد طول انتظار، ظهر النصب على هيئة تشبه باذنجانة كبيرة تحيطها أحصنة مستوحاة من ألعاب مدن الملاهي. عبّرت البصرة التي تحكمها أحزاب اسلامية عدّة عن الحريّة بشكل حقيقي. الحياة هناك ليست أكثر من أحصنة هاربة من زمنها، وباذنجانة تزرع الأمل بسد جوع سكان المحافظة التي توصف بـ«بقرة العراق الحلوب»، كونها تستخرج وتصدر نحو 90 في المئة من نفط العراق.معركة صامتة دارت في شوارع بغداد والبصرة، لم تفرق بين الدلالات السياسية والدلالات الجمالية للنصب والتماثيل التي انتشرت قبيل الغزو الاميركي للعراق في نيسان/ابريل 2003 وهيمنة الأحزاب الإسلامية على المشهد السياسي في البلد. لم تكن التماثيل التي تمجِّد نظام صدام حسين هي الوحيدة التي تعرضت للتدمير والإزالة، بل طال التدمير تمثال ابي جعفر المنصور الذي كان منتصباً في أرقى مناطق كرخ بغداد، والتي كانت ولا تزال تحمل اسم الخليفة العباسي. تمثال الطيار عبدالله لعيبي الذي كان منتصباً أمام قيادة القوة الجوية في ساحة الفتح أزيل عن بكرة أبيه، مثلما أزيلت عشرات التماثيل التي كانت ترمز إلى فصول من الحرب العراقية الايرانية 1980- 1988 من على كورنيش شط العرب في البصرة.
لكن الموقف الأكثر مرارة في هذا الأمر هو سرقة تمثال رئيس الوزراء العراقي المنتحر نهاية عشرينيات القرن المنصرم عبد المحسن السعدون في وضح النهار، وبيعه ككتلة من النحاس بعد أيام على دخول الاحتلال، على الرغم من انتصابه على قاعدة بارتفاع ستة أمتار في ساحة النصر في قلب العاصمة بغداد.
بغداد بلا جمال
بغداد خلت من رموزها الفكرية والعلمية والابداعية التي تعرضت للقتل أو التهجير، وخلت أيضاً من رموزها الجمالية المتمثلة بالنصب والتماثيل التي تعرضت للتدمير والإزالة أو للاهمال كما هو حال نصب الحرية، النصب الأهم كما يصفه نقاد الفن التشكيلي، أو جدارية فائق حسن التي طالتها يد الخراب بعيداً عن الرقابة أو الإدامة التي من المفترض أن تكون الشغل الشاغل لوزارة الثقافة العراقية. هناك حفنة منحوتات بلاستيكية بشعة تربعت على أضلع الساحات والشوارع في العاصمة بغداد، وتوجت بتمثال للمتنبي يشبه مسخاً لا صلة به بالشاعر لا من بعيد ولا من قريب. انه العراق الجديد،الذي أنهى عامه احتفالاً بـ«بغداد عاصمة للثقافة العربية».